وحدة الإحياءدراسات محكمة

عن مفهوم الأمة وأزمة الفصام.. بين العلوم الإسلامية والإنسانية في الفضاء الإسلامي

موضوع الأمة في الإسلام من الموضوعات الحيوية المتجددة التي نجد لها موضعا خاصا في قرارة نفس كل مسلم، والذي يجد بين الفينة والفينة من الأحداث والوقائع ما يحرّكه ليتحرك من خلاله ضمير ووجدان المسلم الفرد، ليجد نفسه يستشعر من الوشائج والأواصر التي تربطه بجماعة قد لا يدركها في تمام أبعادها، وقد بات في عصر اختلفت فيه المُدركَات وتكاثرت/تكاثفت فيه المؤثرات الوضعية والموضعية حتى باعدت بينه وبين المعايشة الخارجية لحقيقته الجماعية.

ولا شك أن الأحداث، والوقائع المادية التي تشهدها المجتمعات المعاصرة في مواطن تقطنها جماعات تنحدر من الكيان الاجتماعي الحضاري الإسلامي؛ هي من الأسباب المباشرة التي تُعاود فرض وقْع هذه الحقيقة الجماعية على ضمير الفرد المسلم لتجعله يعايشها ويدركها من خلال الخبرة الذاتية. وتجتمع كل من الخبرة الذاتية والواقع الموضوعي لتكفل لنا استمرار الأمة ظاهرة حيوية متجددة على مسرح التاريخ المشهود.

غير أننا نعيش عصر العلم الذي تحكمه مدركات المنطق والعقل، وإن كانت سيادة المنطق العقلاني لا تعني ضمور الحس، وتلاشي موضع الوجدانيات، فإن من مقتضيات التوازن بهذا الصدد أن تكون للعقل الحُجَّة على السلوك، وأن تكون له اليد العليا في ضبط المسار والحكم على مجريات الأمور. ومن ثَمَّ فإنه يجب إخراج موضوع الأمة من دائرة الانفعالات الحسيّة والوجدانية إلى دائرة المدركات الواعية، وعلينا أن نبحث في التأصيل للظواهر الموضوعية؛ أي أننا يمكن أن نحدّد المهمَّة المُلقاة على جيل من المفكرين والدارسين في مجال الإنسانيات في المنطقة الحضارية الإسلامية، في أنها تستوجب الانعكاف على تحليل الظاهرة الاجتماعية والسياسية وترجمتها تأصيلا وتفريعا إلى مفاهيم علمية ومدركات منطقية، “والأمة” هي أم الكيانات الجماعية التي عرفتها هذه المنطقة الحضارية، وبالتالي تكون على رأس هذه الظواهر الاجتماعية السياسية التي تدعو إلى البحث والنظر، وتصير مهمّة الباحث المتفقِّه تحويل الأمّة موضوعا من “ظاهرة” إلى “مفهوم” … والارتقاء بالأمة من مستوى الوجدانية إلى مستوى المدركات العقلية، أو قُلْ لنجمع في توازن محمود بين حيِّز المحسوسات والمدركات، الحيِّز الوجداني والحيِّز العقلي، وتكون بذلك في سبيل ترشيد شعورنا وتحويل انفعالات لاشعورية، إلى تفاعلات واعية إرادية، ومن جانب آخر ننتحي سبيل إكساب سلوكنا المنطقي العقلاني والواعي الإرادي، تلك الأبعاد المعنوية والقِيَمية التي تُضفي عليه ذلك المعنى الإيجابي والمضمون الأخلاقي الذي لا يستوي بدون أي منهما التطور الحضاري للإنسان.

لذلك يأتي مقالنا التالي علامة، وبداية محدودة متواضعة في سياق دعوة نطرحها اليوم في عصر حصلت فيه أكثر الشعوب الإسلامية على استقلالها السياسي، وإن لم تكتمل أركان حريتها بعد…، وقد ظهرت بينها مصادر وأسباب الثروة المادية وصارت أكثر انفتاحا على العالم المعاصر واتصالا به، وفي متناولها الكثير من وسائل العصر الفنية ومنجزاته العلمية، وصارت تبذل جهود طيبة في مجالات التعليم مما يبشِّر بميلاد جيل ينفض عنه غبار الجهل وبلاء الانقياد ويشق طريق الذات بالذات.  وإن كانت هذه من إيجابيات العصر، فهناك السلبيات التي هي حصيلة إرث ماض ومردودات واقع، وقد تجمعت في بؤرة من الأزمات المتصلة يعيشها هذا الجيل ذاته، وعلى رأسها أزمة الهوية، وأزمة الثقة في الذات وأزمة العلوم والمعارف الإسلامية. ومن هنا تأتي أهمية طرح موضوع الأمة على بساط البحث والحوار.

ولو أردنا أن نوجز أهمية طرح هذا الموضوع لأجملناها في السياق التالي:

موضوع الأمّة يمَسُّ الذات “الكيان الذاتي الجماعي الإسلامي”

والسؤال هو: كيف لنا أن ننتقل بهذه الذات الجماعية من مستوى اللاشعور واللاوعي، إلى مستوى الشعور الواعي والإدراك المُتَفقِّه؟

والرد أن ذلك يستوجب تحويل الأمّة من ظاهرة حِسّية وجدانية إلى مفهوم عقلي منطقي.

وتعقيبا على ذلك… نقول: إن هذه العملية ليست فقط ضرورة يفرضها منطق العصر، ولكنها كذلك متاحة وممكنة بحكم الشروط والإمكانيات التي تتوفر لدينا في هذا العصر.

وتوضيحا… نضيف أن الدعوة التي نطرحها تقتضي أن نستثمر إمكانيات العصر في حل مشكلاتنا، والمنهج العلمي من بين هذه الإمكانيات. وعلى رأس هذه المشكلات الاجتماعية والسياسية، بل والإنسانية، مشكلة الانتماء، ومشكلة الهوية.

إن طرح موضوع الأمة على المستوى الفكري والعلمي هو المدخل العلمي لحل هذه المشكلة.

وعند هذا المفرق والمُلتقى تأتي دعوتنا إلى ضرورة أن نستثمر إيجابيات عهد في معالجة سلبياته، وأن نتخذ من ولوجنا عصر العلم والمدركات العقلية والمنطقية مدخلا لكشف النقاب عن الكثير من أمور معاشنا ونُظُم مجتمعاتنا، وقد غابت عنّا أصولها الأوّلية، وما أحوجنا إلى أن نلقي ببصيص من نور العلم على بعض الحقائق الذاتية التي تَمَسُّ كياننا الجماعي العربي وطبيعة هويتنا.

وتزداد أهمية هذه الدعوة في عصر تداخلت فيه المفاهيم واختلطت فيه المدركات باسم العلم وبمقتضى تشعب فروعه، وفاتنا أن العلم منهج قبل أن يكون نتاجاً أو مضمونا، وأن مضمون ومحتوى وموضع المنهج في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية إنما هو خبرات ذاتية حضارية؛ منها ما قد يكون ذا مغزى وفحوى إنساني عام، ومنها ما هو خاص بقطاع معلوم منها. أو قاصر على مرحلة من مراحل تطورها … وعلى أي حال فإن الموازنة بين الأبعاد النسبية والأبعاد المطلقة في العلوم الإنسانية إنما هي موازنة دقيقة صعبة يجانبها القول الفصل، وقد فاتتنا هذه المعاني والأبعاد، فوجدنا أنفسنا أمام بعض المفارقات تجعلنا نوغِل في بحث الكيانات الجماعية والهوِّيات الاجتماعية، ونقيم من التصنيفات والتقسيمات السياسية والحضارية ما هو بعيد عن إدراكنا الحسي أو هامشي على خبرتنا  التاريخية ووعينا الذاتي، أو سطحي، أو دخيل، أو جديد مضاف لم يجد بعد مستقرًّا له، وإذا بالمدركات الحسِّية تُجهَّل وتُهمل، وإذا بالخبرة التاريخية الخاصة بنا تسقط في ضمير اللاوعي الذاتي، وإذا بالوعي الذاتي يضِلُّ ويتعثر… وقد آن لنا أن نأخذ بزمام أمرنا ونعقد العزم على أن نأخذ بالمنهج العلمي لنُسهم بنصيبنا نحن في الإضافة إلى مضمون ومحتوى العلوم الإنسانية المعاصرة من منطلق خبراتنا الخاصة وتمايزنا الحضاري – هذا فضلا عن مبادرتنا، في أثناء هذه المحاولة بالبت في مشكلاتنا العملية.

وإننا إذا ما تذكرنا أنه على مدى ثلاثة عشر قرناً أو يزيد ظل ضمير الجماعة التي قطنت أرجاء دار الإسلام، من شعوب وقبائل – يتشكل بوعي “الأمة”، على نحو أو آخر، وبدرجة تزيد أو تقل في ضوء الظروف والملابسات التاريخية والخاصة، وإذا ما أدركنا أن المفهوم القومي الذي جاء ليعيد تشكيل هذا الضمير الجماعي في صياغة بديلة؛ إنما هو مفهوم حديث نسبيا لا يكاد يجد له القرار في وعي الجماعة إلا ليجد أنه يتزاحمه مع غيره من المفاهيم والتصورات المُشوشة وأنه لا يحتكر المَقام… فإننا لنتعجب إثر ذلك أن نجد أن المفهوم الأم “مفهوم الأمَّة في الإسلام” لم يجد الحظ الوافي من الدراسات الجارية. بل والأكثر من ذلك أن الدراسات العلمية التي تناولت الموضوع بشيء من التعمُّق والبسط، إنما جاءت على أقلام غريبة عليه، من خارج الحيِّز الحضاري البشري موضع الدراسة.

ولنا أن نسأل… ألم يأت علينا بعد حين من الدهر نأخذ فيه بزمام أمرنا لنَثْبُت على أقدامنا ونُعمِل عقولنا في التحقق من ذاتنا وإدراك حقيقة كياننا، لننتقل بذلك من حال إلى حال، نبارح حال المفعول به، موضع البحث والنظر، تارة في فضول مشفوع بتعجب، وتارة في شفقة وازدراء، وتارة في حذر ورهبة… ونمتطي حال الفاعل، صاحب الوِجْهة والرأي، والجدير بالاعتبار والنظر، القادر على الفعل والحركة؟ وإذا بنا ونحن في غمرة هذه العملية… أضحينا قيمة على قيمة من خلال وصْلِ الذات بالذات، وتحقيق ذلك القدر من التفاعل الذاتي، الذي هو مقدمة للإنجاز والإبداع والابتكار، من خلال التواصل مع التراث، وإن كان موضوع الأمّة والجماعة عادة ما جاءت معالجته في كتب الفقه والشرع بين ثنايا البحث في أمور الخلافة والإمامة، فإنه لمن منطلقات عصرنا الحالي أن نتخذ من الأمة والجماعة المدخل والمسلك في بحث قضايا الحكم والنظم. وقد يقول قائل:… إن الأمة، موضوع “إسلاميات”، ونحن إذ نؤصّل في العلوم الاجتماعية والسياسية الحديثة، في عصر سمته “التحديث”، و”العصرنة”، و”العلمنة”، ومن تبعاته الفصل بين الدين والدولة، وتعميق التخصص بين فروع العلم والمعرفة، فما بالنا نخلط بين “الإسلاميات” و”الإنسانيات”، ولماذا لا نترك موضوع الأمة في الإسلام لعلماء الدين وفقهاء الشرع ونعكف نحن على تحليل ظواهر المجتمع العصري الذي نحن بصدد تشييده.. وكأن الأمة باتت تراثا يُبحث من مخازن التاريخ ليُحال إلى أروقة المتاحف…، وفات هؤلاء أن الإسلام دين حياة قبل أن يكون دين آخرة وأنه نُزِّل لأحياء في المجتمعات الإنسانية، وليشرِّع “للحياة الدنيا”، وليكون نهجا للاتصال والتواصل بين أبعاد هذه الحياة المختلفة بعضها البعض، وبين الحياة الدنيا والآخرة سواء، كما فات أولئك أن عالِم الاجتماعيات والإنسانيات المسلم هو “فقيه” العصر في شؤون الجماعة وقضايا الاجتماع والتنظيم والسلطة وهو مسلِمٌ قبل أن يكون عالما، ولا يمكن أن يُحجر عليه في تناول شؤون الجماعة ويُطلب إليه أن يلتزم “تخصصه”… نعم له أن يستعين بأهل الذكر إن كان لا يعلم، ولكنّه يستعين لكي يعمل بما يعلم، ولكي يُثرى مجاله بتأصيله في منابعه.

ألم يأت علينا بعدُ، ذلك الحينُ من الدهر الذي نقوم فيه برأب الصدع المفتعل بين “الإسلاميات” و”الإنسانيات”، ألسنا الأجدر بأن نأخذ بزمام المبادرة لتوحيد أسس وقواعد بنياننا الفكري والنفسي لنعيد دمج الإسلاميات بالإنسانيات، وعلوم الفقه والشرع بعلوم الحياة واجتماع الأحياء؟ ونحن نعلم أن هذا الشرخ أو الصدع في البناء حديث، لا يكاد يرجع إلى قرن ونصف من الزمن إثر مواجهة حضارية متجددة مع أوربا الغرب من موقع حضاري متهاوٍ.

ولكننا اليوم، إذ ندعو لإعادة النظر في هذا الفصام بين العلوم العصرية والعلوم التقليدية، وبين علوم الإسلاميات وعلوم الإنسانيات، وبين علوم الدنيا… وعلوم الآخرة؛ لنا نُبْشِر بأننا نوجه دعوتنا هذه في جو بات مهيئا لها؛ فمع طلائع عودة الوعي وملامح استعادة الثقة بالذات تتجمع خيوطها رويدا رويدا، أخذ الشك يدب في النفس إزاء مُسلّمات قرن مضى، ولاحت في أفق أرجاء مختلفة من ديار الأمّة نواة لتجارب تقوم على بعث كيان فكري متكامل وموحد… يعالج من خلاله آثار الانفصام أو الازدواج الذي طالما خيَّم على شخصية المسلم المعاصر… ويعمد إلى تجاوز العقلية النثرية المجزئة التي لم تلبث أن دعمتها بيئة التخلف والتآكل الحضاري من جانب، ونظم التعليم المتوازية في تضارب وازدواج، وتجزؤ وتسطيح من جانب آخر.

وعلى ذلك فإن موضوع الأمة في الإسلام مجال بحث نجد أنه قادر على أن يسهم في رأب الصدع في البناء ومد الجسور بين الإسلاميات والإنسانيات وتوحيد الكيان الجماعي للذات الحضارية في أصولها الكيانية: بين وجدان الأمة وعقلها وفكرها، ونحن إذ نرسل الجهود في هذا الاتجاه، لا نعدو أن نكون إزاء محاولة لاستخدام إيجابيات العصر في تجاوز سلبياته، وذلك في لحظة شارفنا فيها على ثورة علمية تعليمية واتصالية من منطلقاتنا الحضارية لنحقق التواصل الحضاري مع الذات؛ حتى تكون في موضع يمكِّننا من تحقيق الاتصال والتواصل الحضاري مع الإنسانية كافة من موقع الثقة والقوة والعِزّة ليتوفر شرط التكافؤ في التعارف وتبادل الخبرات، ونحن على قابلية للتعلم من الآخرين، ونكون على يقين من أن لدينا نحن أيضا ما نعلِّمه ونعطيه للآخرين.

ومن هذا المنطلق يمكن أن يشكل طرحنا لموضوع الأمة في الإسلام طرحا متجددا نسعى من خلاله لوضع الملامح العريضة للإجابة على بعض التساؤلات المبدئية: أين موضع الأمة في الإسلام؟ وأين موضع هذا الكيان الجماعي من الكيانات الجماعية الأخرى؟ ثم ما هي الخصائص التكوينية والحيوية لهذا الكيان؟ وما الذي يحفظ على هذا الكيان جوهره ويؤمِّن له استمراريته؟ وأين يلتقي هذا الكيان المحوري الذي نؤصِّل له من “الأمة الوسط” التي نعتنا بها في الكتاب الكريم مع واقعنا العالمي الراهن؟ وأخيرا ونحن نعرض الموضوع على هذا النحو لا يفوتنا أن نضعه في إطاره الحيوي الذي ينبع منه.. وبه ينبض؛ أي واقع المجتمع المدني في مختلف ربوع العالم الإسلامي ومدى معانقة وعيه لهذه الإشكالات جميعها؟

ومن خلال ترجمتنا لظاهرة حسّية، إلى مفهومية موضوعية نكون في سبيلنا إلى إدراك الذات بالذات، وإلى البحث في أصول كياننا الذاتي الجماعي من خلال التجسير الوظيفي الدقيق المؤسس بين العلوم الإسلامية والعلوم الإنسانية في الوقت نفسه الذي نسعى لأن نقدم للغير نموذجا حيا وتصورا حيويا لكيان جماعي مغاير… كفيل بأن يثري ويغني أفواجا لاحقة من الإنسانية الباحثة، كما سبق له أن أثرى وأغنى أفواجا سلفت.

ولا يعدو هذا الطرح أن يكون تنبيها لضرورة الاشتغال الناجز في هذا الورش. ولاشك أن مفهوم الأمة قابل لمزيد من التأصيل والبلورة، ويدعو لفتح باب التنقيب والتنقيح والمداولة… والتداول، على مد التفاعل الحي المشحون، وفي ثنايا المعاناة الصادقة الجماعية المشتركة بين هذين الصنفين من المعارف اللذين لا تخفى محوريتهما معا في حياة النوع الإنساني.

الوسوم

دة. منى أبو الفضل

مفكرة ورائدة في العلوم الاجتماعية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق