مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات محكمة

فقه العمليات في التراث الفقهي المغربي فقه الشركات ومتعلقاتها نموذجا(14)

2- ما جرى به العمل في الشفعـة

1.2- الشفعـة في الكـراء

يعتبر الكراء من جملة البيوع المختصة بالمنافع، وبهذا الاعتبار يمكن تصور جريان الشفعة فيه وذلك من خلال الصور التالية:

أ– كون الشريكين مالكين للأصل على الشياع ثم يقوم أحدهما بكراء نصيبه.

ب– كون الشريكين مالكين لمنفعة الأصل على الشياع دون رقبته، ثم يعمد أحدهما إلى كراء حصته.

ج– كون الأصل مملوكا لواحد، ثم يكري لغيره حصة من الأصل المذكور مشاعة، ثم يقوم المكتري فيكريها بدوره لغيره.([1])

وقد وقع الخلاف في الشفعة في الكراء على قولين:

– أحدهما المنع وهو قول ابن القاسم وسحنون وأحد قولي مالك في المدونة، جاء في التهذيب ما نصه: «وإذا اكترى رجلان دارا بينهما فلأحدهما أن يكري حصته، قال مالك رحمه الله: ولا شفعة فيه لشريكه بخلاف البيع»([2])، وقد نص ابن ناجي في شرح المدونة على مشهورية القول بعدم الشفعة في الكراء، وهو الذي اقتصر عليه خليل في مختصره([3])، كما اقتصر عليه صاحب التحفة حيث قال:

والخلف في أكرية الرباع والدور والحكم بالامتناع([4])

وعلى هذا القول تتنزل فتوى أبي سالم اليزناسني التي وردت في المعيار ونصها:

 «وسئل القاضي أبو سالم اليزناسني عن الشفعة في الكراء، فأجاب: بأن لا شفعة في الكراء، وهو الأصح رواية ونظرا. أما الرواية فلكونها في المدونة، وهي أصح الدواوين، وأما النظر فلأن الشفعة على خلاف الأصل لما كانت إخراج ملك عن مالك بوجه غير مستقيم، فلتقصر على الرباع أنفسها حيث ورد النص»([5]).

– والثاني القول بالجواز وهو ما ذهب إليه أشهب وابن نافع وابن كنانة وابن المواز وهو أحد قولي مالك.([6])

وبالقول بالشفعة في الكراء جرى العمل في المغرب والأندلس، وقد نظمه صاحب العمليات الفاسية فقال:

وشفعة الكرا الشفيع القائم وبيع صفقة بغير حاكم

كما ذكر الزقاق هذه المسألة في لاميته حيث قال عاطفا لها على المسائل التي جرى بها العمل بفاس:

كخط ووقف شفعة في تبرع كراء كذا غرم الرعاة قد انجلا

قال سيدي عمر الفاسي: «وأشار بقوله: كراء؛ إلى أن العمل جرى بالشفعة في الكراء، وفيها قولان ومذهب المدونة أن لا شفعة فيه (…) أبو الحسن: الشفعة في الكراء هو الصحيح، وهو قول أشهب وقاله ابن القاسم أيضا ورجحه ابن المواز، وبه جرى عمل القضاة»([7]).

وأورد السجلماسي هذه المسألة في العمل المطلق، لكن نص على أن القولين فيها جرى بهما العمل حيث قال في النظم:

ومثل مـا سبق شفعة الكرا فيها بقولين القضـاء قد جرى

وقال في الشرح: «اختلف في الشفعة في الكراء كدار بين رجلين أكرى أحدهما نصيبه منها، هل لشريكه أن يشفع ذلك من يد المكتري لأن الكراء بيع منفعته أو ليس له ذلك، فيه قولان جرى القضاء بكل منهما. قال القلشاني في شرح الرسالة: اختلف في الشفعة في كراء الربع، فقال ابن القاسم والمغيرة وعبد الملك بسقوط الشفعة، وبه الحكم الآن بإفريقية على ما سمعت، وقال أشهب ومطرف وأصبغ فيه الشفعة، وروي عن ابن القاسم أيضا، ولمالك القولان، وبهذا القول الثاني الحكم بالمغرب والأندلس فيما سمعته»([8]).

غير أن جواز الشفعة في الكراء مقيد بشرطين نص عليهما اللخمي وهما:

– كون الشيء المكترى قابلا للقسمة.

– كون غرض الشفيع من شفعته تحصيل الانتفاع بالمشفوع فيه بنفسه دون غيره، فإذا شفع ليكري لغيره امتنعت الشفعة.

وقد أشار المهدي الوزاني إلى جريان العمل بفاس مع التقييد بالشرط الثاني دون الأول([9])، واقتصر عليه أبو الشتاء الصنهاجي فقال:

وأثبتوا الشفعة في الكراء لنفع نفسه بلا امتراء([10])

وتظهر فائدة هذا الشرط في تقوية الشفعة في الكراء؛ لأن بيع المنافع ليس كبيع الرقاب، قال الشيخ المنجور: «وكأن هذا الشرط مبني على أنه في البيوع لا يشفع ليبيع، وفيه قولان والمعروف التمكين، ولعله لضعف الشفعة في الكراء قووه بهذا الشرط»([11]).

وتعتبر مسألة الشفعة في الجلسة وما شاكلها من الحقوق العرفية كالجزاء والمفتاح والزينة ذات صلة وثيقة بالعمل المذكور، فهي كلها ذات منشأ واحد هو الكراء، والقائلون بالشفعة فيها من الفقهاء يشيرون في استدلالاتهم وتأصيلاتهم إلى مقتضيات هذا العمل، ومن النماذج الموضحة لذلك ما ورد في نوازل التسولي ونصه:

«وسئل العلامة سيدي محمد بن حمدون بناني بما نصه:

سيدي رضي الله عنكم، جوابكم عن نازلة وهي جلسة حانوت بين أناس شركاء فيها ومدخلهم فيها واحد بميراث، وكان واحد من الشركاء غائبا في البلاد المشرقية، وبعث وكالة لمن ينوب عنه في بيع واجبه في الجلسة المذكورة، فباع الوكيل الأجنبي من الشركاء واجب الغائب مبعضا، فعلم أحد الشركاء بالبيع في القرب من شراء الأجنبي، فأشهد على نفسه أنه أخذ بالشفعة في الحظ المذكور من يد المشتري بما يظهر ويثبت من الثمن، فوقع السكوت من الشفيع والمشتري حيث لم يطلبه الشفيع بقبض ثمنه ولا طلبه المشتري بإسقاط الشفعة أو الأخذ بها، حتى مضت ستة أشهر من وقت الشراء، فقام المشتري وطلب الشريك بالكراء، فاستظهر عليه بالإشهاد بالشفعة في حدثان شرائه بعدلين، فهل سيدي هذه الشفعة جائزة ولا كراء للمشتري ويأخذ ثمنه؟ وهل المشتري هو الطالب للشريك بالأخذ أو الإسقاط؟ أو الشفيع هو الطالب بالقيام بها يوم البيع وإن تراخى سقطت شفعته؟ أو ما حكم الله في النازلة ولكم الأجر والسلام؟

الحمد لله الجواب والله سبحانه الموفق أن الجلسة من باب الكراء على التبقية، وجرى العمل بالشفعة في الكراء، إن كان الشفيع يشفع ليعتمر بنفسه، قال شارح الزقاقية عن الشيخ المنجور ما نصه: ومنها الشفعة في الكراء لكن بشرط أن يسكن الشفيع ما يسكن من دار أو حانوت أو رحى أو غيرها، وأما لو شفع ليكري لغيره فلا اهـ. فللشفيع أن يشفع ما بيع من تلك الجلسة؛ لأنها في معنى الكراء والله أعلم، وكتب عبد الله سبحانه محمد بن حمدون بناني وفقه الله: الحمد لله ما سطر أعلاه بشرط أن يكون محل الكراء من الجلسة يقبل القسمة على ما به العمل، كما في أبي الحسن إنما تجوز الشفعة في الكراء إذا كان الشفيع يعتمر بنفسه، وأن يكون المشترك يقبل القسمة الخ… وذكر الجنـان مسلما له وهو من متأخري أهل هذه الحضرة المباركة، على أنني لم أقف على أن الجلسة تكون فيهـا الشفعة عند من يعتد بكلامه مع كثرتها في هذه البلدة. قاله وكتبه عبيد ربه تعالى الحسن بن رحال المعداني لطف الله به»([12]).

وأما من ذهب من العلماء إلى القول بامتناع الشفعة في الجلسة كالشيخ المسناوي، فقد أقر باندراج مسألة الجلسة في باب الكراء، وأن القياس يقتضي ثبوت الشفعة فيها، ولكن ترجح لديه القول بعدمها لأمرين:

1- عدم تحقق شروط العمل بالشفعة في الكراء كامل التحقق، بحيث يتعذر تطبيق مقتضى العمل المذكور على الجلسة كما هي متداولة في واقع الناس، فتعين المصير إلى العمل بالمشهور القاضي بالمنع.

2- قصر العمل المذكور على موارده المنقولة عن الحكام به، وذلك تقليلا لمخالفة المشهور.

قال الوزاني: «أما الجلسة ففي أجوبة المسناوي أنه سئل عن جلسة حانوت مشتركة بين أناس على ما هو المعتاد في جلس الحوانيت، وأصلها لجانب الحبس، ثم إن بعض الشركاء باع نصيبه من تلك الجلسة لأجنبي فأراد بعض الشركاء أن يأخذه من يده بالشفعة، فهل سيدي له ذلك أم لا؟ جوابا شافيا.

فأجاب: الحمد لله، الجواب أن قياس ثبوت الشفعة في الكراء ثبوتها فيها؛ إذ هي منه، لكن جرى عمل القضاة بهذه الحضرة بعدم شفعتها، وكان وجهه أن القول بشفعة الكراء خلاف المشهور، وإذ قد جرى العمل به فيقتصر فيه على ما ورد عن الحكام به، تقليلا لمخالفة المشهور ما أمكن»([13]).

والحق أن القول بالمنع وإن كان له حظ من النظر، فإن مقابله وهو القول بجواز الشفعة في الجلسة يبقى هو الأرجح، وذلك لأمرين:

– أنه موافق للعمل، والعمل مقدم على المشهور كما هو معلوم.

– أن فيه تحقيق مصلحة راجحة تتمثل في رفع الضرر الناشئ عن الكراء على وجه التأبيد، خاصة إذا كان الشفيع هو صاحب أصل الجلسة؛ إذ بتمكينه من الشفعة، ترفع القيود عن حرية تصرفه في ملكه أصلا ومنفعة.

وقد أيد الشيخ التماق الرأي القائل بالجواز، بل أفرد للمسألة تأليفا سماه إزالة الدلسة عن وجه الجلسة.

الهوامش:


([1]) شرح العمل الفاسي للسجلماسي 2/265-266، وتحفة أكياس الناس ص 288-285.

([2]) التهذيب في اختصار المدونة للبراذعي، 3/474.

([3]) انظر مواهب الجليل للحطاب، 7/369.

([4]) انظر شرح ميارة للتحفة، 2/85.

([5]) المعيار 8/92.

([6]) انظر مواهب الجليل للحطاب 7/370، وانظر كذلك شرح ابن ناجي على الرسالة 2/191.

([7]) انظر تحفة الحذاق بشرح لامية الزقاق، ص 302.

([8]) فتح الجليل الصمد ص 291.

([9]) انظر تحفة أكياس الناس ص 290، وحاشية الوزاني على شرح التاودي على لامية الزقاق ص 295-296.

([10]) مواهب الخلاق 2/305.

([11]) انظر تحفة أكياس الناس، ص 290.

([12]) نوازل الشفعة وفقا للمذهب المالكي وما جرى به العمل في المغرب، ص 268-269، جمع وترتيب عبد الحي العمروي وعبد الكريم مراد، الطبعة الأولى 2003، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء.

([13]) النوازل الكبرى 7/492-493، وانظر كذلك نوازل الشفعة وفقا للمذهب المالكي وما جرى به العمل في المغرب، ص 271.

د. إدريس غازي

• خريج دار الحديث الحسنية ـ الرباط.
• دكتوراه في الدراسات الإسلامية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله ـ فاس، في موضوع: "أصل ما جرى به العمل ونماذجه من فقه الأموال عند علماء المغرب".
• دبلوم الدراسات العليا من دار الحديث الحسنية، الرباط، في موضوع: "المنهجية الأصولية والاستدلال الحجاجي في المذهب المالكي".
من أعماله:
ـ الشاطبي بين الوعي بضيق البرهان واستشراف آفاق الحجاج.
ـ في الحاجة إلى تجديد المعرفة الأصولية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق