مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراثشذور

فضل العلم وعظيم منزلته

للشيخ الفقيه
الحافظ أبي الوليد الباجي الأندلسي (474هـ)

قال الإمام أبو الوليد الباجي الأندلسي في وصيته لولديه:

 واعلما أنَّكما إنما تَصِلانِ إلى أداء هذه الفرائض،
والإتيان بما يلزمكما منها – مع توفيق الله لكما – بالعلم الذي هو أصل الخير، وبه يتوصل إلى البرِّ، فعليكما بطلبه، فإنه غِنًى لطالبه، وعزٌّ لحامله، وهو – مع هذا – السببُ الأعظم إلى الآخرة؛ به تجتنب الشُّبُهاتُ، وتصحُّ القُرُباتُ، فكم من عامل يُبعدُهُ عمله من ربه، ويكتب ما يُتقرّبُ به من أكبر ذَنْبِه.

قال الله تعالى: ﴿ قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا﴾ [ سورة الكهف: الآيتان 103-104]، وقال تعالـى:﴿قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب﴾ [سورة الزمر: الآية 9]، وقال تعالـى: ﴿إنما يخشى الله من عباده العلماء﴾ [سورة فاطر: الآية 28]، وقال تعالى:﴿يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات﴾ [المجادلة: الآية11].

 والعلم سبيلٌ لا يُفضي بصاحبه إلاَّ إلى السّعادة والسّلامة، ولا يَقْصُرُ به عن درجة الرِّفعة والكرامة، قليله ينفع، وكثيره  يُعْلِي ويرفع،كنزٌ يَزكُو على كل حالٍ،
ويكثُرُ مع الإنفاق، ولا يَغْصِبُهُ غاصبٌ، ولا يُخاف عليه سارقٌ ولا محارب.

 فاجتهدَا في طلبه، واستعذبَا التّعب في حفظه، والسّهر في دَرْسه، والنَّصَبَ الطّويلِ في جمعه، وواظبَا على تقييده وروايته، ثمَّ انتقلا إلى فهمه ودِرايته.

وانظرَا أيَّ حالةٍ من أحوال طبقات الناس تختاران، ومنزلةَ أيِّ صنف منهم تُؤثران، هل تريان أحدا أرفعَ حالا من العلماء؟ وأفضل منزلةً من الفقهاء؟ يَحتاجُ إليهم الرئيس والمرؤوس، ويقتدي بهم الوضيع والنَّفيس، يُرْجَعُ إلى أقوالهم في أمور الدنيا وأحكامها، وصحَّةِ عقودها وبَيَاعَاتِها، وأنكحتها وجناياتها، ومعاملاتها وإجارتها، وغير ذلك من تصرُّفاتها،
وإليهم يُلْجأُ في أمور الدين، وما يلزمُ من صلاة وزكاة وصيام، وحلال وحرام، ثمَّ مع ذلك السَّلامةَ من التبِعات، والحظوةَ عند جميع الطَّبقات.

 والعلم ولايةٌ لا يُعزَلُ عنها صاحبها، ولا يَعْرَى من جمالٍ لاَبِسُهَا، وكلُّ ذي ولاية وإن جلَّتْ، وحرمةٍ وإن عظمت، إذا خرج عن ولايته، أو زال عن بلدته أصبح من جاههِ عارياً، ومن حاله عاطلا، غير صاحب العلم؛ فإن جاههُ يَصْحبُهُ حيث سَار، ويتقدّمُهُ إلى جميع الآفاق والأقطار، ويبقى بعده في سائر الأعصار.

 وأفضل العلوم علم الشريعة، وأفضل ذلك لمن وُفقَ أن يُجوِّدَ قراءةَ القرآن، ويحفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ويعرف صحيحهُ من سقيمه، ثمّ يقرأ أصولَ الفقه، فيتفقَّهَ في الكتاب والسنة، ثمّ يقرأَ كلام الفقهاء، وما نُقلَ من المسائل عن العلماء، ويَدْرَبَ في طُرُق النظر، وتصحيح الأدلة والحجج، فهذه الغايةُ القصوى، والدرجة العليا.

ومن قَصُرَ عن ذلك فليقرأ بعد تحفُّظِ القرآن ورواية الحديث المسائلَ على مذهب مالك رحمه الله، فهي إذا انفردت أنفعُ من سائر ما يُقرأُ مفردا في باب التفقه، وإنما خصّصتُ مذهب مالك رحمه الله؛ لأنه إمام في الحديث، وإمام في الرَّأي، وليس لأحد من العلماء ممن انبسط مذهبُهُ، وكثرت في المسائل أجوبتُهُ درجة الإمامة في المعنيين، وإنما يُشاركه في كثرة المسائل وفروعها، والكلام على معانيها وأصولها أبو حنيفة والشافعي، وليس لأحدهما إمامة في الحديث، ولا درجة متوسطة.

·وصية الشيخ الفقيه الحافظ أبي الوليد الباجي الأندلسي (474هـ) لولديه ( ص:44-46).

 طبعة دار البشائر الإسلامية، الطبعة الثانية 1419هـ. تقديم وتحقيق: عبد اللطيف بن محمد الجيلاني.

Science

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق