مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةدراسات عامة

فرقة الشَّيْخيَّة

 

برز في القرن الثاني الهجري أحد مشايخ الشيعة الإمامية  في منطقة الإحساء شرقي الجزيرة العربية، كان ذا اتجاه فلسفي مغال، وكان غزير التأليف، ونادى في مؤلفاته بأفكار غالية، كانت السبب في نشأة فرقة جديدة قليلة الأتباع  ضمن الشيعة الإمامية تميز أتباعها بمجموعة من العقائد؛ اعتبرها جمهور علماء الشيعة غلوا وانحرافا، بل وصل الأمر ببعض علماء الشيعة إلى حد تكفير أتباع هذه الفرقة الجديدة، لما في أفكارهم من غلو وتفويض يناقض ويخالف أهم أصل من أصول الإسلام، ألا وهو أصل توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية. وقد عرف أتباع  هذه الفرقة باسم «الشيخية» نسبة إلى مؤسسها الشيخ أحمد الإحسائي، فمن هو هذا الشيخ؟ وماهي أفكاره؟
ولد الشيخ أحمد الأحسائي في قرية المطيرف من منطقة الإحساء شرقي الجزيرة العربية في شهر رجب من عام 1166هـ/1752م، وتلقى العلوم الابتدائية على بعض مشايخ منطقته، ثم رحل إلى العراق سنة 1186هـ، وعمره ـ يومذاك ـ  عشرون سنة، ليدرس على بعض كبار علماء الشيعة والنجف وكربلاء كالشيخ  محمد الباقر البهبهاني في كربلاء، والسيد المهدي بحر العلوم، والشيخ جعفر كاشف الغطاء في النجف، وغيرهم، ثم عاد بعد مدة إلى بلاده، وتزوج فيها، ثم هبط البحرين، فسكنها مع عائلته أربع سنوات، وكان يتردد بعد ذلك بين المدة والأخرى إلى العراق لزيارة العتبات المقدسة، وكان كثير الميل للعزلة والخلوة، وفي سنة 1621هـ، جدد العهد بزيارة العتبات في العراق، ومن هنالك؛ انطلق مع ولده الشيخ علي لزيارة المشهد الرضوي في إيران، ولما وصل إلى يزيد اجتمع إليه بعض أهلهاـ وكان الشيخ جعفر كاشف الغطاء النجفي هناك يومئذ ـ وعرضوا عليه البقاء عندهم، فوعدهم بتحقق رغبتهم بعد عودته من زيارة الإمام الرضا. 
ولما عاد من الزيارة استقر في « يزد »، وشرع هناك في التدريس والوعظ، فتألق نجمه، وطار اسمه، وسمع به ملك إيران في حينه السلطان فتح علي شاه القاجاري، فأعجب به، فدعاه إلى القدوم للعاصمة طهران، فاعتذر في البداية لحبه للعزلة وخمول الذكر، لكنه استجاب في النهاية نظرا لإصرار السلطان، واستقبل في طهران بحفاوة، ثم عاد بعد مدة إلى يزيد، ليواصل التأليف وإلقاء الدروس، وكانت له زيارات متعددة لسائر مدن جنوب بلاد فارس كأصفهان وشيراز وجنوب العراق ككربلاء والبصرة، وأخيرا توفي عام 1241هـ. وهو في طريقه إلى الحج على بعد مرحلتين من المدينة، فنقل جثمانه إلى البقيع، ودفن بها.
كان الشيخ الإحسائي  ـ كما يذكر من ترجم له ـ  كثير الذكر، محبا للعزلة عن الناس، كثير الميل إلى حياة الأرياف والصحاري؛ حيث يسود الهدوء، ويسمو الخيال، فعاش الإحسائي في مثل ذلك الجو فترات طويلة وسنين عديدة، فدفع الاستعداد الحاصل له قوة فكره إلى جهة الإشراق، ونمى لديه شعور النيل من عالم الغيب حالة اليقظة والمنام وأخذ يطعم بتلك الخواطر والمكاشفات كلامه إذا تحدث، أودري، وتأليفه متى كتب.وكان عالما تضلع في الفقه والحديث والفلسفة والتفسير، وشارك في العلوم الإسلامية الأخرى التي كانت رائجة في عصره. وكان مفرطا في ولهه ومغالاته في محبة وولاء الأئمة من آل محمد عليهم السلام، إفراطا كان يشطح به عن ضوابط وحدود الشرع، ومزج ذلك بنزعة عرفانية وتفكير صوفي طغى على أسلوبه ، وظهر واضحا في آرائه، وغرق فيه إلى هامته، رغم تنكره للصوفية والعرفاء، وتصديه للرد عليهم. وهكذا ظهرت في مؤلفاته وكتبه العديدة أفكار فيها التفويض؛ أي القول بأن الله تعالى فوض أمر الكون خلقا ورزقا وتدبيرا للأئمة من آل الرسول عليهم السلام، وأن الأئمة مالكو يوم الدين وإياب الخلق يوم المعاد إليهم، وحساب الناس عليهم، وغير ذلك من أفكار الغلو والارتفاع الكثيرة التي ترفع الأئمة الاثني عشر إلى مقام يضفي عليهم الكثير من الصفات الإلهية التي يرى جمهور المسلمين أنها من الصفات الخاصة بالله ـ تعالى ـ لا يشاركه فيها أحد سواه. كما ظهر في أفكاره جليا إنكاره للمعاد الجسماني، وقوله بأن المعاد روحاني محض ـ كقول الفلاسفة ـ وقوله بأن معراج النبي صلى الله عليه وسلم روحانيا، ولم يكن بالجسد والروح، وغير ذلك من الأفكار التي ضلله فيها علماء النجف و إيران.
وكان أهم تلامذته السيد  الكاظم الرشتي الذي اعتبر خليفة الشيخ، حيث استمر ونشط في تثبيت أفكاره من بعده، بل في تطوريها زيادة الغلو فيه، ولم يقعده عن الدعوة تهديد، ولم يثنيه عن المضي في طريقه الرصاص الذي أطلق عليه غير مرة، وقد كان له الأثر البالغ في نشر آراء أستاذه وتعميمها وتركيزها، فقد بدل جهدا مضنيا في الدفاع عنها، وتوجيه المتشابه منها، وتفسيره بما يوافق المعتقد السائد . وترك  ـ كشيخه الإحسائي ـ  كتبا عديدة بالعربية والفارسية.
وقد انقسمت الشيخية بعد كاظم الرشتي إلى مدرستين؛ عرفت الأولى بالشيخية أو مدرسة تبريز، والثانية بالركنية أو مدرسة كرمان، حيث تبنت كل مدرسة مجموعة من الآراء والمعتقدات وتنكرت لها زميلتها.
معتقدات الشيخية والآراء التي خالفوا فيها باقي الشيعة الإمامية:
ترتكز أهم مخالفات الشيخية لعلامة الشيعة الإمامية بأربع نقط؛ هي في الحقيقة أصول الخلاف، والمسائل الرئيسة التي قام حولها النزاع وسجلت عليها المؤخذات، أما بقية موارد الخلاف فهي في الواقع صغروية تتفرغ عنها.
المسألة الأولى: قضية المعاد:
أي كيفية عودة الناس للحساب يوم القيامة، حيث ذهب الشيخ الإحسائي  ـ رأس المدرسة ـ إلى روحانيته، وأقواله فيه صريحة  لاتقبل التأويل، إلا أنه قد تراجع عنه على أثر قيام الظاهريين عليه، وقال بجسمانيته، وعمد إلى تأويل أقواله بما يوافق الظاهريين، غير أن ذلك لم يجده شيئا.وجاء من بعده تلميذه وخليفته الرشتي، فنفى عن أستاذه تلك القولة ، واعتبرها اتهاما له، واعتذر عنه بمختلف الأساليب، وفي أقواله مغالطة واضحة وتمحمل مكشوف، ويبدو أنه كان كثير التحفظ من الهفوات عندما سأل عن كيفية المعاد؛ فقد كان يتناول عموميات المسألة، ولا يتطرق إلى خصوصياتها تفاديا للمشاكل، وربما بالغ في ترضية الظاهريين لحد تكفير القائلين بروحانية المعاد فقط.
وجاء من بعده خليفته جوهر، فلم يختلف في عرضه للمسألة عن أستاذه الرشتى، فقد أيد رأيه ورأي سلفه الإحسائي الأخير من القول بالجسمانية؛ لكنه لوح إلى روحانيته بصورة لاتخفى على اللبيب، فقد صرح بتوسط الجسد المثالي بين الجسد العنصري والروحي، وأن المثالي يدخل يوم القيامة في العنصري الذي يقوم للحساب بعد ذهاب كثافة العارضة، ويبدو واضحا أنه لم يستطع أن يكتم ما يعتقده.
المسألة الثانية: موضوع كفية معراج النبي صلى الله عليه وسلم:
هل أنه كان روحيا أم جسمانيا وروحانيا؟ حيث ذهب الشيخ الإحسائي إلى كونه روحانيا، واعتقد بأن جسم النبي صلى الله عليه وسلم قد تلطف عند صعوده إلى عالم الكون، ولم يكن بهذا الجسد الكثيف، بل أنه ألقى في كل كرة ما يناسبها، فألقى ترابه في التراب، ومائه في الماء، وهوائه في الهواء، وناره في النار، وأنه لما رجع أخذ من كل كرة ما ألقي فيها؛ لأن صعود عناصره يقتضي الخرق والالتئام في الأفلاك.وتراجع بعد ذلك فناقض نفسه، وقال إنه صعد بجسمه وعمامته وثيابه ونعليه، وأنه لا مانع  من الخرق والالتئام، وأن الله على كل شيء قدير.
وجاء من بعده خليفته كاظم الرشتي، فاقتفى أثره، وأكد أقواله و آراءه، وتحامل كذلك على من يقول بروحانية المعراج.وجاء من بعده خليفته جوهر، فأيد أقوال سلفه الرشتي، فاقتفى أثاره، وأكد أقواله وآراءه، وتحامل كذلك على من يقول بروحانية المعراج. وجاء من بعده خليفته جوهر، فأيد أقوال سلفه الرشتي، وبالغ، حتى أساء الأدب بالنسبة لمقام الرب ، فزعم أن عرش الله تشرف بنعل رسوله! وجاء خلفته الشيخ موسى الإسكوئي، فذهب إلى نورانية جسم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن عناصر جسمه ليست من تلك الكرات حتى يلقيها فيها، وأنها خلقت قبل خلق الكرات بالآف الأعوام في الوقت الذي قال فيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كما حكاه عنه القرآن الكريم:﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾ فكيف نفى بشريته وأدميته وهو القائل : «كلكم لآدم وّآدم من تراب».
ولما جاء نوبة خليفته وولده الشيخ  علي الحائري أعاد أقوال من سبقه، وكرر عبارة ـ أو جسارة ـ جوهر بلفظها.واستمرت مدرسة تبريز بعده في تقليد سلفها في هذا المسألة حتى اليوم.
واختلفت مدرسة كرمان عن مدرسة تبريز في هذه المسألة، فقد أكد رأس مدرستها الحاج محمد كريم خان رأي الإحسائي الأول الصريح بروحانية المعاد، لكنه لم يصرح به جملة وتفصيلا، وتلويحه أبلغ من التصريح فمن يرى أن: مشايخه أشاروا إلى المسّألة من  خلف ألف ستار، ولم يكن ليصلح لزمانهم أكثر من ذلك، وأخر يعتذر؛ بأن خوفه من طغيان النفوس الفرعونية حال دون وضع النقاط على الحروف. و قد أكد غير مرة وكرره بأكثر من أسلوب. ثم عاد كالآخرين، فتنكر لذلك الرأي، وتحامل على الفلاسفة لقولهم به، ورماهم بالجهل بأسرار الخلق واستمر يبرهن ويكثر من الشواهد لدعم قوله.
المسألة الثالثة: مسألة الغلو والتفويض:
وهي أهم المسائل، والحقيقة أنها ليست خاصة بالشيخية، بل أنه يوجد في كل عصر عناصر من الشيعة تدفعهم شدة الولاء والإيمان والحب لأئمة آل البيت إلى تجاوز الحد الذي أمر به، وأقره أهل البيت أنفسهم، فقد نهى الأئمة ـ رضي الله عنهم ـ عن ذلك الغلو مرارا عديدة، وتذمروا ممن كان يرفعهم عن مقامتهم التي أحلهم الله فيها، بل نقموا على أولئك، وأمروا بهجرهم و طردهم، وحرموا على شيعتهم مجالستهم.
وممن تجاوز الحد فرقة الشيخية، فلزعيمها الإحسائي رأي لايقره المعتدلون، وأقواله في ذلك كثيرة لاتحصى، فهو يعتقد أن آل محمد معاني الله ووجه الذي يتوجه إليه الأولياء، والذي يبقى بعد فناء كل شيء، وأنهم العلل الأربع للمخلوقات؛ أي العلة الفاعلية، والعلة الصورية، والعلة الجسمية، والعلة الغائية، وبما أنهم خلق فوق بني آدم فإن أجسامهم لا ترى بالبصر ولا بالبصائر، وأن لهم قدرة منع الرزق عمن يشاءون؛ لأن الخلق عبيد رق لهم إلى كثير من أمثال ذلك.
وجاء من بعده خليفته الرشتي، فنهج الطريق ذاته، وكرر قول أستاذه حول قدرة آل محمد على منع الرزق عن المخلوق، وأنهم معاني الله ومعادن كلمته، واعتبرهم عظمة جبروته وقدرته، وأنهم ربوبية الله أيضا، وأن كلمة خالق لن تليق بذات الله، ولذلك فالمراد بها وبغيرها من الفعال أهل البيت. ومن طريف آرائه أن التنابك خلق مرا بسبب إنكاره لولاية أهل البيت.
وقد أيد ذلك وأوضحه الشيخ موسى الإسكوئي، وأضاف إليه أن الله صور المخلوقات من الأنبياء إلى الجمادات وفق رغبة آل محمد. فمن أقر بولايتهم  في عالم الذََّرِّ خلق حسن الهيئة، ومن أنكرها خلق قبيحا. وقال بطهارة فضلاتهم ومدفوعاتهم. ولا أدري لماذا لم يكن لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نفسه ـ الذي شرف آله  من أجله ـ مثل تلك المزية؛ بحيث يخيره  الله في كيفية إيجاد الخلق وهيئاتهم، وكانت للأئمة من آله فقط؟!
وهكذا سارت مدرسة تبريز خلف قادتها، واتبعت خطى سلفها، وأعاد من تأخر من علمائهم أقوال مشايخه، وأيد مزاعمهم، وتحمس لها. ولم تكن مدرسة كرمان لتختلف عن أختها في الرأي والمعتقد، فالرأي واحد والأقوال متشابهة، فرأسها  الحاج محمد كريم خان يرى أن أهل البيت هم الخلق الأول، والعلل الأربع لباقي الخلق، وأ،هم يفعلون ما يشاءون، ويتولون يوم الجزاء أمر الجنة… والشيعة في نظره غير محاسبين على أعمالهم؛ لأن ولاية آل محمد تطهرهم من كل كل ذنب! وسار خلفاؤه من بعده سيرته، وأمنوا بآل محمد إيمانه، ومؤلفاته طافحة بتلك الآراء والأقوال.  
وخلاصة القول: أن علماء الشيخية قديما وحديثا قد تجاوزوا الحد المسموح به في تقديس آل البيت، وغالوا في حبهم، حتى فوضوا إليهم بعض الأفعال الإلهية، وهم  وإن صرح البعض منهم بأن ذلك تفويض مشيئة لا تفويض شراكة أو استقلال، فإنهم غير معذورين عند المعتدلين من عامة الشيعة؛ لأن الأئمة أنفسهم قد أنكروا ذلك، ونهوا عنه، وحرموا القول به، فضلا عن كون تلك الأقوال تناقض تعاليم القرآن الكريم نصا وروحا، فمنطق القرآن الكريم يقوم على أساس أن الله وحده هو المستحق للعبادة، لأنه بيده الخلق والرزق والإحياء والإماتة والسعادة والشقاء، وأنه مالك يوم الدين، إليه ـ تعالى ـ إياب الخلق، وعليه وحده حسابهم، فلو كان لغيره هذه الأمور ـ والعياذ بالله ـ لاستحق حسب منطق القرآن ـ العبادة ـ أيضا. فالقول بالتفويض إشراك يناقض مقتضى الكلمة الطيبة التي هي أساس دعوة الإسلام ودعوة جميع الأنبياء، ألا وهي كلمة «لا إله إلا الله».
المسألة الرابعة والأخيرة: الإمام الناطق و الركن الرابع:
وخلاصتها: أنه لابد لكال زمان من إمام ظاهر غير الإمام الغائب تكون له الوساطة بينه وبين رعيته، ويجب على العلماء دعوة الخلق إليه، وليس لغيره التصدي للأمور إلا بأمره.وهي تخص مدرسة كرمان وحدها، ولذلك سمي شيخه كرمان بـ «الرُّكنيَّة». وقد ظهرت نواتها الأولى في مؤلفات الإحسائي، وتلقها خليفته الرشتي، فوضحها بعض الشيء. ولما انقسمت الشيخة بعد وفاته، تنكرت مدرسة تبريز للفكرة، وعمد علماؤها إلى ما يدل عليها في مؤلفات الإحسائي والرشتي، فصرفوه إلى معان أخرى، وصارت نصيب شيخية كرمان، فالحاج محمد كريم خان هو الذي تبنى الفكرة، ووضحها.ففي الرسالة التي وجهها إلى أستاذه الرشتي تصريح بذلك. فقد اعتبر الإحسائي قطبا، وأنه الذي يعهد به الرحمن؛ لأنه العقل. وأن الرشتي وريثه في ذلك، وهو القطب من بعده، ومن لم يتوجه إليه في صلاته وسائر أعماله صلى لغير القبلة والوجهة، وسأله عن ولي الأمر من بعده، وأنه لو ادعى الرشتي النبوة لصدقه.وتصريحاته بذلك أكثر من أن تحصى، وهي مبثوثة في مؤلفاته.
وقد اقتفى أثره ولده وخليفته الحاج محمد خان، وصرح به في غير واحد من مؤلفاته ورسائله، فزعم أن وحدة الناطق أمر ثابت قام عليه البرهان من قبل مشايخه ، وأنه يستفيض من الإمام الغائب، ويفيض على الناس، وهو الناطق للنقباء، كما رد على أعلام مدرسة تبريز، ودلل على خطئهم بدعوى متابعة الإحسائي بأن الناطق لا يكون أكثر من واحد، ويقصد بذلك أن وجود أبيه الحاج محمد كريم خان يبطل دعوى الآخرين؛  إذ لم يشركه في أمره أحد. وكرر ذلك بعبارات مختلفة وإيضاحات أكثر، لكنه قد تراجع بعد ذلك، وأخذ يفسر أقوال أبيه التي استدل بها على ركنيته سابقا تفسيرا مغاير للأول، ويذكر لها معان لم يكن لها ربط بها مطلقا، ودافع عن كثيرا، واتهم الناس بعدم فهم مايرمي إليه أبوه.
والمضحك أنه كفر نفسه وأباه ومشايخه الأولين؛ لأنه اعتبر من يذهب إلى ذلك كافرا ملعونا.
واختفت التسمية السابقة ( الإمام الناطق)، وحلت محلها تسمية جديدة ( الركن الرابع)، وأصبح لها مدلول جديد، ومعنى آخر يختلف عن معناها السابق اختلافا كليا، هو: ( موالاة الموالين لآل محمد ومعاداة أعدائهم). وبقي خلفه يعيد، ويصقل، ويفسر، ويؤولّ، إلى أن وصلت النوبة إلى زعيمهم المعاصر الشيخ أبي القاسم الإبراهيمي، فادعى أن ما قاله سلفه هو عين  ما أو جبه العلماء كافة قديما وحديثا، و أشهد الله أن مشايخه يقصدوا غير ذلك، وأن المراد به ليس شخصا معينا. وكذلك الموسوي و كيل مركز كرمان في العراق، فقد أيد تلك المزاعم، ولعن من يعتقد بركنية الحاج محمد خان أو أحد أولاده، ولعن من أبطل النيابة العامة.
مصدر المقال: الفرق والمذاهب الإسلامية منذ البدايات، النشأة. التاريخ. العقيدة. التوزيع الجغرافي لسعد رستم، أنوار للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2008، ص:348- 355.
إعداد الباحثة: حفصة البقالي.

برز في القرن الثاني عشر الهجري أحد مشايخ الشيعة الإمامية  في منطقة الإحساء شرقي الجزيرة العربية، كان ذا اتجاه فلسفي مغال، وكان غزير التأليف، ونادى في مؤلفاته بأفكار غالية، كانت السبب في نشأة فرقة جديدة قليلة الأتباع  ضمن الشيعة الإمامية تميز أتباعها بمجموعة من العقائد؛ اعتبرها جمهور علماء الشيعة غلوا وانحرافا، بل وصل الأمر ببعض علماء الشيعة إلى حد تكفير أتباع هذه الفرقة الجديدة، لما في أفكارهم من غلو وتفويض يناقض ويخالف أهم أصل من أصول الإسلام، ألا وهو أصل توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية. وقد عرف أتباع  هذه الفرقة باسم «الشيخية» نسبة إلى مؤسسها الشيخ أحمد الإحسائي، فمن هو هذا الشيخ؟ وماهي أفكاره؟

ولد الشيخ أحمد الأحسائي في قرية المطيرف من منطقة الإحساء شرقي الجزيرة العربية في شهر رجب من عام 1166هـ/1752م، وتلقى العلوم الابتدائية على بعض مشايخ منطقته، ثم رحل إلى العراق سنة 1186هـ، وعمره ـ يومذاك ـ  عشرون سنة، ليدرس على بعض كبار علماء الشيعة والنجف وكربلاء كالشيخ  محمد الباقر البهبهاني في كربلاء، والسيد المهدي بحر العلوم، والشيخ جعفر كاشف الغطاء في النجف، وغيرهم، ثم عاد بعد مدة إلى بلاده، وتزوج فيها، ثم هبط البحرين، فسكنها مع عائلته أربع سنوات، وكان يتردد بعد ذلك بين المدة والأخرى إلى العراق لزيارة العتبات المقدسة، وكان كثير الميل للعزلة والخلوة، وفي سنة 1621هـ، جدد العهد بزيارة العتبات في العراق، ومن هنالك؛ انطلق مع ولده الشيخ علي لزيارة المشهد الرضوي في إيران، ولما وصل إلى يزيد اجتمع إليه بعض أهلهاـ وكان الشيخ جعفر كاشف الغطاء النجفي هناك يومئذ ـ وعرضوا عليه البقاء عندهم، فوعدهم بتحقق رغبتهم بعد عودته من زيارة الإمام الرضا. 

ولما عاد من الزيارة استقر في « يزد »، وشرع هناك في التدريس والوعظ، فتألق نجمه، وطار اسمه، وسمع به ملك إيران في حينه السلطان فتح علي شاه القاجاري، فأعجب به، فدعاه إلى القدوم للعاصمة طهران، فاعتذر في البداية لحبه للعزلة وخمول الذكر، لكنه استجاب في النهاية نظرا لإصرار السلطان، واستقبل في طهران بحفاوة، ثم عاد بعد مدة إلى يزيد، ليواصل التأليف وإلقاء الدروس، وكانت له زيارات متعددة لسائر مدن جنوب بلاد فارس كأصفهان وشيراز وجنوب العراق ككربلاء والبصرة، وأخيرا توفي عام 1241هـ. وهو في طريقه إلى الحج على بعد مرحلتين من المدينة، فنقل جثمانه إلى البقيع، ودفن بها.

كان الشيخ الإحسائي  ـ كما يذكر من ترجم له ـ  كثير الذكر، محبا للعزلة عن الناس، كثير الميل إلى حياة الأرياف والصحاري؛ حيث يسود الهدوء، ويسمو الخيال، فعاش الإحسائي في مثل ذلك الجو فترات طويلة وسنين عديدة، فدفع الاستعداد الحاصل له قوة فكره إلى جهة الإشراق، ونمى لديه شعور النيل من عالم الغيب حالة اليقظة والمنام وأخذ يطعم بتلك الخواطر والمكاشفات كلامه إذا تحدث، أودري، وتأليفه متى كتب.وكان عالما تضلع في الفقه والحديث والفلسفة والتفسير، وشارك في العلوم الإسلامية الأخرى التي كانت رائجة في عصره. وكان مفرطا في ولهه ومغالاته في محبة وولاء الأئمة من آل محمد عليهم السلام، إفراطا كان يشطح به عن ضوابط وحدود الشرع، ومزج ذلك بنزعة عرفانية وتفكير صوفي طغى على أسلوبه ، وظهر واضحا في آرائه، وغرق فيه إلى هامته، رغم تنكره للصوفية والعرفاء، وتصديه للرد عليهم. وهكذا ظهرت في مؤلفاته وكتبه العديدة أفكار فيها التفويض؛ أي القول بأن الله تعالى فوض أمر الكون خلقا ورزقا وتدبيرا للأئمة من آل الرسول عليهم السلام، وأن الأئمة مالكو يوم الدين وإياب الخلق يوم المعاد إليهم، وحساب الناس عليهم، وغير ذلك من أفكار الغلو والارتفاع الكثيرة التي ترفع الأئمة الاثني عشر إلى مقام يضفي عليهم الكثير من الصفات الإلهية التي يرى جمهور المسلمين أنها من الصفات الخاصة بالله ـ تعالى ـ لا يشاركه فيها أحد سواه. كما ظهر في أفكاره جليا إنكاره للمعاد الجسماني، وقوله بأن المعاد روحاني محض ـ كقول الفلاسفة ـ وقوله بأن معراج النبي صلى الله عليه وسلم روحانيا، ولم يكن بالجسد والروح، وغير ذلك من الأفكار التي ضلله فيها علماء النجف و إيران.

وكان أهم تلامذته السيد  الكاظم الرشتي الذي اعتبر خليفة الشيخ، حيث استمر ونشط في تثبيت أفكاره من بعده، بل في تطوريها زيادة الغلو فيه، ولم يقعده عن الدعوة تهديد، ولم يثنيه عن المضي في طريقه الرصاص الذي أطلق عليه غير مرة، وقد كان له الأثر البالغ في نشر آراء أستاذه وتعميمها وتركيزها، فقد بذل جهدا مضنيا في الدفاع عنها، وتوجيه المتشابه منها، وتفسيره بما يوافق المعتقد السائد . وترك  ـ كشيخه الإحسائي ـ  كتبا عديدة بالعربية والفارسية.

وقد انقسمت الشيخية بعد كاظم الرشتي إلى مدرستين؛ عرفت الأولى بالشيخية أو مدرسة تبريز، والثانية بالركنية أو مدرسة كرمان، حيث تبنت كل مدرسة مجموعة من الآراء والمعتقدات وتنكرت لها زميلتها.

معتقدات الشيخية والآراء التي خالفوا فيها باقي الشيعة الإمامية:

ترتكز أهم مخالفات الشيخية لعلامة الشيعة الإمامية بأربع نقط؛ هي في الحقيقة أصول الخلاف، والمسائل الرئيسة التي قام حولها النزاع وسجلت عليها المؤاخذات، أما بقية موارد الخلاف فهي في الواقع صغروية تتفرغ عنها.

المسألة الأولى: قضية المعاد:

أي كيفية عودة الناس للحساب يوم القيامة، حيث ذهب الشيخ الإحسائي  ـ رأس المدرسة ـ إلى روحانيته، وأقواله فيه صريحة  لاتقبل التأويل، إلا أنه قد تراجع عنه على إثر قيام الظاهريين عليه، وقال بجسمانيته، وعمد إلى تأويل أقواله بما يوافق الظاهريين، غير أن ذلك لم يجده شيئا.وجاء من بعده تلميذه وخليفته الرشتي، فنفى عن أستاذه تلك القولة ، واعتبرها اتهاما له، واعتذر عنه بمختلف الأساليب، وفي أقواله مغالطة واضحة وتحمل مكشوف، ويبدو أنه كان كثير التحفظ من الهفوات عندما سأل عن كيفية المعاد؛ فقد كان يتناول عموميات المسألة، ولا يتطرق إلى خصوصياتها تفاديا للمشاكل، وربما بالغ في ترضية الظاهريين لحد تكفير القائلين بروحانية المعاد فقط.

وجاء من بعده خليفته جوهر، فلم يختلف في عرضه للمسألة عن أستاذه الرشتى، فقد أيد رأيه ورأي سلفه الإحسائي الأخير من القول بالجسمانية؛ لكنه لوح إلى روحانيته بصورة لا تخفى على اللبيب، فقد صرح بتوسط الجسد المثالي بين الجسد العنصري والروحي، وأن المثالي يدخل يوم القيامة في العنصري الذي يقوم للحساب بعد ذهاب كثافة العارضة، ويبدو واضحا أنه لم يستطع أن يكتم ما يعتقده.

المسألة الثانية: موضوع كيفية معراج النبي صلى الله عليه وسلم:

هل أنه كان روحيا أم جسمانيا وروحانيا؟ حيث ذهب الشيخ الإحسائي إلى كونه روحانيا، واعتقد بأن جسم النبي صلى الله عليه وسلم قد تلطف عند صعوده إلى عالم الكون، ولم يكن بهذا الجسد الكثيف، بل أنه ألقى في كل كرة ما يناسبها، فألقى ترابه في التراب، وماءه في الماء، وهواءه في الهواء، وناره في النار، وأنه لما رجع أخذ من كل كرة ما ألقي فيها؛ لأن صعود عناصره يقتضي الخرق والالتئام في الأفلاك. وتراجع بعد ذلك فناقض نفسه، وقال إنه صعد بجسمه وعمامته وثيابه ونعليه، وأنه لا مانع  من الخرق والالتئام، وأن الله على كل شيء قدير.

وجاء من بعده خليفته كاظم الرشتي، فاقتفى آثاره، وأكد أقواله و آراءه، وتحامل كذلك على من يقول بروحانية المعراج.وجاء من بعده خليفته جوهر، فأيد أقوال سلفه الرشتي، فاقتفى أثاره، وأكد أقواله وآراءه، وتحامل كذلك على من يقول بروحانية المعراج. وجاء من بعده خليفته جوهر، فأيد أقوال سلفه الرشتي، وبالغ، حتى أساء الأدب بالنسبة لمقام الرب ، فزعم أن عرش الله تشرف بنعل رسوله! وجاء خليفته الشيخ موسى الإسكوئي، فذهب إلى نورانية جسم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن عناصر جسمه ليست من تلك الكرات حتى يلقيها فيها، وأنها خلقت قبل خلق الكرات بآلاف الأعوام في الوقت الذي قال فيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كما حكاه عنه القرآن الكريم:﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾ فكيف نفى بشريته وآدميته وهو القائل : «كلكم لآدم وّآدم من تراب».

ولما جاء نوبة خليفته وولده الشيخ  علي الحائري أعاد أقوال من سبقه، وكرر عبارة ـ أو جسارة ـ جوهر بلفظها.واستمرت مدرسة تبريز بعده في تقليد سلفها في هذه المسألة حتى اليوم.

واختلفت مدرسة كرمان عن مدرسة تبريز في هذه المسألة، فقد أكد رأس مدرستها الحاج محمد كريم خان رأي الإحسائي الأول الصريح بروحانية المعاد، لكنه لم يصرح به جملة وتفصيلا، وتلويحه أبلغ من التصريح فمن يرى أن: مشايخه أشاروا إلى المسّألة من  خلف ألف ستار، ولم يكن ليصلح لزمانهم أكثر من ذلك، وأخذ يعتذر؛ بأن خوفه من طغيان النفوس الفرعونية حال دون وضع النقاط على الحروف. و قد أكد غير مرة وكرره بأكثر من أسلوب. ثم عاد كالآخرين، فتنكر لذلك الرأي، وتحامل على الفلاسفة لقولهم به، ورماهم بالجهل بأسرار الخلق واستمر يبرهن ويكثر من الشواهد لدعم قوله.

المسألة الثالثة: مسألة الغلو والتفويض:

وهي أهم المسائل، والحقيقة أنها ليست خاصة بالشيخية، بل أنه يوجد في كل عصر عناصر من الشيعة تدفعهم شدة الولاء والإيمان والحب لأئمة آل البيت إلى تجاوز الحد الذي أمر به، وأقره أهل البيت أنفسهم، فقد نهى الأئمة ـ رضي الله عنهم ـ عن ذلك الغلو مرارا عديدة، وتذمروا ممن كان يرفعهم عن مقامتهم التي أحلهم الله فيها، بل نقموا على أولئك، وأمروا بهجرهم و طردهم، وحرموا على شيعتهم مجالستهم.

وممن تجاوز الحد فرقة الشيخية، فلزعيمها الإحسائي رأي لا يقره المعتدلون، وأقواله في ذلك كثيرة لا تحصى، فهو يعتقد أن آل محمد معاني الله ووجه الذي يتوجه إليه الأولياء، والذي يبقى بعد فناء كل شيء، وأنهم العلل الأربع للمخلوقات؛ أي العلة الفاعلية، والعلة الصورية، والعلة الجسمية، والعلة الغائية، وبما أنهم خلق فوق بني آدم فإن أجسامهم لا ترى بالبصر ولا بالبصائر، وأن لهم قدرة منع الرزق عمن يشاءون؛ لأن الخلق عبيد رق لهم إلى كثير من أمثال ذلك.

وجاء من بعده خليفته الرشتي، فنهج الطريق ذاته، وكرر قول أستاذه حول قدرة آل محمد على منع الرزق عن المخلوق، وأنهم معاني الله ومعادن كلمته، واعتبرهم عظمة جبروته وقدرته، وأنهم ربوبية الله أيضا، وأن كلمة خالق لن تليق بذات الله، ولذلك فالمراد بها وبغيرها من الفعال أهل البيت. ومن طريف آرائه أن التنابك خلق مرا بسبب إنكاره لولاية أهل البيت.

وقد أيد ذلك وأوضحه الشيخ موسى الإسكوئي، وأضاف إليه أن الله صور المخلوقات من الأنبياء إلى الجمادات وفق رغبة آل محمد. فمن أقر بولايتهم  في عالم الذََّرِّ خلق حسن الهيئة، ومن أنكرها خلق قبيحا. وقال بطهارة فضلاتهم ومدفوعاتهم. ولا أدري لماذا لم يكن لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نفسه ـ الذي شرف آله  من أجله ـ مثل تلك المزية؛ بحيث يخيره  الله في كيفية إيجاد الخلق وهيئاتهم، وكانت للأئمة من آله فقط؟!

وهكذا سارت مدرسة تبريز خلف قادتها، واتبعت خطى سلفها، وأعاد من تأخر من علمائهم أقوال مشايخه، وأيد مزاعمهم، وتحمس لها. ولم تكن مدرسة كرمان لتختلف عن أختها في الرأي والمعتقد، فالرأي واحد والأقوال متشابهة، فرأسها  الحاج محمد كريم خان يرى أن أهل البيت هم الخلق الأول، والعلل الأربع لباقي الخلق، وأنهم يفعلون ما يشاءون، ويتولون يوم الجزاء أمر الجنة… والشيعة في نظره غير محاسبين على أعمالهم؛ لأن ولاية آل محمد تطهرهم من كل ذنب! وسار خلفاؤه من بعده سيرته، وأمنوا بآل محمد إيمانه، ومؤلفاته طافحة بتلك الآراء والأقوال.  

وخلاصة القول: أن علماء الشيخية قديما وحديثا قد تجاوزوا الحد المسموح به في تقديس آل البيت، وغالوا في حبهم، حتى فوضوا إليهم بعض الأفعال الإلهية، وهم  وإن صرح البعض منهم بأن ذلك تفويض مشيئة لا تفويض شراكة أو استقلال، فإنهم غير معذورين عند المعتدلين من عامة الشيعة؛ لأن الأئمة أنفسهم قد أنكروا ذلك، ونهوا عنه، وحرموا القول به، فضلا عن كون تلك الأقوال تناقض تعاليم القرآن الكريم نصا وروحا، فمنطق القرآن الكريم يقوم على أساس أن الله وحده هو المستحق للعبادة، لأنه بيده الخلق والرزق والإحياء والإماتة والسعادة والشقاء، وأنه مالك يوم الدين، إليه ـ تعالى ـ إياب الخلق، وعليه وحده حسابهم، فلو كان لغيره هذه الأمور ـ والعياذ بالله ـ لاستحق حسب منطق القرآن ـ العبادة ـ أيضا. فالقول بالتفويض إشراك يناقض مقتضى الكلمة الطيبة التي هي أساس دعوة الإسلام ودعوة جميع الأنبياء، ألا وهي كلمة «لا إله إلا الله».

المسألة الرابعة والأخيرة: الإمام الناطق و الركن الرابع:

وخلاصتها: أنه لا بد لكال زمان من إمام ظاهر غير الإمام الغائب تكون له الوساطة بينه وبين رعيته، ويجب على العلماء دعوة الخلق إليه، وليس لغيره التصدي للأمور إلا بأمره.وهي تخص مدرسة كرمان وحدها، ولذلك سمي شيخه كرمان بــ «الرُّكنيَّة». وقد ظهرت نواتها الأولى في مؤلفات الإحسائي، وتلقاها خليفته الرشتي، فوضحها بعض الشيء. ولما انقسمت الشيخية بعد وفاته، تنكرت مدرسة تبريز للفكرة، وعمد علماؤها إلى ما يدل عليها في مؤلفات الإحسائي والرشتي، فصرفوه إلى معان أخرى، وصارت نصيب شيخية كرمان، فالحاج محمد كريم خان هو الذي تبنى الفكرة، ووضحها. ففي الرسالة التي وجهها إلى أستاذه الرشتي تصريح بذلك. فقد اعتبر الإحسائي قطبا، وأنه الذي يعهد به الرحمن؛ لأنه العقل. وأن الرشتي وريثه في ذلك، وهو القطب من بعده، ومن لم يتوجه إليه في صلاته وسائر أعماله صلى لغير القبلة والوجهة، وسأله عن ولي الأمر من بعده، وأنه لو ادعى الرشتي النبوة لصدقه. وتصريحاته بذلك أكثر من أن تحصى، وهي مبثوثة في مؤلفاته.

وقد اقتفى أثره ولده وخليفته الحاج محمد خان، وصرح به في غير واحد من مؤلفاته ورسائله، فزعم أن وحدة الناطق أمر ثابت قام عليه البرهان من قبل مشايخه ، وأنه يستفيض من الإمام الغائب، ويفيض على الناس، وهو الناطق للنقباء، كما رد على أعلام مدرسة تبريز، ودلل على خطئهم بدعوى متابعة الإحسائي بأن الناطق لا يكون أكثر من واحد، ويقصد بذلك أن وجود أبيه الحاج محمد كريم خان يبطل دعوى الآخرين؛  إذ لم يشركه في أمره أحد. وكرر ذلك بعبارات مختلفة وإيضاحات أكثر، لكنه قد تراجع بعد ذلك، وأخذ يفسر أقوال أبيه التي استدل بها على ركنيته سابقا تفسيرا مغايرا للأول، ويذكر لها معان لم يكن لها ربط بها مطلقا، ودافع عنها كثيرا، واتهم الناس بعدم فهم ما يرمي إليه أبوه.

والمضحك أنه كفر نفسه وأباه ومشايخه الأولين؛ لأنه اعتبر من يذهب إلى ذلك كافرا ملعونا.

واختفت التسمية السابقة ( الإمام الناطق)، وحلت محلها تسمية جديدة ( الركن الرابع)، وأصبح لها مدلول جديد، ومعنى آخر يختلف عن معناها السابق اختلافا كليا، هو: ( موالاة الموالين لآل محمد ومعاداة أعدائهم). وبقي خلفه يعيد، ويصقل، ويفسر، ويؤولّ، إلى أن وصلت النوبة إلى زعيمهم المعاصر الشيخ أبي القاسم الإبراهيمي، فادعى أن ما قاله سلفه هو عين  ما أو جبه العلماء كافة قديما وحديثا، و أشهد الله أن مشايخه يقصدوا غير ذلك، وأن المراد به ليس شخصا معينا. وكذلك الموسوي و كيل مركز كرمان في العراق، فقد أيد تلك المزاعم، ولعن من يعتقد بركنية الحاج محمد خان أو أحد أولاده، ولعن من أبطل النيابة العامة.

 

مصدر المقال: الفرق والمذاهب الإسلامية منذ البدايات، النشأة. التاريخ. العقيدة. التوزيع الجغرافي لسعد رستم، أنوار للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2008، ص:348- 355.

 

                                                            إعداد الباحثة: حفصة البقالي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق