مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات محكمة

فقه العمليات في التراث الفقهي المغربي فقه الشركات ومتعلقاتها نموذجا(8)

 3-مسألة الخماس:

تعتبر مسألة الخماس من القضايا المتصلة بالعمل المذكور قبلها أي إجازة التفاضل في شركة الحرث، وصورتها حسب من تكلم عنها من العلماء وكما هو مشاهد في واقع الناس، أن يتولى أحد الشريكين إخراج جميع ما يلزم من أرض وبذر وبقر وآلة، بينما لا يساهم الشريك الآخر إلا بعمل يده ولا شيء سواه، على أن يكون للعامل جزء معين من المحصول كالخمس([1])، وما تبقى فلشريكه الآخر.

وقد كانت هذه المسألة مثار استشكال عند العلماء، ووجه الإشكال فيها أن الخماسة دائرة بين الإجارة والشركة، بل إنها لم تستكمل عناصر كل واحدة منهما، فلا هي بإجارة صحيحة للجهل بقدر الأجرة، والجهالة توجب فساد الإجارة، ولا هي كذلك من قبل الشركة الصحيحة للتفاوت البين بين الشريكين فيما أخرجاه؛ إذ الشركة تقتضي الاشتراك في الجميع أصولا وأرباحا، ينضاف إلى ذلك اشتمالها على الغرر وخاصة إن أصابت الزرع جائحة من الجوائح.

قال الشيخ سيدي عبد الواحد ابن عاشر مقررا وجه الإشكال في الخماسة انطلاقا مما هو متداول عند أهل فاس: «أما مسألة شركتنا بفاس فلم تجر على طريق واحد، فليست شركة لأن الشركة تقتضي الاشتراك في كل شيء، والعامل عندنا لم يعط شيئا من المال لا زريعة ولا غيره، والشريك يأخذ جزءا من الربح بكماله وعندنا لم يأخذ جزءا من التبن، فقويت فيه الإجارة، ولم تجر على الإجارة إلى طريق؛ لأن الإجارة لا بد أن تكون بشيء معلوم، وهذا لا يدري هل يأخذ وسقا أو عشرة، وقيل فيها غير هذا»([2]).

وقد حصل ابن رشد في مسألة الخماس أوجها ثلاثة مستفادة من جوابه المنقول في المعيار ونصه: «وسئل ابن رشد عمن أخرج الأرض والبذر والبقر، وأخرج الآخر العمل على أن يكون له الربع وللآخر الثلاثة الأرباع، هل تجوز أم لا؟

فأجاب: مسألة الشركة هذه على ثلاثة أوجه: إما أن يعقداها بلفظ الشركة فيجوز، أو بلفظ الإجارة فلا يجوز، وإن لم يسميا شركة ولا إجارة ويقول أدفع إليك أرضي وبقري وبذري، وأنت تتولى العمل ونحوه ويكون لك الربع أو الخمس أو نحوه، فحمله ابن القاسم على الإجارة فلم يجزه، وحمله سحنون على الشركة فأجازه. وإلى الأول ذهب ابن حبيب، هذا تحصيلها عندي، ومن أدركت من الشيوخ لا يحصلونها ويحكون الخلاف إجمالا وليس بصحيح»([3]).

وتظهر فائدة ترتيب جواز الخماسة على شرط انعقادها بلفظ الشركة في استحضار المتعاقدين للضوابط المرعية في الشركة، كالاتفاق على كون البذر على ملكهما معا، لكن المتأمل في التعامل الجاري بين الناس في شأن الخماسة، يجده مبنيا على معنى الإجارة حتى ولو انعقد في ظاهر الحال بلفظ الشركة، ودليل ذلك تعارفهم على عدم أخذ الخماس حظه من التبن، وهذا ما يفسر إدراج الناظم سيدي عبد الرحمن الفاسي مسألة الخماس في باب الإجارة وعبر عنها بأجرة الخماس وليس شركة الخماس. قال في عملياته:

وأجرة الخماس أمر مشكل وللضرورة بها تساهل([4])

وهكذا فإن من أفتى بمنع الخماسة من الفقهاء، كان عمدته في ذلك تغليب معنى الإجارة فيها كالفقيه أبي عبد الله الهنتاتي حيث جاء في المعيار ما نصه: «وسئل الفقيه القاضي أبو عبد الله ابن شعيب بن عمر الهنتاتي الهسكوري -رحمه الله– عن مسألة الخماس بجزء مسمى مما يخرج من الزرع هل يجوز أم لا؟ وهل ينهض عذرا في إباحة هذه الرخصة تعذر من يدخل على هذه الأجرة أم لا؟

فأجاب: الإجارة بيع من البيوع يحلها ما يحل البيع ويحرمها ما يحرم البيع، وحقيقتها ترجع إلى بيع منافع إلى مدة، والبيع يرجع إلى بيع منافع على جهة التأبيد، والمبيع في الصورتين المنافع، والمنافع هي محلها لا تختلف في شيء من ذلك، فكما لايجوز بيع الزرع قبل أن يخلق فكذلك لا تجوز الإجارة به، ولا فرق إلا وقوع أحدهما ثمنا والآخر مثمونا، ثم ذكر أن لاشيء ينهض عذرا في الترخيص في مسألة الخماس وإباحة الممنوع، وإنما فشا التعامل بها لتساهل أهل العلم وعدم حمل الناس على جادة المذهب».([5])

والأمر نفسه نستخلصه من جواب أبي علي القوري حيث جاء فيه: «أما الخماس فلا يجوز إلا إذا كان بمعنى الشركة، وتكون قيمة عمله بقدر الجزء الذي له ويكون له، وعليه من جميع ما يتعلق بالشركة جزؤه، فذلك جائز، وله حينئذ حظه من كل ما يكون في الزرع دون شريكه. والمستعمل منه اليوم بين الناس غالبا ما لا يجوز لكونه آجر نفسه بشيء مجهول»([6]).

والحاصل مما ذكر أن لمسألة الخماس في المذهب صورتين هما:

– الصورة الأولى ولها وجهان: وجه الجواز إذا استجمعت شرائط الشركة وترجحت فيها معانيها، بدليل أن إجازة سحنون مبنية على حصول الاشتراك في البذر بين المتزارعين، أو أن صاحب العمل يخرج البقر أيضا كما أشار إليه ابن عرفة([7])، ووجه المنع وذلك إذا تمحض فيها معنى الإجارة الفاسدة.

– الصورة الثانية وتتشكل من العناصر التالية:

أ-اختصاص أحد المتزارعين بالعمل وحده، ولا يساهم بالبذر أو غيره.

ب-اختصاص الشريك غير العامل بالتبن ولا شيء لشريكه العامل.

ج-اشتمالها على الرفد وهو ما يشترطه الخماس على شريكه من الزيادة على الجزء المستحق، كالطعام والملابس.

والصورة الثانية بعناصرها المذكورة هي التي جرى العمل بجوازها بالقيروان للضرورة الملجئة إليها. قال صاحب العمل المطلق:

ورخصوا في شركة الخماس بالقيروان لاضطرار الناس
مع نفـعه العاجـل بالتـزام شيء له كالثوب والطعـام
وذا الـذي عليـه الـعمـل بقطرنـا ومـا سواه مهمل

وممن أفتى بجوازها للضرورة أبو عبد الله محمد الرماح، وتبعه في ذلك أبو محمد عبد الله الشبيبي([8])، وبفتواهما جرى العمل، قال السجلماسي: «فعلى فتوى هذين الشيخين الجليلين عول الناس في عملهم»([9]).

وإذا كان العمل المذكور يتوجه بالضرورة إذ كانت أقوى مستند في القول بالجواز، فإن هناك مؤيدات أخرى يمكن توجيه هذا العمل بها كما هو لائح من نقول العلماء فيها، من ذلك:

– ما سبق أن أشرنا إليه من جريان العمل بجواز التفاضل في المزارعة بناء على مذهب عيسى بن دينار، خاصة وأن الخماسة متأرجحة بين الشركة والإجارة، بل إن المانعين لها غلبوا فيها معنى الإجارة فحكموا بفسادها، كما أن العمل بجواز التفاضل مما لوحظ فيه مراعاة القول بتغليب الإجارة في المزارعة، فيتحصل الجواز في الخماسة بناء على الأصل العملي المذكور. وهذا المعنى أشار إليه البرزلي بقوله: «ووقعت هذه المسألة في القيروان قديما وحديثا فكان شيخنا أبو محمد الشبيبي رحمه الله يحكي عن الرماح أنه إذا استأثر بشيء زائد غير داخل في الشركة مثل الثوب والطعام ونحوه، أن في المسألتين قولين بالجواز والمنع، ولا يفتي بالجواز ويجريها على مسألة الشركة هل يشترط فيها الاعتدال أم لا؟ وفي ذلك أقوال أربعة حكاها ابن رشد، رابعها قوله القياس على القول بتغليب الإجارة عليها ولزومها بالعقد جواز التفاضل بكل حال. ثم أباح ذلك شيخنا المذكور ورخص فيه وعمل به واشتهر العمل به عندهم، فلما قلدت الفتوى بالقيروان منعته على طريق ابن شعيب وأشياخنا بتونس، فضج عند ذلك الضعفاء وربما سمعت أنهم دعوا على منع ذلك. وكان الشيخ قد أجازه لضرورة الزمان لذلك، لكن تقدم أنه لا ينهض عذرا كما قال ابن شعيب. وأما فساد الخماسة بقطر تونس فسمعت أنهم يشترطون على الخماس أن لا يأخذ نصيبه من التبن، وأنه يخدم شريكه في حيوانه وحطبه واستقاء مائه وغير ذلك، وهو لا يتخرج جوازه إلا على ما ذكرناه»([10]).

– أن الخماسة بانبنائها على مقتضى الضرورة، تعد جائزة حتى ولو انعقدت بلفظ الإجارة، عملا بالقاعدة الفقهية التالية «لا يضر قبح اللفظ إذا حسن المعنى»، قال أبو الحسن التسولي: «وقال ابن يونس حسبما نقله البرزلي وغيره في المغارسة ما نصه: ولا فرق بين أساقيك وأواجرك ولا يضر قبح اللفظ إذا حسن العمل، ولم يفرق ابن القاسم بينهما وهو أصوب»([11])، ولأن معنى الإجارة هنا حقيقة مرجوحة ومعنى الشركة مجاز راجح، والقاعدة أنه إذا تعارضت الحقيقة المرجوحة والمجاز الراجح، قدم المجاز الراجح.([12])

– أن ما تشتمل عليه الخماسة من الأمور التي كانت مثار اعتراض المانعين، كاشتراط الخماس على رب الأرض إعطاء الثوب أو الكبش أو ما يصطلح عليه بالرفد، أو أن يشترط على الخماس شيء زائد على عمل الحرث([13])، وكذا ترك نصيبه من التبن، كلها أمور لا تفسد أصل الخماسة، لأنها مسائل تعارفها الناس في تعاملهم فيتعين المصير إلى ما يقتضيه العرف، ومعلوم أن العرف كالشرط مثلما أن العادة محكمة، قال السجلماسي مبينا خصوصية الخماسة بالمغرب ومباينتها لما تعارفه أهل إفريقية: «الأصل في ترك الخماس لأخذ نصيبه من التبن لم يكن شرطا وإنما كان اختيارا لعدم الاحتياج إليه، ولو طلبه مكن منه، فاستمر الناس على ذلك من غير اشتراط»([14]).

– أن انفراد الخماس بعمله دون شيء زائد عليه لا ينفي عنه صفة الشريك مثلما أنه لا يضفي عليه صفة الأجير، «بدليل مسألة من دفعت إليه رحى ماء يقوم عليها بجزء من غلتها، جعله الشيخ أبو الحسن شريكا اكترى بعض منافع الرحى ببعض منافع نفسه، فتكون المنافع كلها شركة بينهما، والغلة تكونت على ملكهما يقتسمانها على تلك التجزئة»([15]).

ومما يقوي معنى الشركة في الخماسة أنه لم يسمع قضاء كما قال السجلماسي: «بفسخ عقد المزارعة لموت الخماس كما هو الحكم في استيجار المعين، وإذا كان الأمر هكذا لم تدخل مسألة عرفنا في عموم نفي وجود قول بالصحة»([16]).

ومن هذه الاعتبارات مجتمعة، يتضح أن ما جرى به العمل في الخماسة، مبني على أسس في غاية القوة، وأن الفتاوى المتنزلة على مقتضاه في غاية الوجاهة.

قال الشيخ أبو علي بن رحال المعداني: «وقد تحصل أن الأمر في المزارعة خفيف، والحمد لله على اختلاف الأمة مع احتياج الناس لها غاية؛ إذ بها القوام لجميع الأنام، بل المزارعة جائزة على كل حال على ما هي عليه الآن عند الناس مع كون الخماس فيه أمور مخالفة لما قاله غير واحد من العلماء، ولكن الجواز مطلقا في مسألة هو الحق للضرورة الداعية لذلك، وبذلك أفتى غير واحد من المتأخرين (…)، وكل من يفسخ مسألة الخماس التي جرى بها العمل على ما هي عليه فهو مخطئ (…)، ولو كان في الخماس إعطاء الجلابية وغير ذلك مما جرت العوائد في البلاد فذلك كله لا يفسد مسألة الخماس للضرورة، والحاصل من ارتاب فلينظر العرب بالباب»([17]).

الهوامش:


([1]) الخمس هنا على سبيل التغليب وما جرى به العرف فقط، وإلا فقد يكون الجزء ربعا أو ثلثا أو غيرهما.

([2]) نقل هذا القول الوزاني في تحفة الأكياس ص 369، وانظر كذلك الأمليات الفاشية للقاضي العميري ص 280.

([3]) المعيار، 8/152.

([4]) انظر شرح السجلماسي لعمليات فاس، 1/368-369.

([5]) المعيار، 8/149.

([6]) نفسه، 8/150.

([7]) انظر المعيار 8/153، وشرح العمل الفاسي للسجلماسي 2/368.

([8]) أنظر شرح ابن ناجي على الرسالة 2/165، بهامش شرح زروق على الرسالة.

([9]) شرح العمل الفاسي 2/369، وتحفة أكياس الناس ص 371.

([10]) المعيار 8/149-150.

([11]) البهجة في شرح التحفة 2/359.

([12]) انظر تطبيقات قواعد الفقه عند المالكية من خلال كتاب البهجة في شرح التحفة، للصادق عبد الرحمن الغرياني ص 276.

([13]) بل جرى العمل على جواز اشتراط ما زاد على الحرث كالحصاد والدراس والتصفية. انظر البهجة 2/386، وفتح الجليل الصمد للسجلماسي ص 238، وشرح العمل الفاسي له 2/371.

([14]) فتح الجليل الصمد، ص 237.

([15]) نفسه، ص237-238.

([16]) نفسه، ص 238.

([17]) حاشية المعداني على شرح ميارة للتحفة 2/197، وانظر كذلك النوازل الكبرى للوزاني 6/583-584.

د. إدريس غازي

• خريج دار الحديث الحسنية ـ الرباط.
• دكتوراه في الدراسات الإسلامية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله ـ فاس، في موضوع: "أصل ما جرى به العمل ونماذجه من فقه الأموال عند علماء المغرب".
• دبلوم الدراسات العليا من دار الحديث الحسنية، الرباط، في موضوع: "المنهجية الأصولية والاستدلال الحجاجي في المذهب المالكي".
من أعماله:
ـ الشاطبي بين الوعي بضيق البرهان واستشراف آفاق الحجاج.
ـ في الحاجة إلى تجديد المعرفة الأصولية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق