وحدة الإحياءمفاهيم

عن القيم الدينية والأخلاقية والمدنية-الاجتماعية

سوف نكتفي بين يدي هذا الحديث في تعريفنا للقيم بالإشارة إلى ثلاثة أمور:

1. أن مختلف التعاريف للقيم تتحوصل حول كونها مجموعة من القوانين والمقاييس تنبثق عند جماعة ما، وتتخذها معايير للحكم على الأفكار والأشخاص في تمظهرهم الفردي والجماعي والتصرفات والمسلكيات، ويكون للقيم من القوة والتأثير على الجماعة، وما يسربلها بصفة الإلزام والضرورة والعمومية، وأي خروج عليها أو انحراف عن اتجاهاتها يصبح خروجا عن مبادئ الجماعة وأهدافها ومثلها العليا، فالقيم، إذن، هي موجهات السلوك وضوابطه وموازينه، وهي حراس الأنظمة وحامية البناء الاجتماعي ومفعّلته.

2. أن من القيم ما هو ثابت وهو القسم المتعلق بمرتكزات الهوية، ومنها ما هو ديناميكي؛ إذ يطبع القيم ما خلا العقدية، حركية كبيرة فيما يخص ترتيبها بحسب الأولويات التي تفرضها حاجة المجتمع في سياق حضاري وظرف تاريخي معينين.

3. إنّنا نعيش، اليوم، وعلى الصعيد العالمي، أزمة انهيار نظم القيم بسبب التغيرات الكبيرة التي أصابت بنى المجتمعات، وأنماط الإنتاج، وسيولة المعلومات، وهياكل العلاقات الأسرية والاجتماعية والدولية، ومضامين وأشكال القوانين التي باتت تنظم كل ذلك، ممّا زج بالإنسان المعاصر في أنواع متعددة من المعاناة كالإحباط، وخيبة الأمل Frustration، والإحساس بالاغتراب Aliénation، والشعور بالضعف Powerlessness، والمعاناة من عدم الانسجام، ومظاهر الشذوذ في الحياة والسلوك Normlessness.

ولقد أُحِلّت على الصعيد العالمي محل القيم المنهارة، قيم جديدة ذات طابع براغماتي تتسم بنسبية كبيرة جدا بسبب الضعف في المعطيات الناجم عن القصور في البحث والاستقراء من جهة، وعن الافتقار إلى مرجعية صواب ثابتة بالنسبة للأغلبيين من جهة ثانية.
بناءً على ما مر، فإن أي مجتمع يرنو إلى أن يكون له وجود مستقبلي بالنظر إلى موضوع القيم، ينبغي له أن يكون متوفرا على آليات تنظيرية وتربوية واجتماعية.

الآليات التنظيرية لتمكنه من:

– ضبط معالم وحدود مرجعية المجتمع وكذا منطقها الداخلي؛
ـ ضبط مناهج قراءة المرجعية واستنطاقها والاستنباط منها وبلورة التمثل لها وكذا ضبط مناهج تنقيح هذه المناهج وتفعيلها؛
ـ ضبط مناهج التعرف على الواقع La représentation du réel، محليا، وإقليميا، وعالميا، وكذا  ضبط آليات التحسس على التوجهات الكبيرة العارمة Les mégatendances التي تتبرعم فيه لتوظيفها إن كانت إيجابية، أو لاجتنابها إن كانت سلبية، أو لمقاومتها إن كانت مدمرة مخترقة؛
ـ ثم ضبط آليات تفعيل القيم الإيجابية الموجودة وإنتاج الأخرى المفقودة استهداءً بعناصر الضبط المتقدمة.
وهذا يفيد أن الجهات التي تحرك هذه الآليات التنظيرية ليست بالضرورة هي وزارات التربية الوطنية، بل كذلك الجامعات والمنتديات، ومستودعات التفكير Think Tanks، والجمعيات، وهيئات العلماء الخ…

الآليات التربوية والتواصلية

لتمكنه من تعدية هذه القيم إلى أفراده بطريقة فعالة وإيجابية ومقنعة، وتندرج تحت الآليات التربوية المقتضيات الآتية:
ـ المقتضيات التكوينية؛
ـ المقتضيات المنهاجية؛
ـ المقتضيات الديداكتيكية؛
ـ المقتضيات الحكامية؛
ـ المقتضيات التقييمية؛

الآليات الاجتماعية

لتمكن من العبور بثمرات الآليات السالفة، إلى مختلف أنواع العمل العام الذي يتخذ المجتمع ككل ميدانا له.
ـ العمل الثقافي؛
ـ العمل الجمعوي؛
ـ العمل السياسي؛
ـ العمل الاجتماعي؛
ـ العمل الإعلامي؛

فما هي اليوم حدود فعالية وإنتاجية وتناسق وتكامل هذه الآليات؟ وما هي توجهاتنا في تحديد خصاصاتنا بشأنها؟ وما هي إنجازاتنا من أجل تجاوز هذه الخصاصات إستراتيجية وتخطيطا وتنظيما وتشريعا وتقويما؟

إن جردا سريعا لسمات الوضع الراهن لنظمنا التعليمية بخصوص القيم يفيدنا ست إفادات رئيسة:
1. مسألة القيم لا تندرج ضمن البناء التمثلي والتصوري الديناميكي الذي تقتضيه أهمية القيم كما بسطنا خطوطه العامة آنفا.

2. التوجيهات الواردة بهذا الشأن رغم أنها مهمة لا تتجاوز التعميم إلى التخصيص والتدقيق والأجرأة.

3. الإستراتيجيات البيداغوجية لا تمكن من تحقيق هذه التوجيهات الواردة رغم عموميتها بل وربما بسبب عموميتها؛

4. التداخل بين المجالات، المعرفي-العقلي والحس-حركي، والوجداني في التخطيط لتحقيق القيم في فكر وبنية ووجدان المتلقي يجعل من الاضطلاع بهذه الوظيفة أمرا بالغ الدقة والتركيب مما يجعل تنفيذنا لها لا يرقى في كثير من الحالات إلى المطلوب.

5. الضعف البارز في ضبط التعامل مع الأهداف التربوية المنتمية إلى المجالات الثلاثة المذكورة أعلاه، وخصوصا الهداف الوجدانية التي لها صلة مباشرة بالقيم، ونلاحظ هذا الضعف في وضع الأهداف وصياغتها، كما في الوسائل الديداكتيكية المتخذة وكذا في المتابعة والتقييم.

6. القصور الظاهر في بلورة نسق فعال للأنشطة الموازية، والدعامات التقنية المواكبة، سواء كانت سمعية بصرية أم مقروءة مما من شأنه أن يمكن من دعم أداء التخطيط المنهاجي، والعمل القسمي لتركيز القيم في وجدانات وعقول الخاضعين للعملية التربوية.

يبرز أن استدراك ما سلف يقتضي جملة تدابير:

1. وضع تأصيل معرفي أولي للمجال التصوري الذي ينبغي أن يندرج ضمنه زرع القيم في بلداننا.

2. التجديد في مجال وضع وبناء الصنافات المفصلة للأهداف الوجدانية المصوغة من مختلف القيم التي نريد تركيزها في وجدانات المتلقين وأجهزتهم المفاهيمية في ضوء التأصيل المذكور أعلاه ثم ـ أجرأة هذه الأهداف لتكون قابلة للتنفيذ في مختلف أشكال النقل والاتصال مع وجوب الحرص على التكامل الذي نصصنا عليه سابقا.

3. وضع سلسلة أدلة تضم مجموعة من التقنيات والأنشطة الملائمة لهذا المجال، والقابلة للاندراج ضمن تنفيذ الاستراتيجيات التربوية والاتصالية.

4. تحديد بعض طرائق التقييم لإنجاز الأهداف المصوغة من القيم المراد تركيزها في وجدانات المتلقين.

5. التنسيق بين كل هذه الأهداف ضمن إستراتيجيات عامة لتيسير التنفيذ..

إن الإحياء، اليوم، وهي تفتح هذا الملف المحوري في حياة الأفراد والمجتمعات، لترنوا إلى قدح زند التدارس، والتباحث، وربما حتى تشاحذ الأفكار حوله، نحو غد لمجتمعاتنا أكثر نماء ورشدا إن شاء الله.

والله الهادي إلى سواء السبيل.

Science

الدكتور أحمد عبادي

• الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق