مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةدراسات عامة

عن نشأة الأشعرية وتطورها

يقول ابن خلدون:

  «…ثم لما كثرت العلوم والصنائع، وولع الناس بالتدوين والبحث في سائر الأنحاء، وألَّف المتكلمون في التنزيه، حدَثت بدعة المعتزلة في تعميم هذا التنزيه في آي السُّلوب، فقضَوا بنفي صفات المعاني من العلم والقدرة والإرادة والحياة زائدة على أحكامها لما يلزم على ذلك من تعدد القديم بزعمهم، وهو مردود بأن الصفات ليست نفس الذات ولا غيرها. وقضَوا بنفي صفة الإرادة، فلزمهم نفي القدر، لأن معناه سبق الإرادة للكائنات.وقضَوا بنفي السمع والبصر لكونهما من عوارض الأجسام، وهو مردود بعدم اشتراط البنية في مدلول هذا اللفظ، وإنما هو إدراك للمسموع المبصر. وقضَوا بنفي الكلام لشبه ما في السمع والبصر، ولم يعقلوا صفة الكلام التي تقوم بالنفس، فقضوا بأن القرآن مخلوق،  بدعة [1]صرح السلف بخلافها. وعظم ضرر هذه البدعة، ولقنها بعض الخلفاء عن بعض أئمتهم، فحمل عليها الناس[2] وخالفهم أئمة الدين[3]، فاستباح بخلافهم أبشار[4] كثير منهم ودماءهم. وكان ذلك سببا لانتهاض أهل السنة بالأدلة العقلية على هذه العقائد دفعا في صدور هذه البدع. وقام بذلك الشيخ أبو الحسن الأشعري إمام المتكلمين فتوسط بين الطرق ونفى التشبيه  وأثبت الصفات المعنوية، وقصر التنزيه على ما قصره عليه السلف، وشهدت له الأدلة المخصصة لعمومه. فأثبت الصفات الأربع المعنوية، والسمع والبصر والكلام القائم بالنفس بطريق العقل والنقل. وردَّ على المبتدعة في ذلك كله. وتكلَّم معهم فيما  مهَّدوه  لهذه البدع من القول بالكلام القائم بالنفس بطريق النقل والعقل بالصلاح والأصلح، والتحسين والتقبيح. وكمَّل العقائد في البعثة [5] وأحوال المعاد والجنة والنار والثواب والعقاب. وأَلحق بذلك الكلام في الإمامة، لما ظهر حينئذ من بدعة الإمامية في قولهم إنها من عقائد الإيمان وإنها يجب على النبي تعيينها والخروج عن العهدة فيها لمن هي له وكذلك على الأمة. وقصارى أمر الإمامة أنها قضية مصلحية اجتماعية[6]، ولا تلحق بالعقائد. فلذلك ألحقوها بمسائل هذا الفن. وسمَّوا مجموعه علم الكلام، إما لما فيه من المناظرة على البدع، وهي كلام صرف، وليست براجعة إلى عمل، وإما لأن سبب وضعه والخوض فيه هو تنازعهم في إثبات الكلام النفساني.

  وكثر أتباع الشيخ أبي الحسن الأشعري، واقتفى طريقته من بعده تلميذه، كابن مجاهد وغيره. وأخذ عنهم القاضي أبو بكر الباقلاني، فتصدر للإمامة في طريقتهم، وهذَّبها، ووضع المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة والأنظار، وذلك مثل إثبات الجوهر الفرد، والخلاء، وأن العرض لا يقوم بالعرض، وأنه لا يبقى زمانين، وأمثال ذلك مما تتوقف عليه أدلتهم. وجعل هذه القواعد تبعا للعقائد الإيمانية في وجوب اعتقادها لتوقف تلك الأدلة عليها، وأن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول. فكملت هذه الطريقة، وجاءت من أحسن الفنون النظرية والعلوم الدينية. إلا أن صور الأدلة فيها جاءت في [7] بعض الأحيان على غير الوجه الصناعي [8]، لسذاجة القوم، ولأن صناعة المنطق التي تسبر بها [9] الأدلة وتعتبر بها الأقيسة لم تكن حينئذ ظاهرة في الملة. ولو ظهر منها بعض الشيء، لم يأخذ بها المتكلمون لملابستها للعلوم الفلسفية المباينة لعقائد الشرع بالجملة، فكانت عندهم مهجورة لذلك. ثم جاء بعد القاضي أبي بكر من أئمة الأشعرية، إمام الحرمين أبو المعالي، وأملى في الطريقة كتاب”الشامل”، ووسَّعَ القولَ فيه، ثم لخصه في كتاب”الإرشاد”، واتخذه الناس [10]، وفرَّقوا بينه وبين العلوم الفلسفية بأنه قانون ومعيار للأدلة فقط، تسبر به الأدلة[11] كما تسبر من سواها. ثم نظروا في تلك القواعد المقدمات في فن الكلام للأقدمين، فخالفوا الكثير منها بالبراهين التي أدَّتهم إلى ذلك. وربما أن كثيرا منها مقتبس من كلام الفلاسفة في الطبيعيات والإلهيات. فلما سبروها بمعيار المنطق ردهم إلى ذلك فيها، ولم يعتقدوا بطلان المدلول من بطلان دليله، كما صار إليه القاضي. فصارت هذه الطريقة في [12] مصطلحهم مباينة للطريقة الأولى، وتسمى (طريقة المتأخرين)، وربما أدخلوا فيها الرد على الفلاسفة فيما يخالفون فيه من العقائد الإيمانية، وجعلوهم من خصوم العقائد لتناسب الكثير من مذاهب المبتدعة ومذاهبهم. 

  وأول من كتب في طريقة الكلام على هذا المنحى الغزالي، وتبعه الإمام ابن الخطيب وجماعة قَفَوا أثرهم واعتمدوا تقليدهم، ثم توغَّل المتأخرون من بعدهم في مخالطة كتب الفلسفة، والتبس عليهم شأن الموضوع في العِلمين، فحسبوه فيهما واحدا من اشتباه المسائل فيهما.

  واعلم أن المتكلمين لما كانوا يستدلون في أكثر أحوالهم بالكائنات وأحوالها على وجود الباري وصفاته، وهو نوع استدلالهم غالبا، والجسم الطبيعي الذي ينظر فيه الفيلسوف في الطبيعيات هو بعض من هذه الكائنات، إلا أن نظره فيها مخالف لنظر المتكلم، هو ينظر الجسم من حيث يتحرك ويسكن، والمتكلم ينظر فيه من حيث يدل على الفاعل. وكذا نظر الفيلسوف في الإلهيات، إنما هو نظر في الوجود المطلق وما يقتضيه لذاته، ونظر المتكلم في الموجود من حيث يدل على الموجِد. وبالجملة، فموضوع علم الكلام عند أهله إنما هو العقائد الإيمانية بعد فرضها صحيحة من الشرع من حيث يمكن أن يستدل عليها بالأدلة العقلية، فتدفع البدع وتزال الشكوك والشبه عن تلك العقائد… ».

[المقدمة – للعلامة عبد الرحمن بن خلدون – النسخة الأولى بتحقيق: عبد السلام الشدادي – منشورات: بيت الفنون والعلوم والآداب/الدار البيضاء-  الطبعة الأولى/2005- ج/3 – ص:33-34-35].

[والنسخة الثانية بتحقيق: علي عبد الواحد وافي- ملتزمة الطبع والنشر: لجنة البيان العربي– الطبعة الأولى/ 1960– ج/3- ص: 1044- 1045 – 1046 – 1047 – 1048].


********************************************

الهوامش:

[1] في النسخة الثانية وردت: (وذلك بدعة) 

[2] في النسخة الثانية وردت: (فحمل الناس عليها)

[3] في النسخة الثانية وردت: (السلف)

[ٍ4] في النسخة الثانية وردت: (فاستحل لخلافهم  إيسار (من الأسر) كثير منهم ودماؤهم..)

[2] في النسخة الثانية وردت: (والبعث)

[6] في النسخة الثانية وردت: (إجماعية)

[7] لم ترد في النسخة الثانية

[8] في النسخة الثانية وردت: (القناعي)

[9] في النسخة الثانية وردت: (تسير)

[10] في النسخة الثانية وردت: ( واتخذه الناس إماما لعقائدهم، ثم انتشرت من بعد ذلك علوم المنطق في الملة، وقرأه الناس وفرقوا بينه..)

[11] في نسخة أضيفت: (منها)

[12] في النسخة الثانية وردت: (من)

 

«…ثم لما كثرت العلوم والصنائع، وولع الناس بالتدوين والبحث في سائر الأنحاء، وألَّف المتكلمون في التنزيه، حدَثت بدعة المعتزلة في تعميم هذا التنزيه في آي السُّلوب، فقضَوا بنفي صفات المعاني من العلم والقدرة والإرادة والحياة زائدة على أحكامها لما يلزم على ذلك من تعدد القديم بزعمهم، وهو مردود بأن الصفات ليست نفس الذات ولا غيرها. وقضَوا بنفي صفة الإرادة، فلزمهم نفي القدر، لأن معناه سبق الإرادة للكائنات.وقضَوا بنفي السمع والبصر لكونهما من عوارض الأجسام، وهو مردود بعدم اشتراط البنية في مدلول هذا اللفظ، وإنما هو إدراك للمسموع المبصر. وقضَوا بنفي الكلام لشبه ما في السمع والبصر، ولم يعقلوا صفة الكلام التي تقوم بالنفس، فقضوا بأن القرآن مخلوق،  بدعة [1]صرح السلف بخلافها. وعظم ضرر هذه البدعة، ولقنها بعض الخلفاء عن بعض أئمتهم، فحمل عليها الناس[2] وخالفهم أئمة الدين[3]، فاستباح بخلافهم أبشار[4] كثير منهم ودماءهم. وكان ذلك سببا لانتهاض أهل السنة بالأدلة العقلية على هذه العقائد دفعا في صدور هذه البدع. وقام بذلك الشيخ أبو الحسن الأشعري إمام المتكلمين فتوسط بين الطرق ونفى التشبيه  وأثبت الصفات المعنوية، وقصر التنزيه على ما قصره عليه السلف، وشهدت له الأدلة المخصصة لعمومه. فأثبت الصفات الأربع المعنوية، والسمع والبصر والكلام القائم بالنفس بطريق العقل والنقل. وردَّ على المبتدعة في ذلك كله. وتكلَّم معهم فيما  مهَّدوه  لهذه البدع من القول بالكلام القائم بالنفس بطريق النقل والعقل بالصلاح والأصلح، والتحسين والتقبيح. وكمَّل العقائد في البعثة [5] وأحوال المعاد والجنة والنار والثواب والعقاب. وأَلحق بذلك الكلام في الإمامة، لما ظهر حينئذ من بدعة الإمامية في قولهم إنها من عقائد الإيمان وإنها يجب على النبي تعيينها والخروج عن العهدة فيها لمن هي له وكذلك على الأمة. وقصارى أمر الإمامة أنها قضية مصلحية اجتماعية[6]، ولا تلحق بالعقائد. فلذلك ألحقوها بمسائل هذا الفن. وسمَّوا مجموعه علم الكلام، إما لما فيه من المناظرة على البدع، وهي كلام صرف، وليست براجعة إلى عمل، وإما لأن سبب وضعه والخوض فيه هو تنازعهم في إثبات الكلام النفساني.
وكثر أتباع الشيخ أبي الحسن الأشعري، واقتفى طريقته من بعده تلميذه، كابن مجاهد وغيره. وأخذ عنهم القاضي أبو بكر الباقلاني، فتصدر للإمامة في طريقتهم، وهذَّبها، ووضع المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة والأنظار، وذلك مثل إثبات الجوهر الفرد، والخلاء، وأن العرض لا يقوم بالعرض، وأنه لا يبقى زمانين، وأمثال ذلك مما تتوقف عليه أدلتهم. وجعل هذه القواعد تبعا للعقائد الإيمانية في وجوب اعتقادها لتوقف تلك الأدلة عليها، وأن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول. فكملت هذه الطريقة، وجاءت من أحسن الفنون النظرية والعلوم الدينية. إلا أن صور الأدلة فيها جاءت في [7] بعض الأحيان على غير الوجه الصناعي [8]، لسذاجة القوم، ولأن صناعة المنطق التي تسبر بها [9] الأدلة وتعتبر بها الأقيسة لم تكن حينئذ ظاهرة في الملة. ولو ظهر منها بعض الشيء، لم يأخذ بها المتكلمون لملابستها للعلوم الفلسفية المباينة لعقائد الشرع بالجملة، فكانت عندهم مهجورة لذلك. ثم جاء بعد القاضي أبي بكر من أئمة الأشعرية، إمام الحرمين أبو المعالي، وأملى في الطريقة كتاب”الشامل”، ووسَّعَ القولَ فيه، ثم لخصه في كتاب”الإرشاد”، واتخذه الناس [10]، وفرَّقوا بينه وبين العلوم الفلسفية بأنه قانون ومعيار للأدلة فقط، تسبر به الأدلة[11] كما تسبر من سواها. ثم نظروا في تلك القواعد المقدمات في فن الكلام للأقدمين، فخالفوا الكثير منها بالبراهين التي أدَّتهم إلى ذلك. وربما أن كثيرا منها مقتبس من كلام الفلاسفة في الطبيعيات والإلهيات. فلما سبروها بمعيار المنطق ردهم إلى ذلك فيها، ولم يعتقدوا بطلان المدلول من بطلان دليله، كما صار إليه القاضي. فصارت هذه الطريقة في [12] مصطلحهم مباينة للطريقة الأولى، وتسمى ( طريقة المتأخرين )، وربما أدخلوا فيها الرد على الفلاسفة فيما يخالفون فيه من العقائد الإيمانية، وجعلوهم من خصوم العقائد لتناسب الكثير من مذاهب المبتدعة ومذاهبهم. 
وأول من كتب في طريقة الكلام على هذا المنحى الغزالي، وتبعه الإمام ابن الخطيب وجماعة قَفَوا أثرهم واعتمدوا تقليدهم، ثم توغَّل المتأخرون من بعدهم في مخالطة كتب الفلسفة، والتبس عليهم شأن الموضوع في العِلمين، فحسبوه فيهما واحدا من اشتباه المسائل فيهما.
 واعلم أن المتكلمين لما كانوا يستدلون في أكثر أحوالهم بالكائنات وأحوالها على وجود الباري وصفاته، وهو نوع استدلالهم غالبا، والجسم الطبيعي الذي ينظر فيه الفيلسوف في الطبيعيات هو بعض من هذه الكائنات، إلا أن نظره فيها مخالف لنظر المتكلم، هو ينظر الجسم من حيث يتحرك ويسكن، والمتكلم ينظر فيه من حيث يدل على الفاعل. وكذا نظر الفيلسوف في الإلهيات، إنما هو نظر في الوجود المطلق وما يقتضيه لذاته، ونظر المتكلم في الموجود من حيث يدل على الموجِد. وبالجملة، فموضوع علم الكلام عند أهله إنما هو العقائد الإيمانية بعد فرضها صحيحة من الشرع من حيث يمكن أن يستدل عليها بالأدلة العقلية، فتدفع البدع وتزال الشكوك والشبه عن تلك العقائد… ».
[ المقدمة – للعلامة عبد الرحمن بن خلدون – النسخة الأولى بتحقيق: عبد السلام الشدادي – منشورات: بيت الفنون والعلوم والآداب/الدار البيضاء-  الطبعة الأولى/2005- ج/3 – ص:33-34-35]، 
والنسخة الثانية بتحقيق: علي عبد الواحد وافي- ملتزمة الطبع والنشر: لجنة البيان العربي– الطبعة الأولى/ 1960 – ج/3- ص: 1044-1045 – 1046 – 1047 – 1048
الهوامش:
[1] في النسخة الثانية وردت: (وذلك بدعة) 
[2] في النسخة الثانية وردت: (فحمل الناس عليها)
[3] في النسخة الثانية وردت: (السلف)
[ٍ4] في النسخة الثانية وردت: (فاستحل لخلافهم  إيسار (من الأسر) كثير منهم ودماؤهم..)
[2] في النسخة الثانية وردت: (والبعث)
[6] في النسخة الثانية وردت: (إجماعية)
[7] لم ترد في النسخة الثانية
[8] في النسخة الثانية وردت: (القناعي)
[9] في النسخة الثانية وردت: (تسير)
[10] في النسخة الثانية وردت: ( واتخذه الناس إماما لعقائدهم، ثم انتشرت من بعد ذلك علوم المنطق في الملة، وقرأه الناس وفرقوا بينه..)
[11] في نسخة أضيفت: (منها)
[12] في النسخة الثانية وردت: (من)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق