مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات محكمة

فقه العمليات في التراث الفقهي المغربي فقه الشركات ومتعلقاتها نموذجا(10)

3- مستند السعاية:

وإذا كان نظام الكد والسعاية وخاصة سعاية المرأة قد جرى العمل به في بعض المناطق من شمال المغرب وجنوبه، فإن العمل المذكور يستمد قوته وحجيته مما يلي:

أ- مراعاة العرف:

إن إقرار الفقهاء لنظام السعاية جاء مبينا على أساس مراعاة الأعراف المعتادة في المناطق التي اشتهر فيها هذا النظام، كجبال اغمارة في شمال المغرب ومنطقة سوس في الجنوب، خاصة وأن الأعراف المتعلقة بالسعاية جاءت موافقة لمقاصد التشريع الإسلامي ومبادئه العامة ومتنزلة على سنن السلف وعوائدهم، وهذا ما يستفاد من جواب الفقيه أبي القاسم بن أحمد الأوزالي الذي جاء فيه مع نص السؤال:

«سئل عن الزوجة التي تعمل مع زوجها، وتشتغل معه في الحقول والأملاك، ثم قامت هي أو من يقوم مقامها من وكيل أو وارث بطلب كدها ومستفادها بعمل يدها، هل لها أن تأخذ السعاية مما استفادته هي وزوجها، أم تأخذ أجرة العمل الذي نشأ عنه المستفاد؟ فأجاب الأوزالي بقوله: ينبغي للمشاور في مسألة أن يحضر عند ذلك أمورا تنبني عليها فتواها، ويجعلها أصلا يرجع إليه أبدا فيما يشير به في ذلك، منها مراعاة العادات في أحوال الناس وأقوالهم وأزمانهم، لتجري الأحكام عليها من النصوص المنقولة عن الأئمة. وقد نقل بعض الناس الإجماع على مراعاة ذلك، وإن الفتاوي تختلف عند اختلاف العادات لا يجوز طردها مع اختلاف، ومنها مراعاة قول بعض أئمة السلف: لو أدركت الناس يتوضؤون إلى الكوعين وأنا أقرؤها إلى المرفقين لتوضأت إلى الكوعين. يشير بذلك إلى الحث على الاقتداء بمن تقدم في فعله وطريقته، وإن كان قد أدرك من القول ما لا شك فيه، وإنه من الشرع، لكنه لما كان على علم أن الفضل للمتقدم، بعُد عنده أن يكون غاب عنهم ما انتهى إليه من أقوال السلف، فاتهم نفسه لا من تقدم. ومنها مراعاة ما علم من عادات الفضلاء من بناء أمورهم وفتواهم وأقضيتهم على اتباع من قبلهم ممن أدركوا الشيوخ والفقهاء في فتوى أو قضاء أو تقييد نص في قضية شرعية أو عقلية، وإن كانوا على علم أن في القضية مخالفا لهم ممن تقدم زمانهم، وأنهم يكرهون تغيير عوائدهم والعدول عنها ما أمكنهم استدامتها. ومنها أننا إذا عرفنا عادة في قضاء أو فتوى ممن أدركنا من القضاة والمفتين، وجدناهم في ذلك مساندين كلام من تقدم من السلف، ينبغي لنا أن نقف عند عاداتهم ونأخذ بعملهم ولا نتعداه إلى غيره، ولو وجدنا خلافا في القضية عن الفقهاء. وإذا فعلنا ذلك كنا أسلم فيما أفتينا به، أو قضينا فيه.

وإذا ثبت ذلك أقول: أنه لا يجوز الحكم والفتوى في مسألة السؤال إلا بالسعاية إن كان بقي عند الزوجين ما استفاداه، ولا يحل القضاء لها بالأجرة وأن الفتوى والقضاء بالأجرة خطأ صريح، ونقض الإجماع المذكور في المقدمة، والحكم بذلك ينقضه كل من رفع إليه. وهذا ما علم في زماننا وقبله بكثير بالضرورة بالفتوى والقضاء»([1]).

والأمر نفسه نجده مقررا في جواب الفقيه سيدي عبد الوهاب الزقاق حينما سئل عن خدمة المرأة في بيتها مع زوجها الخدمة الظاهرة والباطنة، هل يعد ذلك موجبا لأن تكون شريكة له بخدمتها المذكورة أم لا. فقال: «العادة هي المحكمة في أفعال الزوجة المذكورة، فما دلت العادة على أن الزوجة إنما تفعله على وجه طيب العشرة والمعاونة لزوجها في المعيشة لا شركة لها في ذلك ولا أجر، وما كان على العكس فحكمه على ذلك وبالله التوفيق»([2]).

ب- فتوى الفقهاء:

تشير المصادر التي تناولت الموضوع، إلى أن نظام السعاية قد عرف ظهوره الأول في المجتمع الغماري بشمال المغرب، والأصل في اشتهاره عند الفقهاء فتاوى فقهاء هذه المناطق الذين أقروا هذا النظام وخاصة ما تعلق منه بسعاية المرأة([3])، وأبرز الفقهاء الذين اقترن اسمهم بنوازل السعاية أبو عبد الله محمد بن عرضون وشقيقه أبو العباس أحمد بن عرضون، وإن كانت فتوى الأول هي الأكثر اشتهارا في الوسط الفقهي، وهي التي أشار إليها سيدي عبد الرحمن الفاسي في عملياته بقوله:

وخدمة النسـاء في البوادي للزرع بالدراس والحصاد
قال ابن عرضون لهـن قسمة على التساوي بحساب الخدمـة

وقد تناقلت كتب النوازل هذه الفتوى، وممن أوردها الشريف العلمي في نوازله حيث جاء فيها: «وسئل أبو عبد الله سيدي محمد بن الحسن بن عرضون عمن تخدم من نساء البوادي خدمة الرجال من الحصاد والدراس وغير ذلك، فهل لهن حق في الزرع بعد وفاة الزوج لأجل خدمتهن، أو ليس لهن إلا الميراث؟

فأجاب: الذي أجاب به الشيخ القوري مفتي الحضرة الفاسية شيخ الإمام ابن غازي قال: إن الزرع يقسم على رؤوس من نتج تحت خدمتهم، زاد عليه مفتي البلاد الغمارية جدنا سيدي أبو القاسم بن خجو: على قدر خدمتهم وبحسبها من اتفاقهم أو تفاوتهم. وزدت أنا –لله عبد- بعد مراعاة الأرض والبقر والآلة، فإن كانوا متساوين فيها أيضا فلا كلام، وإن كانت لواحد حسب له ذلك والله تعالى أعلم»([4]).

والملاحظ في هذا المقام أن الإمام محمد ابن عرضون أسند مضمن فتواه إلى كبار الفقهاء كالشيخ القوري وأبي القاسم بن خجو وسيدي أحمد البعل، وكأنه بهذا الإسناد يشير إلى أنه ليس بدعا من الفقهاء في فتواه المذكورة وأن فحواها مبني على تأصيلاتهم المكينة والمنضبطة بقواعد المذهب، ويكفي في ذلك أن نورد جواب الشيخ القوري الذي صدر به فتواه ونصه:

«وسئل الإمام القوري رحمه الله عما يفعله نساء البوادي وغيرهن لأزواجهن من أنواع اللباس وسائر الخدمة إذا تشاحوا في ذلك وتشاجروا فيه هل يجبرون على ذلك أم لا؟ وهل لهن فيه نصيب وحق أو لا؟ وهل يجب عليهن الاشتراط على الزوج أو البينة أنها عملت ذلك لنفسها أو لا؟.

فأجاب: لا يجب على المرأة من خدمة نفسها وخدمة بيتها وزوجها شيء، هذا هو الأصل المنصوص عليه في المدونة وغيرها.

وفي المدونة أيضا أن الزوجين يتعاونان في الخدمة في عسر ويسر، وهو وفاق لما في كتاب ابن حبيب، وخلاف لما قدمناه ونسبناه أولا للمدونة، ومثله في العتبية. ونقل عبد الحق أنه يعتبر في ذلك العادة وعرف البلد والموضع، فإن كان قوم عادتهم أن المرأة تخدم نفسها كنساء الديلم وما أشبههن فإنه يقضى عليها بذلك، ومثله نقل عن ابن خويز منداد أن على المرأة خدمة مثلها، وأن على الدنية الكنس والفرش وطبخ القدر واستسقاء الماء إن كانت عادة البلد، وما لابن مسلمة وابن نافع في المسألة معروف.

ونقل صاحب تقييد الرسالة عن الشيخ الفقيه أبي الفضل راشد الوليدي رضي الله عنه أنه كان يقول: يجب على نساء البربر الخدمة المعتادة عندهم، لأنهن على ذلك دخلن، لكن المشهور والذي به الفتوى عدم جبرهن على ذلك، ولا شيء عليهن من غزل ولا نسج ولا غيره، فإذا فعلت شيئا من ذلك متطوعة به وطيبة النفس، وصرحت بذلك وهي رشيدة قبل العمل أو بعده فلا خلاف في حلية ذلك للزوج وفي جواز انتفاعه به أو بقيمته، ولا يضره رجوعها بعد ذلك فيه أو قولها لا أجعلك في حل في كل ما خدمت لك، وإن صرحت بالامتناع من الخدمة إلا على وجه الشركة في الغزل والنسج أو فيهما، أو أباح لها زوجها ذلك، فلا إشكال في اشتراكهما في ذلك المعمول، وإن سكتت وعملت ولم تصرح بوجه من الوجهين ثم طلبت حقها في العمل وأنها لم تعمل إلا على الشركة أو الرجوع بقيمة العمل وأنكر الزوج ذلك، حلفت أنها ما غزلت ولا نسجت إلا لتكون على حقها في المعمول، وإذا حلفت قوم عملها في الكتان والصوف، وقوم الكتان والصوف فيكون الثوب بينهما على قدر ذلك، هكذا روي عن مالك وابن القاسم وغيرهما، وبهذا أفتى الفقيهان القاضيان أبو الوليد ابن رشد وأبو عبد الله ابن الحاج، ولا بيان بعد هذا في سؤالكم، والله الموفق»([5]).

ونشير أيضا إلى أن فتوى ابن عرضون المذكورة لقيت معارضة من طرف بعض فقهاء فاس، وإلى هذه المعارضة أشار أبو زيد سيدي عبد الرحمن الفاسي في عملياته بقوله:

لكن أهل فاس فيها خالفـوا قالوا لهم في ذاك عرف يعرف([6])

قال الوزاني: «ولكن أهل فاس خالفوهم في هذه القسمة ومنعوها وقالوا إنما يحكم لهم بالأجرة يعني من التركة لا من الزرع، وفائدة ذلك أن الزرع إذا هلك بحذف أو تلف أو نحو ذلك فالأجرة ثابتة لمن خدمه على ما لأهل فاس، ولا شيء له على ما لأهل الجبال، لأن أجرته تعلقت بعين الزرع لا بذمة الهالك، وحاصل هذا الخلاف هل الأجرة تؤخذ من الزرع أو تؤخذ من التركة»([7]).

وممن خالف الفتوى المذكورة من العلماء، الشيخ سيدي عبد القادر الفاسي، وحاصل ما انتقد به على فقهاء الجبال في ما ذهبوا إليه من القسمة على الرؤوس ما يلي:

– أن المتعين في القسمة هو إجراءها وفق فرائض الله وليس بحسب الرؤوس.

– أنه لا اعتبار بعرف ولا عادة مع فساد العقد.

– أن مجال تحكيم العرف مقصور على تفسير مقاصد المكلفين ونياتهم في أيمانهم وأحباسهم، وما عدا ذلك فليس إلا اتباع الهوى من غير دليل شرعي.

– أن القول الذي جرى به العمل لا يسلم إلا «مع موافقة الحق ومصادفة نصوص الشريعة، لا مع مصادمتها كما هو فرض النازلة، فإذا كان القول صحيحا وصحبه العمل ينبغي الجري عليه قطعا لشغب الحكام وتشغيبات الأحكام، وهذا إذا كان العمل ممن يقتدى به من الأئمة الأعلام كعلماء قرطبة وأمثالهم»([8]).

وقد أجاب الشيخ الوزاني عن هذه الاعتراضات مجتمعة بقوله: «قلت كأنه رضي الله عنه فهم أن الزرع المتخلف عن الهالك يقسم بأجمعه على من كان يباشر خدمته من غير أن يترك للهالك شيء منه، وليس كذلك، بل معناه أن الذين يخدمون الزرع يأخذون جزءا منه على قدر خدمتهم، وما بقي يكون موروثا عن الهالك لورثته نظير إخراج الزكاة منه أولا إذا مات بعد طيبه، ثم يقسم ما بقي بعد إخراجها على ورثته، وبهذا لا يكون مخالفا للقسمة التي فرضها الله ورسوله، لأن هؤلاء الذين نتج الزرع عن خدمتهم تعلق حقهم بعينه فيقدمون أولا، ثم ما فضل عنهم يدفع لورثته يقسمونه على فرائض الله نظير الحقوق المتعلقة بعين التركة التي يبدأ بها أولا، ثم يقسم على الورثة ما بقي ثانيا، والحاصل أنه كما ثبتت الشركة في الزرع للخماس بمجرد خدمته، كذلك ثبتت لغيره ممن له مباشرة الزرع بجزء على قدر عمله (…). وقوله: (ولا عبرة بمجرى العادة والعرف مع فساد العقد الخ)، قد علمت أنه ليس هنا صريح عقد وإنما هنا شركة حكمية بمقتضى العادة كما قالوا فيمن كان مع أبيه أو أخيه أو عمه على حالة واحدة ومائدة متحدة، أن ذلك يوجب لهم شركة المفاوضة.

 وأما الاعتراض الثالث فأجاب عنه بكون العرف غير مقصور على ما ذكر، بل فائدته أعم وأشمل؛ إذ تترجح به الأقوال ولو كانت ضعيفة، كما يعد أساسا تبنى عليه الأحكام([9]).

وأما الاعتراض الأخير فمردود من وجهين:

– «أن المقلد لا يعرف القول الصحيح من غيره لقصوره، فلا معنى لاشتراط هذا الشرط في حقه، نعم العرف يدركه المقلد قطعا، فإذا وافق قولا من أقوال الأئمة المعتبرين فإنه يرجحه به»([10]).

– أن من أفتى بهذا القول من العلماء وذكر جريان العمل به كالقوري وابن عرضون وابن خجو وسيدي أحمد البعل، هو من أهل الترجيح كأهل قرطبة، «فلا وجه لتخصيص الاقتداء بأهل قرطبة؛ إذ لا دليل شرعي على هذا التخصيص»([11]).

وبعد إيراد هذه الاعتراضات خلص الشيخ الوزاني إلى القول: «فالحق أن هذا العمل ثابت لا ينكر، نعم يقصر على أهل الجبال كما قالوا: إن العمل الثابت بموضع لا يلزم جريانه في غيره، والله أعلم»([12]).

الهوامش:


 ([1]) انظر نظام الكد والسعاية للحسين الملكي، 2/42-43.

([2]) النوازل الكبرى للوزاني، 6/509.

([3]) قال سيدي أحمد البعل: «جرى العمل في جبالنا هذه من فقهائنا المتقدمين بقسمة ذلك على الرؤوس ممن له على الخدمة قدرة ومن لا خدمة له لا شيء له، قال شيخنا العلامة سيدي العربي: المشهور في زماننا ما صاحبه العمل»، نوازل العلمي 2/103.

([4]) نوازل العلمي، 2/101-102.

([5]) النوازل الكبرى للوزاني، 6/510-511.

([6]) يرى الشيخ المهدي الوزاني أن معنى البيت لا يستقيم إلا بقلب شطريه هكذا:

قالوا لهم في ذاك عرف يعرف          لكـن أهل فـاس فيها خالفـوا

حيث إن العرف المذكور متعلق بأهل الجبال لا بأهل فاس فقال رحمه الله منبها: «قول الناظم قالوا لهم في ذاك عرف يعرف يوهم أن العرف هو لأهل فاس وقد شرحه شارحه السجلماسي على ذلك لعدم اطلاعه على كلام ابن عرضون، وليس كذلك، بل العرف إنما لأهل الجبال كما تقدم، فكان الصواب تقديم الشطر الأخير على الذي قبله ويكون الضمير عائدا على أهل الجبال فيقول: قالوا لهم في ذاك عرف يعرف… لكن أهل فاس فيها خالفوا، ولعل تأخيره من مخرج المبيضة والله أعلم». تحفة أكياس الناس ص 282.

([7]) تحفة أكياس الناس، ص 276.

([8]) انظر تفصيل ذلك في نوازل العلمي 2/105-106، والنوازل الكبرى للوزاني 7/561-562.

([9]) انظر النوازل الكبرى للوزاني 7/563، وتحفة الأكياس ص 280.

([10]) النوازل الكبرى للوزاني 7/563.

([11]) النوازل الكبرى للوزاني، 7/563.

([12]) نفسه، 7/563.

د. إدريس غازي

• خريج دار الحديث الحسنية ـ الرباط.
• دكتوراه في الدراسات الإسلامية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله ـ فاس، في موضوع: "أصل ما جرى به العمل ونماذجه من فقه الأموال عند علماء المغرب".
• دبلوم الدراسات العليا من دار الحديث الحسنية، الرباط، في موضوع: "المنهجية الأصولية والاستدلال الحجاجي في المذهب المالكي".
من أعماله:
ـ الشاطبي بين الوعي بضيق البرهان واستشراف آفاق الحجاج.
ـ في الحاجة إلى تجديد المعرفة الأصولية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق