مركز الدراسات القرآنيةدراسات وأبحاث

فعل القراءة في فلسفة الوحي: من الغريزة المتأصلة إلى ضرورة الإنفاق

في الأصل كان الكتاب حيث دُوّنَ كل شيء، وكل شيء يَعْبُر من الكتاب بالقلم منهم إلينا ومنا إليهم، في سياق تزعزعت فيه مكانة إمساك الكتاب للقراءة، حاولنا مقاربة هذا الفعل المقدس كوسيلة لاكتساب المعارف، وكغاية من أجل الوجود الإنساني الكريم، للتحسيس بالغبن الذي سيطال العقل البشري حين استبدال صفحات الكترونية صماء، بآلاف الصفحات الحية المفترض قراءتها وتقليبها من كتاب متجسد بين يديك.
قراءة الكتاب لا تجدي إذا لم يكن بينك وبينه ميثاق عشق، كل العلماء كانوا عشاقا للكتاب، فرض عليهم هذا الاختيار طقوسا خاصة في العيش من الخلوة والتضحية واختيار الوحدة والعزوبية أحيانا، والسياحة في الأرض أحيانا أخرى، ويتكلل الميثاق بولادة كتاب جديد، هكذا تناسلت المعرفة التي يضج بها الفضاء الأزرق الآن، حيث العرض لا الولادة والخلق، كل المكتبات الإليكترونية هي تشكيل من الكتاب، وكل الدراسات هي توليد لما قرأ من الكتاب، فكيف تنظر فلسفة الوحي لقيمة فعل القراءة؟
فعل القراءة في فلسفة الوحي غريزة متأصلة في الوجدان الإنساني:
علم الله الباري الحكيم الإنسان الأطر الكبرى للمعرفة وهو في عالم الذر، قال سبحانه: ﴿و عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ﴾ [البقرة/31]، فالإنسان يولد مزودا بمجموعة من الملكات كآلية التفكير المنطقي وغيرها كاستعداد فطري لممارسة القراءة، لذلك عليه أن يقرأ ليدرك تفاصيل الأشياء، أو يتذكرها حسب رأي فلسفي آخر، فإذا لم تتح له فرصة إشباع هذا الفضول المعرفي المتأصل شعر أنه يفقد جزءا مهما من تميزه الذي جاء الوحي لتكريسه، الجزء الذي يستطيع من خلاله القول بأنه إنسان.
1- فعل القراءة في فلسفة الوحي أمر إلهي عام وشامل:
القراءة حسب فلسفة الوحي أمر إلهي يعم كل البشر في كل الأعمار ويشمل كل المجالات في كل زمان ومكان، قال سبحانه: ﴿اقْرَأْ ﴾ [العلق/1]، وإذا تساءلت وقلت: ماذا أقرأ يا رب؟ سيكون الجواب من بمقتضى عموم الأمر في الآية: اقرأ كل شيء، اقرأ الوحي، اقرأ الكون، اقرأ المجتمع، اقرأ نفسك، اقرأ الماضي اقرأ الحاضر اقرأ المستقبل، اقرأ في وطنك واقرأ خارج وطنك، اقرأ وأنت طفل وأنت شاب وأنت هرم على فراش الموت.
فالقراءة حسب فلسفة الوحي غير مقيدة بمجال أو زمان أو مكان، ولكن هناك ضابط واحد يجب أن يؤطر قراءتك؛ هو أن تقرأ ﴿بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق/1]، لماذا؟ لأنه هو الذي خلق كل ما ستقرؤه أنت، والآليات التي سوف تقرأ بها، والمجالات التي سوف تقرأ فيها وكل التفاصيل التي سوف تقرأها بعد، ولذلك فليس له أي منفعة في توجيه قراءتك إلى وجهة ما، ولا يتغيا غير إسعادك في الدارين.
أما إذا قرأت باسم المخلوق –وقد يكون نفسك ذاتها بما تحمله من تحيزات- فأنت تقرأ بدوافعه وخدمة لأهدافه، ولذلك فالقراءة باسم ربك الخالق تؤول بك إلى التعلم وتحصيل المعرفة الموضوعية ﴿عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق/5]، في حين تقودك القراءة باسم المخلوق إلى ربقة الإيديولوجيا خدمة لمصالح معينة في زمان ومكان ما.
ولأن الوجود إنما يتحرك بالفكرة ابتداء، والفكرة إنما تملك بالقراءة أولا، ناسب أن يكون الأمر بالقراءة أول ما نزل من الوحي، فالقراءة حسب فلسفة الوحي هي المحرك الأول، وليس هناك في الأرض أي دين أو فلسفة يقدر أمر القراءة في الوجود مثل تقدير الوحي لها.
2- فعل القراءة في فلسفة الوحي دين يستلزم الإنفاق:
الإنفاق حسب منظور القرآن ليس قاصرا على المال: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ [البقرة/219] فالعفو هو الفائض-بصفة عامة- عن حاجة صاحبه مالا كان أو جهدا أو وقتا أو صحة أو موهبة، ويكمن في المواهب المختلفة فنية وعلمية وأدبية وغيرها، ولهذا صحح النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة مفهوم الإنفاق عندما اشتكوا إليه قائلين: »يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور، فقال: أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به؟ إن بكل تسبيحة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة… « [ ] الحديث، ولذلك لا يجوز للمسلم احتكار أو تعطيل أي نوع من أنواع الإمكانات الموهوبة له أو منعها عن خدمة الإنسان.
يمكن أن تنفق الأخلاق الطيبة، ويمكن أن تنفق العلم والمعرفة، من خلال الكتابة والتدوين وغيرها من وسائل الإنفاق والتبليغ، ولا يمكنك ذلك إلا عندما تقرأ وتقرأ وتقرأ، فقد كرر جبريل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة ثلاث مرات حسب ما جاء في حديث الوحي عن عائشة أم المؤمنين؛ فقال: »”اقرأ”، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: “اقرأ”، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: “اقرأ”، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ «[العلق: 1 – 5] .
عندما تمنحك القراءة المعرفة عليك أن تنفقها بإطلاق، لا تسأل من سيستفيد من علمك ولأي غرض، ولا تجب جواب الذين: ﴿إِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ﴾ [ يس/ 47]، لا تقل إن الشبكة العنكبوتية تضج بالمعلومات، أو أن جهات معينة سوف تستغل إنتاجك المعرفي، إلى غير ذلك من مثبطات العزائم.
لكن كيف يؤول فعل القراءة إلى إنفاق عبر الكتابة؟ عندما يمتلأ ذهنك بالأفكار ويضيق وجدانك بصخب الأسئلة، تنقاد قسرا لممارسة الكتابة، تقرأ لتتساءل وتنتقد ثم تكتب، ثم يأتي من يقرأ كتاباتك ويتساءل وينتقد ثم يكتب في سلسلة لا نهائية لإنفاق المعرفة وتوليدها، إذ مهما قرأت وتعلمت لن ينتهي الموضوع عندك، كما لم ينته عند من سبقوك، فالقراءة تمنحك القوة للاعتراف بالجهل، فلا تعتقد أنك صرت أفضل ممن قرأت لهم، بل أنت قزم يقف على ظهورهم، وإن استطعت أن ترى ما لم يروه فليس من حدة نظرك، ولكن بفضل وقوفك على أكتاف كتبهم، وهكذا دواليك في إنفاق قسري لا نهائي للمعرفة.
ومن هنا لا يمكن لأحد من الناس أن يدعي أنه باحث في علم من العلوم، إذا لم يتمكن من المواكبة المستمرة لآخر ما استجد في مجاله بالقراءة المستمرة، التي يمكن تقديرها في عشرة كتب سنويا على أقل تقدير.
3- لماذا يقدر الوحي أمر القراءة إلى هذا الحد؟
القراءة حسب فلسفة الوحي يجب أن تكون نمط عيش لأن ما نكونه يعتمد على ما نقرؤه، بل يجب أن تكون على رأس الهوايات التي يمارسها الإنسان بشغف؛ كالرسم والرياضة والغناء وجمع العملات وقطع الأثاث القديمة وغيرها من هوايات الناس التي لا نعرفها، لأنه بالقراءة فقط يستطيع الإنسان أن يتساءل وأن يخالف وأن يعترض تعبيرا عن خصوصيته وكينونته المتميزة، فالقراءة من ثمة آلية لتحقيق الوجود الإنساني المتفرد عن الوجود البهيمي.
بالقراءة نستطيع عبور الزمان والمكان، الزمن الماضي حيث عبق التاريخ والاعتبار بأحداث الزمن الغابر، والزمن الحاضر وما يجري الآن هنا وهناك، والتنبؤ بما يمكن حصوله في القادم من الزمن علميا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وبيئيا وحتى دينيا وأخلاقيا، القراءة تحررنا –نسبيا – من قبضة الزمن، وهو ما لا يستطيعه أي كائن آخر غير الإنسان.
و تمتد بأعمارنا عرضا وكيفا، إذ يمكن للإنسان أن يزيد من الحضور الكيفي اللحظة العمرية المتاحة له على الأرض عن طريق القراءة، لأن الكتاب الذي بين يديك الآن، والذي يمكن أن يقرأه في أسبوع أو ثلاثة أيام أو أقل من ذلك أو أكثر هو خلاصة لتأمل عقلي أو تعبير عن تجربة وجدانية عمرها أربعة أو خمسة أو ستة عقود أو أكثر من ذلك، فالكتاب تجربة عقل ووجدان مرصوصة حيالك فوق الرف، ما عليك سوى فتحه لينضافان إلى عمر عقلك ووجدانك.

دة. فاطمة الزهراء الناصري

أستاذة باحثة بمركز الدراسات القرآنية بالرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق