مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةدراسات عامة

فرقة الإسماعيلية في الغرب الإسلامي

   يقول عبد العزيز المجدوب عن انتشار الإسماعيلية وقيام الدولة الفاطمية: «تمكَّن عبيد الله من إقامة أول دولة شيعية في أرض إفريقية بفضل داعيته الداهية المحنك”أبي عبد الله الصنعاني”المشهور بالشيعي، الذي قدم إفريقية وجاسَ خلال قبائل البربر، وداخَلَ نفوسَهم وعقولَهم فاستجابوا لدعوته، والتأمَت صفوفهم حوله، ولم يمر وقت طويل حتى صار له جيش غفير أطاح بدول سجلماسة وتاهرت وبني الأغلب، وأعدَّ لمخدومه وإمامه مملكة واسعة، وجعل منها عبيد الله بعد ذلك دولة عتيدة صارت على أيدي أحفاده إمبراطورية عظيمة في تاريخ الإسلام، ومهما قيل في شأن تنزيه الفاطميين من التطرف وفي كونهم معتدلين وليسوا من غلاة الشيعة، فإن ما أظهَروا من معتقدات، وما سنُّوا من تعاليم أجبروا الناس على اعتناقها واتباعها يُثبت أنهم غلاة مبتدعون, وهذا هو السبب الأساسي للصراع الذي نشب بينهم وبين السنيين من المالكية من أهل إفريقية..»[1].
   وقد كانت بداية الانتشار في الريف المغربي، كما تقول الدكتورة بوبة مجاني حيث: «ركَّزت الدَّعوة الإسماعيلية نشاطها في المناطق الريفية الأقل تحضيرا والبعيدة عن المراكز الإدارية الحيوية، لهذا اختيرت منطقة كتامة الجبلية الريفية لتكون مجالا لبذر المبادئ الشيعية الداعية إلى إقامة إمامة إسماعيلية، واستطاع الداعي أن يكوّنَ مجتمعا جديدا من مجتمع كتامة الريفي بفضل بُعد نظره وذكائه وخبرته، فاصطنع لنفسه منهجا ربَّى عليه أتباعه ليصبح ولاء الفرد فيه ولاء للمذهب وليس للقبيلة أو العصبية، وهذا بفضل سيرته فيهم وبما تميَّزت به تصرُّفاته من تعفُّف وإعراض عن الحياة الدنيا..»[2]   وتأكيدًا لهذا الكلام يقول محمود إسماعيل: «ومن المعروف أن بلاد المغرب كانت ميدانا للدعوة الفاطمية منذ وقت مبكر، فقد عهد محمد الحبيب المقيم بسلمية-من أرض حمص-إلى اثنين من دعاته ببثّ دعوته في بلاد كتامة، ونجحا في التمهيد لما قام به أبو عبد الله الشيعي داعية عبيد الله المهدي فيما بعد، واستطاع أبو عبد الله الشيعي الذي نزل بلاد المغرب سنة 280هـ/893م أن ينشر دعوته بين قبائل كتامة، كما نجح في إعداد جيش منهم تمكَّن بفضله من مناجزة دولة بني الأغلب في إفريقية سنة 289هـ/902م ، ولم يمض طويل وقت حتى دانت لنفوذه معظم أقاليمها الغربية»[3]
   وذهب سعد رستم قائلا: «يعد الفاطميون ـ منذ نشأة دولتهم- نهاية دور السَّتر وبدء دور الظُّهور، ويُعزَى نجاح دولتهم إلى الداعي: الحسين بن أحمد أبي عبد الله الشيعي الصنعاني(ت298هـ)الذي بعث به الإمام الحسين التقيّ إلى بلاد اليمن سنة 278هـ ليتدرب على يد ابن حوشب، ثم توجَّه من هناك إلى المغرب، واستطاع بمهارته وحذقه أن يجمع إليه قبائل كتامة، ويرسخ دعائم دولة إسماعيلية جديدة في إفريقيا، تزعَّمها الإمام عبيد الله المهدي، الذي قدم إليها سنة296هـ، وتسلم مقاليد الحكم فيها، وقد عرفت هذه الدولة التي بدأت في المغرب الأوسط ثم استقرت في مصر(359هـ/970م) وسيطرت على الشام زمنا باسم الدولة العبيدية أو الفاطمية، وبقيت قائمة حتى وفاة الخليفة الفاطمي العاضد، وانفراد صلاح الدين الأيوبي بحكم مصر، وإلغائه الخلافة الفاطمية فيها سنة 567هـ/1170م»[4].
   ويقول حسين كامل حول اختيار بلاد المغرب من طرف عبيد الله المهدي: «كانت كل الظروف ممهدة للمهدي في اليمن أكثر مما كانت عليه بلاد المغرب، وكان المهدي يعلم أن هجرته إلى المغرب محفوفة بأخطار جسيمة، ولكنه كان يتطلع إلى المستقبل أكثر مما يتطلع إلى حاضره، يحدوه الأمل في النجاح أكثر من تفكيره في الفشل، فدفعه الأمل في النجاح في المستقبل إلى أن يختار المغرب داراً لهجرته من دون اليمن، فسار إليها وقدر له النجاح فاستطاع أن يؤسس سنة 297هـ تلك الدولة العتيدة التي عرفت في التاريخ باسم “الدولة الفاطمية”، وبالرغم من مظاهر نجاحه في تأسيس هذه الدولة فقد تعرضت مواهبه الفذة وقدرته إلى امتحانات عسيرة جدا في سياسته، ولا سيما في سياسته نحو قبائل البربر…»[5].
     ويقول عبد الرحمن الدباغ عن تاريخ دولتهم بالمغرب: «دامت خلافة الفاطميين في المغرب نيفا وستين سنة هجرية (من297هـ/909م إلى 362هت/973م) فهي نحو ستين سنة ميلادية، وقد دانت لهم بلاد واسعة تمتد من طرابلس إلى منتصف المغرب الأوسط، فلم تخرج عن سلطانهم منه إلا منطقة تلمسان..»[6].

موقف علماء المغرب والقيروان من هذه الدعوة:

   أما عن موقف المالكية بالمغرب والقيروان من الفاطميين فيقول عبد العزيز المجدوب:  «من قبل أن يقدم الفاطميون إلى القيروان حاكمين كان المالكية يرقبون قدومهم في حذر شديد، مُخَوّفين الأمة من ضلالاتهم متأهّبين لمقاتلتهم مظهرين عداوة شديدة لهم، كل هذا ولمَّا يرَوا بعدُ أفعالهم ولمَّا يسمَعُوا مباشرة منهم نوع تعاليمهم ومعتقداتهم، وقد يعجب الباحث من ذلك ويؤاخذهم على آراء رأَوها وأحكام أصدروها على غير علم وعلى غير أساس، لكنه إذا علم أن أخبار الشيعة وأعمالهم ومبادئهم قد ترامت إلى أسماعهم من بعيد من أقاصي المشرق، وعرَف أن إلى جانبهم وبأرضهم أبا عبد الله الشيعي الداعي يعلن عن تعاليم الإسماعيلية الأولى ويغيّر الفرائض والسنن لدى البربر الكتاميين، وقد بلغتهم أخباره..اطمأن الباحث عندئذ إلى أنهم لم يكونوا في ذلك إلا على بيّنة من الأمر ومن المستقبل الخطير الذي ينتظر المسلمين بإفريقية..»[7]، ثم يضيف قائلا: «ولمَّا أعيت الفاطميين الحيلة في نشر فقههم الشيعي ومعتقداتهم الإسماعيلية راحوا يضطهدون الفقهاء-وما انفكُّوا عن اضطهادهم قبل ذلك-ويمنعونهم من الإفتاء بمذهب مالك ويحكمون عليهم بالإقامة ببيوتهم لا يبرحونها وأن يتنحَّوا عن تعليم الناشئة من طلبة العلم، فركَن شيوخ المالكية والحنفية من السنيين إلى إلقاء دروسهم سرًّا في بيوتهم أو دكاكين حرفهم، ولم يبق من دروس علنية بالجامع الأعظم إلا ما ليس له مساس بالعقيدة والدين كدروس اللغة وقواعدها..»[8].
   ويجلّي عبد العزيز المجدوب موقفهم الصَّريح هذا قائلا: «وأول موقف جماعي اتخذه علماء القيروان ضدَّ الفاطميين تمثَّل في إجماعهم على أن قتالهم واجبٌ وجهادهم فرضٌ، وذلك لما استفتاهم زيادة الله الأخير في أمرهم وبيَّن لهم مناكيرهم وضلالاتهم فأظهر الفقهاء لعنه والبراءة منه وحرَّضوا الناس على قتاله-يعني أبا عبد الله- وأفتَوهم بمجاهدته»[9].
   وتأييدا لهذا الرأي يقول محمد أمحزون: «وإزاء مواقف الدولة العبيدية المُتَّسمَة بالزَّيغ والضَّلال من ناحية، والغطرسة والظلم من ناحية ثانية، لم يكن علماء القيروان ينظرون إلى هذه الدولة كدولة إسلامية، بل كانوا يعتبرونها دولة كفر تريد إحلال عقائد وأحكام المذهب الإسماعيلي الباطني محل عقائد الإسلام وأحكامه. فلم تكن المسألة عندهم ثانوية لها علاقة بالخلاف المذهبي في الفروع، وإنما كانت مسألة لها علاقة بأصول الدين والعقيدة تتعلق بدولة كافرة، تسعى لإحلال الإباحية ونشر الزندقة في المجتمع الإسلامي. والغالب على الظن أن الدولة العبيدية لو كانت دولة شيعية إمامية أو زيدية لما لاقت كل ذلك الصَّدّ والمقاومة من علماء القيروان، ولما جهر العلماء بعدائهم لها، ولكان لهم في مقاومتها طريقة أخرى غير التي ساروا عليها»[10].
   ولكن كان من حسناتهم أن نبغ فيهم فقيه مبرز يقول عنه عبد العزيز المجدوب: «وأنبغ فقيه عندهم برز في التشريع الفاطمي بكثرة تآليفه إمام من أهل إفريقية، نقله المعز معه إلى مصر فأضحى للدولة الفاطمية حجة المذهب عقيدة وشريعة.. هو القاضي أبو حنيفة النعمان المغربي ويسميه الإسماعيلية”سيدنا القاضي النعمان” تمييزا عن أبي حنيفة النعمان صاحب المذهب الحنفي. وكان النعمان مالكي المذهب كسائر أفراد أسرته، ثم انتحل المذهب الإسماعيلي فأخلص له، وتفرَّغ في أيام المهدي والقائم والمنصور للجمع والحفظ ونشر الكتب الخاصة بالمذهب، واستقضاه القائم على طرابلس..ومن أهم كتبه”كتاب المجالس والمسايرات” ألَّفه بإفريقية، وهو يعتبر أهم المصادر التي تناولت تاريخ الفاطميين في الدور المغربي، وأهم كتب الدعوة الإسماعيلية الفاطمية لأن مؤلفه النعمان استمد مادته من الإمام المعز لدين الله نفسه، وقد عدَّه أنصار المذهب الإسماعيلي من أهم مراجعهم الدينية»[11].

 

 

الهوامش:

[1] الصراع المذهبي بإفريقية إلى قيام الدولة الزيرية-عبد العزيز المجدوب-دار ابن حزم-بيروت-الطبعة الأولى/2008-ص:188-189-وانظر كذلك: أخبار ملوك بني عبيد وسيرتهم لأبي عبد الله محمد بن علي بن حماد-تحقيق ودراسة التهامي نقرة وعبد الحليم عويس-دار الصحوة للنشر-القاهرة/د.ت-ص:118][2] المذهب الإسماعيلي وفلسفته في بلاد المغرب-الدكتورة بوبة مجاني-منشورات الزمن(قضايا تاريخية) –عدد6/2005- مطبعة النجاح/الدار البيضاء-ص:54
[3] الخوارج في بلاد المغرب حتى منتصف القرن الرابع الهجري- الدكتور محمود إسماعيل عبد الرازق-دار الثقافة–الدار البيضاء-الطبعة الثانية/1985-ص:209-وانظر كذلك:ابن الآثير:الكامل-القاهرة/1303هـ- ج6ص127-ابن عذارى:البيان المغرب-بيروت/19510 ج1ص172-ابن الابار: الحلة السيراء-القاهرة/1963 -ج1ص191
[4] الفرق والمذاهب الاسلامية:سعد رستم-ص:292
[5] طائفة الإسماعيلية:تاريخها نظمها عقائدها:محمد كامل حسين -ص:30
[6] معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان-عبد الرحمن الدباغ-المطبعة العربية التونسية/1320-ج-3-ص:113
[7-8-9] الصراع المذهبي بإفريقية:عبد العزيز المجدوب-ص:206 وانظر كذلك:البيان المغرب- ج1ص:137و172-ومعالم الايمان- ج-3-ص:113
[10] الفرق الباطنية(التاريخ والمنهاج) محمد أمحزون-سلسلة(لتستبين سبيل المجرمين)نشر هذا الكتاب بالتنسيق مع كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمكناس المغرب-الطبعة الأولى/2010-ص:69
[11] الصراع المذهبي بإفريقية:عبد العزيز المجدوب-ص:202

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق