مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

على هامش الفيوض

الدكتور محمد الحافظ الروسي
كنت قرأت فيما قرأت قديما عبارة أراد صاحبها أن يعبر عن شدة إعجابه بما كتبه أحد العلماء فقال: ..هو خليق أن يكتب بمداد النور على خدود الحور..
تذكرت هذه الكلمة وأنا أقرأ كتاب”فيوض”لشيخنا العلامة الدكتور سيدي حسن بن عبد الكريم الوراكلي. فقد ذهب بي في آفاق الدنيا، وانتقل بي عبر الزمان، وحدثني بعلوم كثيرة، وأنا أنتقل بين صفحات كتابه.. وكانت البداية من الهند. فقد قرأت العنوان فلم أتذكر وأنا أقرؤه عالما اختار مثل هذا العنوان أو قريبا منه لمؤلف ألفه إلا عالمين هنديين، أما أولهما فيما أذكر فهو ولي الله الدهلوي(ت: 1176 هـ) صاحب: فيوض الحرمين، وأما ثانيهما فأحمد بن سليمان الكجراتي (ت: 1092 هـ)صاحب كتاب: فيوض القدس، وهو كتاب في علم الكلام. وقد كان الكجراتي متصوفا، ولعله لذلك مال إلى هذه العبارة، فإنها من مصطلحات القوم، وهي تستعمل عندهم في إلقاء الله تعالى، كما يطلق على ما يلقيه الشيطان وسوسة.
وعندي أن ما كتبه الشيخ فيض من الله تعالى، بمعناه الصوفي، وبمعناه اللغوي أيضا أي كثرة الماء المؤدية إلى سيلانه، وبمعناه المجازي وذلك قولهم: فاضوا في الحديث، إذا خاضوا فيه، وبمعناه الوجداني، من قولهم: فاض دمع عينه، ومنه قوله تعالى: تفيض أعينهم من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون.
ففيه من الإلهام، ومن الغنى المعرفي، ومن السخاء العلمي، ومن الثقافة الواسعة، ومن الرقة والعاطفة والوجدان، ما يجعلك تطوف بين ألفاظ اللغة تبحث عن لفظ يجمع هذا كله فلا تجد بعد طول الطواف، وكثرة البحث، وشدة النصب، وإدمان النظر، إلا لفظ

كنت قرأت فيما قرأت قديما عبارة أراد صاحبها أن يعبر عن شدة إعجابه بما كتبه أحد العلماء فقال: ..هو خليق أن يكتب بمداد النور على خدود الحور..

 تذكرت هذه الكلمة وأنا أقرأ كتاب”فيوض”لشيخنا العلامة الدكتور سيدي حسن بن عبد الكريم الوراكلي. فقد ذهب بي في آفاق الدنيا، وانتقل بي عبر الزمان، وحدثني بعلوم كثيرة، وأنا أنتقل بين صفحات كتابه.. وكانت البداية من الهند. فقد قرأت العنوان فلم أتذكر وأنا أقرؤه عالما اختار مثل هذا العنوان أو قريبا منه لمؤلف ألفه إلا عالمين هنديين، أما أولهما فيما أذكر فهو ولي الله الدهلوي(ت: 1176 هـ) صاحب: فيوض الحرمين، وأما ثانيهما فأحمد بن سليمان الكجراتي (ت: 1092 هـ)صاحب كتاب: فيوض القدس، وهو كتاب في علم الكلام. وقد كان الكجراتي متصوفا، ولعله لذلك مال إلى هذه العبارة، فإنها من مصطلحات القوم، وهي تستعمل عندهم في إلقاء الله تعالى، كما يطلق على ما يلقيه الشيطان وسوسة.

وعندي أن ما كتبه الشيخ فيض من الله تعالى، بمعناه الصوفي، وبمعناه اللغوي أيضا أي كثرة الماء المؤدية إلى سيلانه، وبمعناه المجازي وذلك قولهم: فاضوا في الحديث، إذا خاضوا فيه، وبمعناه الوجداني، من قولهم: فاض دمع عينه، ومنه قوله تعالى: تفيض أعينهم من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون.

ففيه من الإلهام، ومن الغنى المعرفي، ومن السخاء العلمي، ومن الثقافة الواسعة، ومن الرقة والعاطفة والوجدان، ما يجعلك تطوف بين ألفاظ اللغة تبحث عن لفظ يجمع هذا كله فلا تجد بعد طول الطواف، وكثرة البحث، وشدة النصب، وإدمان النظر، إلا لفظ الفيوض، فتعلم أن صاحب الكتاب قد تأنق في اختيار العنوان، كما هو دأبه، وتخير لكتابه أدل لفظ على محتواه.

وإن القارئ يرق رقة شديدة وهو يقرأ مثل قول الشيخ لابنته:”اسمعي أيتها العزيزة. إن الغيم الذي في أعنان السماء هذا الصباح لا يعدله إلا الذي غشى أرجاء الدار ولف نفوس ساكنيها من يوم رحلت.

واسمعي أيتها العزيزة. إن الريح العاصف التي أٍراها من نافذة مكتبي تهز شجيرات الحديقة في غير شفقة ولا رحمة ليست تعدلها إلا أخرى تعتصر في غير شفقة ولا رحمة نفوس جيرة الحديقة من يوم رحلت”(1).

ثم ينقله صاحب هذه الرسائل بعد هذه العبارات وأمثالها إلى ميدان الفكر والنظر فإذا هو يحدث ابنته عن الغرب حديثا يجمع بين النظر العلمي الدقيق وبين التجربة الطويلة في ديار الغرب، والمعرفة بلغاته، وثقافته، ومكامن القوة في منظومته الثقافية، ومواطن الضعف فيها، على أن تعريف مصطلح الغرب عند المؤلف واسع فهو لا يخضع للحدود الجغرافية بل يشمل كل من صنعه الغرب على عينه فكان في فكره وسلوكه وتصرفاته وميوله وثقافته وطباعه على ما يريده الغرب من أمثاله، ولذلك فمعرفة الغرب عند المؤلف لا تقتضي ضرورةً التنقلَ إلى ديار الغرب. ذلك أن الغرب انتقل إلينا بإعلامه، ومؤيديه، ومنظومته التعليمية، وثقافته، وأتباعه، فأغنى الناس عن أن يطلبوه في دياره.

ومع هذه المعرفة بالغرب تجد الشيخ المؤلف حريصا على أن يطلب من ابنته أن تحدثه عن الغرب كيف وجدته، كأنها قد خبرته مدة مديدة، أو كأنها تحدث من هو في مثل منزلتها في العلم، وفي القدرة على الفهم والتحليل. وتلك مسألة دالة من جهة التربية على حرص الشيخ على أن يكون لابنته شخصية مستقلة، ومن جهة الخلق على شدة التواضع والحرص على طلب المعرفة، ومن جهة المعرفة بعلل الأشياء وحقائقها على التنبه إلى ما يحدث في الكون من تغير سريع يحتاج إلى نظر متجدد، وبحث لا يفتر أو يتوقف.

وقد دأب كثير من شيوخ العلم على أن يخلطوا بين زمنهم الخاص وبين الزمن الكوني، فتوقف إحساسهم بما هو متغير، أو متحول، وظنوا أن الحل يكمن في إلزام الخلق بزمن لم يعد له وجود إلا في قرار ذاكرتهم، ومضطرب إحساسهم. وهذا أمر قل من يسلم منه في كل مكان، فتجد الرجل يحدثك عن الزمن الجميل، وأيام العلم والنباهة والإبداع والإخلاص وما شئت من هذه العبارات، ثم لا تجد في الحقيقة إلا حنينا إلى الشباب، وميلا إلى زمن القوة.

وقد تجاوز الشيخ هذا كله، وسلِم له إحساسه بما هو ثابت، وبما هو متغير، إلى إحساس صوفي لا يصل إلى كنهه إلا خاصة الخاصة، وهو إحساسه بوحدة الزمن التعبدي. والمقصود بالزمن التعبدي الزمن النفسي الذي ينظر إلى الوحدة الجامعة بين الأزمنة المختلفة، وهي : وحدة التوجه، ووحدة التعبد. وقد عبر الشيخ عن ذلك بعبارة جامعة في قوله: مغرب مكة عصر غرناطة(2). ثم عبر عن هذا المعنى بعبارة أكثر تفصيلا في قوله: كبرتُ وأنا أقف قبالة”الميزاب”لصلاة المغرب فتمثلت لي تكبرين، بنفس الآن، لصلاة العصر.. (3) فالزمن هنا هو زمن الصلاة الضابط لأحاسيس المصلي وشعوره بالكون، والحياة، والأشياء، فهو زمن الخلود، والتعالي، والنظر فيما وراء المحسوسات، لا زمن الساعة المشعر بتناقص الزمن، ودنو الأجل، وفناء الأشياء.

والفجر زمن القرآن تشهده الملائكة، وزمن الدعاء يفزع إليه المؤمنون. إن قرآن الفجر كان مشهودا. يقول: ومع نفحات قرآن الفجر المشهود أبعث لك بالدعوات الصالحات… (4)

وقد دله هذا الشعور على حقائق الأمور التي لا يدركها إلا العارفون، وكشف له عن خباياها، وفتح له أبواب الحكمة، من مشرب: واتقوا الله ويعلمكم الله، فنطق عن حكم كثيرة تتعلق بما تمثله الكعبة لجمهور المسلمين(5). كتبها بقلم العالم، وأسلوب الأديب، وقلب الأب الحاني، الذي لا تشغله صلاته عن تذكر صلاة ابنته، “وامر أهلك بالصلاة واصطبر عليها”، ولا يشغله دعاؤه لنفسه عن دعائه لأمته، وأولاده، ولا يصرفه عطفه وحدبه عن تقديم الأوجب والأهم وهو ضرورة طلب العلم وتحصيله، فيداري صبره بيقينه، وحنوه ببعد نظره، ثم لا يمنعه ذلك أن يقول:”قرأت رسالتك بعيون لم أستطع حبس دمعها، ولا أكتمك أني مع تأثري البالغ بشكواك الممضة من ثقل وطأة الغربة على نفسك لم أفقد يقيني بمخزون طاقتك وقدرتك على المواجهة…وقد غبت من قبلك، عن منزل وملعب، وألقيت رحلي حيث ألقيت رحلك أطلب ما تطلبين اليوم، وأعترف لك أن لم يكن لي مالك من ذخيرة صبر على البعاد.. (6)”

وقد نظر إلى المكان هنا كما نظر إلى الزمن قبله، فالغربة عنده غربة في جميع أنحاء الأرض إلا في بيت الله الحرام، يقول في ذلك:” لا يا عزيزتي .. ليس مع الجوار غربة. بل أنس واطمئنان وسكينة وانشراح يتدفقن كالشلال بحب أحب أرض الله إلى الله:

وأنا امرؤ بقرار مكة مسكني  ولها هواي فقد سبت قلبي.” (7)

ونظره إلى الشعر أيضا تبع لنظره إلى الزمن والمكان، فهو ينقله إلى المعاني الشريفة، ويصرفه إلى الغايات الجليلة. فهذا البيت الذي ذكره لعمر بن أبي ربيعة قيل في محبوبته”رميلة” وهو في قصيدته:

إن الحبيب ألم بالركب  ليلا فبات مجانبا صحبي

فالضمير في قوله: ولها هواي، عائد على “رميلة”هذه، وقد جعله شيخنا عائدا على مكة، فأحسن ما شاء.

وكذلك فعل ببيت عبد بني الحسحاس الذي قاله في لوم من باعه:

أشوقا ولما تمض بي غير ليلة  فكيف إذا جد المسير بنا عشرا؟.(8)

جعله الشيخ في تشوق المغادر مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها ولما تغب معالمها بعد عن بصره.

ونظره إلى عناصر الطبيعة تبع لنظره إلى كل ما سبق. فالثلج ماء مبارك يذكر بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستفتاح وغيره:”اللهم اغسلني من خطاياي بماء الثلج والبرد”. وقد نقل عن “زاد المعاد” لابن القيم قوله:” والحكمة في طلب الغسل من الخطايا بمائه ما يحتاج إليه القلب من التبريد والتصليب والتقوية. ويستفاد من هذا أصل طب الأبدان والقلوب ومعالجة أدوائها بضدها”(9).

والجداول المنسابة تسبح بحمد ربها، وفتون الكون تدل على أن خالقها أكبر.. (10)

وقد نقل من كلام أبي عمرو الباجي مما ورد في الخريدة، ونهاية الأرب، ما يربط بين النظر في عناصر الطبيعة وبين التنبه إلى منن الله تعالى في انزوائها ووفرتها. فأجاد الاختيار، وركب من كلامه وكلام الباجي تركيبا سماه: حوار الماء والإيمان. (11)

وأنا أرى كلام الشيخ من كلام هؤلاء الأقدمين، يطلبهم فيحضرون، ويدعوهم فيستجيبون، فترى أصواتهم بين ثنايا هذه الرسائل، تكلم قارءتها الأولى، ثم تلتفت إلى قرائها الآخرين فتخاطبهم بمثل الذي خاطبتها به. فكأن الشيخ يسافر بهم، ويقيم معهم، ويكلمهم ويحاضرهم، ومعظمهم من أعلام هذا الغرب الإسلامي وعلمائه، وذلك كالقاضي عياض، وابن القصيرة، وابن أبي الخصال، وابن جبير، وابن رشيد، وأبي القاسم التجيبي، والعبدري، وأبي زيد البلوي، وابن لب، وأبي سالم العياشي(12)، وابن صارة الشنتريني، وابن كوثر الطليطلي(13)، وأبي عمرو الباجي.. (14)والرصافي البلنسي(15) وابن الحداد الأندلسي(16) وما شئت من أمثال هؤلاء العلماء الأعلام، والأدباء العظام.

وهو كما يستحضر الأشخاص يستحضر الوقائع، والمشاهد، والمجالس. وذلك كمجلس الفقيه ابن كوثر الطليطلي(17)، ورحلة المغاربة والأندلسيين إلى بلاد الحجاز(18)، وهجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة(19)، وموقعة أحد(20).ثم يسوقها سوق من يسقط حواجز الزمان والمكان، ثم يستخلص من كل ذلك فوائد هي أعلق بالحاضر، وأليق به. منها ما يتعلق بمفهوم الجهاد، ومنها ما يتعلق بمفهوم المكان، ومنها ما يتعلق بمفهوم الثقافة، وضرورة القراءة. وهو في كل ذلك يجيد تلخيص المضامين العويصة في العبارات الميسرة اللائقة برسالة أب إلى ابنته. ومن فرائد ذلك قوله مبينا حقيقة المثقف:” لا إخالك إلا باقية على العهد ترعينه وتحفظينه إدراكا منك بأن الأطباء والصيادلة وأنت منهم..إن لم يقرؤوا صحف المفكرين وآثار المبدعين كانوا إلى أهل الحرف والصنائع أقرب منهم إلى نخبة المثقفين”(21).

ـــــــــــــ

الهوامش:

1.    فيوض. 12.

2.    فيوض. 32.

3.    فيوض.33.

4.    فيوض. 36.

5.    ن. فيوض. 33 ـ 36.

6.    فيوض. 38.

7.    فيوض. 41.

8.    فيوض. 58.

9.    فيوض. 48.

10.    فيوض. 53.

11.    ن. فيوض. 49.

12.    فيوض. 56.

13.    فيوض. 50 ـ 51.

14.    فيوض. 49.

15.    فيوض. 61.والشيخ قليل العناية بنسبة الشعر لأصحابه، غير أن نسبة معظمه مشهورة فسهل علينا رجع الشعر إلى قائليه. وأبيات الرصافي البلنسي في المعجب.

16.    فيوض. 64. والمشار إليه بيته الذي في أول قصيدته”حديقة الحقيقة”. ن. في ذلك “نفح الطيب”.

17.    فيوض. 50.

18.    فيوض. 56.

19.    فيوض. 58.

20.    فيوض. 62.

21.    فيوض. 70.

الدكتور محمد الحافظ الروسي

  • رئيس مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق