مركز الدراسات والبحوث في القضايا النسائية في الإسلامدراسات وأبحاثدراسات عامة

عقد عائشة: عبر ودلالات

مونية الطراز

فضل عائشة أم المؤمنين على نساء العالمين كفضل الشمس على سائر الكواكب، فهي المعلمة التي أخذ عنها كبار الصحابة وهي المجاهدة التي شهدت المغازي، والعابدة التي عشقت الكتاب والمحراب. عائشة هي النموذج المثالي الذي جسّد التصور القرآني الصحيح للمرأة؛ قدّمت بآثارها صورة عن السيدة الحرة الواعية بمسئولياتها الحياتية ورسالتها العمرانية والعلمية، فكانت مثال الأمة الفريد وقدوة النساء في الزمن المديد. عائشة من جهة، لم تتخلف عن الفعل الإيجابي لصالح الأمة إلى جانب الرجال، ومن جهة أخرى، لم تنس أنها أنثى في عزّ جهادها وفي حِلّها وترحالها، عائشة هي الفقيهة والعاملة التي لم تُخْمد بانشغالاتها نداء الفطرة في نفسها.

هي أم المؤمنين التي شغلت الفقهاء والمفسرين والعلماء بشخصيتها القوية وآرائها الفقهية والعلمية فنقلوا أقوالها واستدراكاتها واجتهاداتها ومواقفها، إلا أنهم أهملوا شقا مهما في شخصيتها له أهمية بالغة في فهم طبيعة التوازن الذي تجلّى في سيرتها، أهملوا شخصية المرأة الكامنة فيها، وتجاهلوا خصائص انتمائها فيما ورد عنها وما أوردته عن نفسها.

إن من يطالع الأثر لن يجد موضوعا مستقلا يكشف عن مساعي عائشة لتلبية مطالب الروح إلى جانب حاجات الجسد، ولن يلمس أهمية جمعها بين نفسيتين: نفسية العاملة على حفظ مصالح الأمة والاهتمام بقضاياها، ونفسية الحريصة على تلبية احتياجات الذات وما تتطلبه ملذات النفس وشهواتها المشروعة.

فلا شك أن مساحات الظل في سيرة عائشة واسعة الرقعة وتحتاج إلى سبرٍ وبيان وإلى دراسة مستفيضة وتأمل وإمعان، فهي مثال نساء العالمين وأم المؤمنين وسيدة بيت النبوة، وهي المرأة التي ما فتئ النبي صلى الله عليه وسلم يحيل عليها تلميحا لما ترمز إليه من نموذج للاحتذاء، ولذلك كانت سيرتها ذات أهمية بالغة، ليس فقط لما تختزنه من فقه وحديث وإنما أيضا لما تسجله سيرتها من مواقف كفيلة بتقديم فكرة سامية عن المرأة الإيجابية ضمن نسيجها الاجتماعي، لقد قدمت عائشة صورة رائقة عن التصور الإسلامي للمرأة وقدمت الدليل على أن للنصوص روحا تحيي النفوس الموات وتحرك الهامد بعد طول سكون، كما ألغت بفعاليتها المستنيرة بهدي التشريع كثيرا من العوائق الموروثة والعادات البالية فوضعت نفسها إلى جانب الرجال على مرتبة واحدة دون أن تخل بالتوازن الذي يجب في حق الأنثى.

سيرة عائشة تستحق قراءة جديدة وفهما صحيحا حتى يفقه الناس قول النبي الكريم:” كمُل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام”[1]. هذا الحديث لابد أن يؤخذ بحقه ودلالته الشاملة التي تعبّر عن مختلف جوانب شخصيتها العلمية والاجتماعية والسلوكية والنفسية فكل ذلك مكنون في تراثها ومطوي في ثنايا حديثها، وكل إهمال لجانب من جوانب شخصيتها لابد أن يؤثر على مقصود التميّز في هذا النموذج.

اليوم في سعينا لتركيب صورة حقيقية للمرأة في الكتاب والسنة لا بد أن نعيد ذكرى عائشة وأن ننبش ما ووري من سيرتها، وأن نعيد إخراج قصصها في حلة تليق برمزيتها وتفيد في تقديم الصورة القرآنية والشرعية الحقيقية للمرأة المسلمة، فمبتدأ الإصلاح يكمن في خبر عائشة، ومن سيرتها تُستمد الملامح الواقعية للمرأة المسلمة في أفق تركيب النموذج الحقيقي للمرأة التي جعلنا لها اليوم قضية نرجو أن يكون لعائشة الفضل في توجيهها نحو الانعتاق الذي نالته من قبل والتوازن النفسي الذي سعدت به زمنا من أزمنة الرشد والهدى.

عائشة رضي الله عنها كانت –كما قلنا- من كبار الصحابة المجتهدين والمجاهدين، صوّامة قوّامة، ومثالا يحتذى في التقوى والورع، وذات إيمان صادق وعلم وافر، وعقل راجح، وذكاء خارق، شهدت مواقفُها وآراؤُها بقوتها وتأكد عموم فضلها على الأمة بما أثر عنها من مساعي لخدمة قضاياها وهمومها، عائشة كانت على هذا القدر من النبوغ والتميز ففاقت كثيرا من رجالات عصرها فقها وعلما وأدبا، إلا أنها لم تنس يوما حقيقة كونها امرأة تعشق الزينة عشقا فطريا تلبي من خلاله نداء الأنوثة، ولم يُنسها انشغالُها وولعُها بالعلم والمعرفة شغفَها بأناقتها ومظهرها وجسدها الذي هو عنوان انتمائها. لم ترَ عائشة في زينتها ما ينتقص من شأنها وشأن المرأة العاملة شيئا، بل كانت منسجمة مع ميلها الفطري، أو ذاك الميل إلى التجمل الذي هو طبيعة في الأنثى، والذي عبّر عنه القرآن الكريم بمصطلح “النشأة في الحلية”، ف “البنت – كما يقول ابن عاشور-  تُتَّخَذُ لها الحلية من أول عمرها وتستصحبها في سائر أطوارها”[2]، وعائشة كانت تلك الفتاة فلم تشذ عن القاعدة ولم تحِد عن الطبيعة المتوازنة، فكانت ذات دلال في بيتها وذات حجة في مجالس العلماء وشدة في الحرب ذات بلاء.

طباع الأنثى اجتمعت لعائشة فكانت غيورة، ملحاحة، بهية متباهية، تحب الحلي والحلل، ولم يكن النبي عليه السلام في مقابل ذلك إلا الرجل الخبير بحاجاتها والمتفهم لطبائعها الدفينة فكان يجاري رقتها ويساير تصابي الأنثى فيها، كما كان يكاشفها الحب ويبادلها المشاعر، ويناديها بالحميراء، وفي هذا روي الكثير ونقل الأثر الوفير، لا يحتاج إلا إلى جمع وكشف وتحليل، فالمأثور في هذا الباب منثور في المصنفات لا بد له من إعادة ترتيب وحسن نظم وفهم.

لقد عُلم تعلق الحميراء بحليها، فكانت تحب الأساور والقلائد وتتزيّن بما تيّسر لها منها كلما آوت إلى نفسها، بل وتستعيرها من غيرها لتتزين بها، حبا في جمال المظهر وحسن الطلعة، وليس ذلك فحسب بل كانت تحث النساء على طلب الزينة الشرعية وترك الابتذال، يؤكد ذلك ما جاء في حديث الربيع بن سليمان ” أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى عليها مسكتي ذهب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أخبرك بما هو أحسن من هذا لو نزعت هذا وجعلت مسكتين من ورق ثم صفرتهما بزعفران كانتا حسنتين”[3]. وكان لها أيضا خواتيم من ذهب ورد ذكرها فيما رواه البخاري في كتاب اللباس ضمن “باب الخاتم للنساء وكان على عائشة خواتيم ذهب”. وكانت تتحلى بقلائد لها قصص خلدت خلود الأحكام التي تنزلت بموجب ملابساتها.

إن الأحاديث التي تواترت في تزين عائشة وامتلاكها لأدوات الزينة سواء في الصحيح أو غيره متعددة ومتنوعة، وهي تشترك في دلالتها على حب أم المؤمنين للتجمل، وكرهها لبذاذة الهيئة، ومن هذه الأحاديث ما أورد أحمد في مسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت:” دخلت علَيّ خويلة بنت حكيم وكانت عند عثمان بن مضغون فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذاذة هيئتها فقال لي: يا عائشة ما أبذ هيئة خويلة، فقلت: يا رسول الله لا زوج لها، يصوم النهار ويقوم الليل فهي بلا زوج، فتركت نفسها وأضاعتها”[4] هذا الحديث وأحاديث أخرى مختلفة الموارد والأبواب والسياقات ينظمها خيط خفي يستحق التأمل والتفحص، هو ذاك الجامع الذي يعكس مراعاة التشريع لفطرة الأنثى، ومجاراته لميولاتها وخصوصياتها، ولا شك أن سيرة أم المؤمنين تكشف عن حوادث مفيدة للدرس والعبرة ومواقف مثيرة لا تنقل ميلا لأنثى فقط، وإنما تعكس إلى جانب هذا الميل نظرة الشريعة إلى دقائق كامنة في نفسية النساء، كما تعكس مجاراتها لخصوصيتهن، وفيما يلي أحاديث فيها الدرس الوافي لمن شاء سبر المنهج النبوي والأسلوب القرآني في مسايرة فطرة النساء، ولمن شاء الاكتفاء ببعض ما ورد يغنيه ما جاء في قصص “عقد عائشة” الذي لازمها في فترات الترحال وتسبب في حوادث مثيرة كانت سببا لنزول القرآن وتشريع الأحكام، وهي وقائع لها دلالات عميقة كما سنرى.

جاء في حديث الإفك عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ” كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه قالت عائشة فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بعد ما أنزل الحجاب فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه مسيرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوه وقفل ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت من شأني أقبلت إلى الرحل فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظفار قد انقطع فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي فحملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون أني فيه قالت وكانت النساء إذ ذاك خفافا لم يهبلن ولم يغشهن اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام فلم يستنكر القوم ثقل الهودج حين رحلوه ورفعوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب فتيممت منزلي الذي كنت فيه وظننت أن القوم سيفقدوني فيرجعون إلي فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني قد عرس من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني وقد كان يراني قبل أن يضرب الحجاب علي فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي و والله ما يكلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة فهلك من هلك في شأني وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي ابن سلول…”[5] هذا الحديث هو المعروف بحديث الإفك، وهو يروي وقائع اعتبرها العلماء مفصلية في التاريخ الإسلامي وأساسا لبناء قواعد تربوية جديدة وتوجيهات اجتماعية سديدة رسمت ملامح مجتمع فريد ذي خصوصية متميزة.

العجيب فيما روي في هذا الحدث أن التشريع الذي انتظره المسلمون ثلاثين يوما، وكاد صفهم أن يتصدع قبل نزول أحكامه لم يتطرق إلى ذكر عقد عائشة وهو سبب الهزة التي زعزعت صفوف المسلمين، ولم يُحمّل التنزيلُ مسئولية لأم المؤمنين لانشغالها بعقد “تافه”، ولم يُحمّلها مسئولية لركوبها على راحلة صفوان وخُلوتها به، فتلك وقائع لم يعمد التشريع إلى منعها استنادا إلى ما  تسببت فيه من رجات، ذلك أن من خصوصيته تجنب التضييق على الناس وعدم مصادمة الطبائع الفطرية للمرأة، فما كان ليصادم طبيعة فطرية في عائشة، ولا كان ليشكك في أمانة المؤمنين على أعراضهم، وإنما كان قصد التشريع تقوية الثقة في نفوس العصبة المؤمنة، وإشاعة مظنة الخير بالمسلمين بعضهم ببعض. هكذا نزل الوحي وكذلك كانت مقاصده وأغراضه فكان فيه ما كان من توجيه وتهذيب، وتبدّلت الأحوال بعد الذي حدث وصار الناس أكثر تبينا للخبر وأحرص على أعراضهم وأقوى صفا، وبقيت عائشة رضي الله عنها على عشقها، لم تُحرم من حليتها ولم تلغ فطرتها ولا ميولاتها الأصيلة فيها.

ثم كان يوم غزاة جديدة وخرجت عائشة مرة أخرى وفقدت عقدها فاتُّهِمت رضي الله عنها بتعطيل السير وإيقاف الناس من جديد، وصار حديث الصحابة أيضا هو عقد عائشة المفقود، تقول رضي الله عنها في الواقعة: “لما كان من أمر عقدي ما كان وقال أهل الإفك ما قالوا خرجت مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في غزاة أخرى فسقط أيضا عقدي حتى حبس الناس على التماسه، فقال أبو بكر: يا بنية في كل مرة تكونين عناء وبلاء على الناس فأنزل الله آية التيمم، فقال أبو بكر: إنك لمبارَكة”[6] وفي حديث آخر لأبي بكر بن أبي شيبة عن عائشة “أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا من أصحابه في طلبها فأدركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم شكَوا ذلك إليه فنزلت آية التيمم فقال أسيد بن حضير جزاك الله خيرا فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك منه مخرجا وجعل للمسلمين فيه بركة”[7] .

وجدير بالذكر أن هذا الحديث لقي اهتماما بالغا من قبل العلماء حيث نظروا في جوانبه الخفية ووجوهه المستورة وعيا منهم بأهمية إشارات النصوص وهداياتها الضمنية فكان من ثمرات نظرهم وتقليبهم أن يسير المال إذا ضاع يجب البحث في طلبه والاجتهاد في تفتيشه ومنها جواز السفر بالعارية…إلخ، إلا أن استنباطاتهم على أهميتها لم توفّ الحدث قدره ولم تلتفت إلى تلميحات أخرى كان من شأنها لو حظيت بالعناية اللازمة أن تحفظ كثيرا من مكاسب النساء وحقوقهن، وتميط اللثام عن تحف ثمينة من جواهر التشريع.

ولا مجال هنا إلى الاستنباط ولا إلى الاجتهاد وتخريج الأحكام فما هذا موطنه ولا في هذا البحث مقصده، وإنما القصد هنا التأمل ولفت الانتباه وحسب، فمن يطالع الحديث في مظانه لا تفوته أمور إلا إذا غفل عنها نسيانا أو إهمالا، ذلك أنه ورد بطرق  متعددة وصيغ متنوعة تحكي قصة فقدان عقد عائشة باعتبارها سببا لنزول آية التيمم، وهي على اختلاف أسانيدها تكشف على أمور دقيقة منها عنصر مهم متعلق بنفسيات الصحابة وتبرمهم مما وقعوا فيه من حرج شرعي بسبب عائشة حيث صلوا بلا وضوء وهم لا يدرون حكم المخالفة، كما أن هذه الأحاديث تكشف أيضا عن سرّ عجيب مفاده أن الأمر لو آل إلى الصحابة يومئذ لمنعوا رجال الغزاة من التوقف بسبب ما رأوه عذرا تافها، ولربما منعوا النساء من الخروج جملة واحدة سدا للذريعة، ولكن التنزيل أوجد فسحة شرعية للمسلمين ولم يشدّد عليهم ولم يفتح لهم بابا يؤدي إلى التضييق وإقالة النساء، جاء في صحيح البخاري ضمن ما جاء في ذكر الحادثة ما يفيد أن أبا بكر رضي الله عنه تحرج من فعل ابنته وعنّفها واستنكر عليها حبسَ الناس لأجل شيء تافه فيما روت عائشة رضي الله عنها حيث قالت: “سقطت قلادة لي بالبيداء ونحن داخلون المدينة فأناخ النبي صلى الله عليه وسلم ونزل فثنى رأسه في حجري راقدا أقبل أبو بكر فلكزني لكزة شديدة وقال حبست الناس في قلادة فبي الموت لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أوجعني ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ وحضرت الصبح فالتمس الماء فلم يوجد فنزلت ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة﴾ الآية، فقال أسيد بن حضير لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر ما أنتم إلا بركة لهم”[8]، ويروى أن هذه الآية لما نزلت أتى النبي إلى عائشة فقال لها ” ما كان أعظم بركة قلادتك”[9].

إن هذا التوجيه الرباني لنفوس المكلفين وما أثمره فيهم من فهم واستيعاب لمقاصد التشريع هو جوهر الرسالة التي جاءت بأحكام إجمالية تخص النوعين البشريين دون أن تلغي خصوصياتهما الفطرية، وأما الواقعية التي ذكرنا فتهمنا من حيث ما تكشفه من سلامة في المنهج وحكامة في الأسلوب وحكمة في الإصلاح، فلا يصح أن تسير الحياة وفق خصوصية النوع الواحد والطباع الواحدة رغم ما يجمع الجنسين من هموم مشتركة في البناء والعمران.

التشريع الحكيم حتى في غير النصوص التي أوردنا راعى حب النساء للحلي وتعلقهن بها على الجبلة، إذ المعلوم أن الحلي في عيون النساء ليست بنفس القيمة عند الرجال، فهي تلبي في نفوسهن حاجة دقيقة لا يعرفها إلا النساء، وكذلك أمور كثيرة تخصهن لا يُقدّر الرجال أثرها فيهن، والله تعالى حين فصّل الآيات راعى وهو أعلم بهذه النفوس دقائق حاجاتها، وأحل لهن ما حرّم على الرجال، ولم يميّز ما عدا ذلك في التشريع العام الذي يجمع الجنسين، وأما هذه السياقات التي عرضناها والتي أقرّت حاجات الأنثى ولم تصادمها وكذا تلك المواقف الجليلة التي عرضت للمسلمين والقضايا الجسام التي صاحبت رزمة من التشريعات الكبرى في التاريخ الإسلامي كلها كانت تقصد ضمن ما تقصد التأكيد على فهم هذه النفسيات ومراعاة هذه الفطرة على الدوام كما نرى.

حب القلائد والأساور هذا الذي يظهر على الأنثى منذ سنوات طفولتها الأولى في تلبيس العرائس والدمى وتقليدها وتجميلها هو التعبير الصادق عن الميل الفطري في الأنثى ومرآة تعلقها الدفين وبرهان سعادة لا يمكن تفسيرها بمحددات عقلية وواقعية يمكن أن تتوافر للذكر حتى يفهم ما تعنيه الحلي لها، وهذا الميل تنبّه عليه ملابسات التشريع كما مرّ بنا وتؤكده السنة تصريحا وتلميحا، وليس هذا فحسب وإنما تنظر إلى الحلي والقلائد بما تمثله من رمزية وأداة للتعبير ولإبداء المشاعر وباعتباره رباطا يصل الأحياء بالأموات، فمن لطائف ما ورد في الأثر أن عقدا لأم المؤمنين خديجة كان في يد زينب ابنتها فأرادت أن تفتدي به زوجها الأسير ابن العاص قبل أن يسلم، فكان لذلك قصة ترويها عائشة رضي الله عنها فتقول: ” لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب في فداء أبي العاص بمال وبعثت فيه بقلادة لها كانت عند خديجة أدخلتها بها على أبي العاص قالت فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة وقال إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها فقالوا نعم” [10].

مفيد جدا أن نفهم قيمة الأسير في هذا المقام وأن نستخرج من الحديث قيمة الصفح والعفو عند المقدرة وما إلى ذلك، ولكن يهمنا أيضا أن نفهم مغزى موقف النبي عليه السلام وعلى أي شيء ينطوي، ويحق لنا أن نقف وقفة اعتبار ونحن نرى كيف  هيّجت رؤية العقد مشاعره، وكيف أحس في نفسه ذكرى صاحِبَته وكشف عن مكانتها في قلبه، ويهمنا أيضا من الحديث الدرس الإنساني والفهم الكبير لنفسية زينب وروح التضحية الكبيرة التي أبانت عنها، وهي تضحية لا يفهمها إلا ذو ذوق سليم، فهو الهدية الغالية التي تصلها بذكرى أمها- وهو رابط قد يفقد رمزيته في نحر امرأة أخرى، وكل ذلك يهون مقابل افتداء زوجها الغالي، هكذا استحضر النبي ما يعنيه فقدانها له فلم يشأ أن “تُرزأ” ابنته في حلية لها مكانة خاصة في قلبها.

هذه الرمزية تعكسها أيضا قلادة كان أهداها النبي صلى الله عليه وسلم لأمية بنت قيس الغفارية مكافأة ظلت وساما فخريا على صدرها لم تغادرها حتى بعد مماتها، وكان ذلك بعد أن شهدت معه خيبر وأبلت البلاء الحسن في إسعاف ومداواة الجرحى وهي لم تبلغ السابعة عشرة من عمرها، وقد لقبت هذه الصحابية الجليلة بصاحبة القلادة.

ولأن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقدر حب النساء للحلي فقد جعل منها عربون حب ورسول ود لمن يحب، وذلك ما أعلن عنه يوم أهديت له قلادة فظنت أمهات المؤمنين حينها أنها ستكون من نصيب عائشة رضي الله عنها لأنها أحب الناس إليه [11]، إلا أنه صلى الله عليه وسلم رأى أن يجعلها من نصيب حفيدته أمامة، فعن عائشة ” أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهديت له قلادة جزع فقال لأدفعنّها إلى أحب أهلي إلي فقالت النساء ذهبت بها ابنة أبي قحافة فعلّقها في عنق أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم”[12].

إن الحب شعور لا يجمع الأزواج فقط وإنما يفيض بالرحمة والاعتراف بالناس جميعا، والهدية تُرْبي في النفس هذه المشاعر السامية وتُصدّقها خصوصا إذا كان نوعها حليا وكان المهدى إليه أنثى، والرسالة هنا مفيدة ومقصودة في الإشارة إلى أن الصغيرة أيضا ذات إحساس رقيق. وقد أراد صلى الله عليه وسلم أن يجعل من إهداء القلادة لحفيدته الحبيبة دليلا على مشاعر محبة لا تمنعها مهابة النبوة ولا كبرياء الشيب رغم صغر سن زينب آنذاك، ورسالة إلى النساء يعلن فيها أن الصغار أهل لتذوق متعة ولذة التحلي وتلقي العناية، وحتى يعلم أن هناك من يحب القلائد غير عائشة. وقد جاء في رواية أخرى للحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أقسم أن يجعلها في رقبة أحب أهل البيت إليه، قالت عائشة: فأظلمت الأرض بيني وبينه خشية أن يضعها في رقبة غيري منهن، إلا أنها رضي الله عنها بعد أن وضعها في عنق أمامة سري عنها.[13]

الحلي والأساور والقلائد ليست معادن ولا ركاز لا تستحق النظر الفقهي إلا من حيث المقدار الذي تجب فيه الزكاة، وليست زينة لا ينظر إليها إلا من حيث مادتها وإلى أي حد تستجيب لنصوص الإباحة الواردة في السنة، ولا تستحق إثارة الخلاف فقط في جواز التحلي بالذهب المحلق أو عدم جوازه فتصنف لذلك المصنفات وتشرع لتفصيلها الأبواب، فثمة أبواب أخرى ظلت موصدة هي اليوم أكثر حاجة إلى زوايا نظر جديدة آن الأوان لطرقها لننفذ إلى زمن واع رشيد ووعي سليم بحاجات المرأة وفهم قضاياها، فما جسدته أم المؤمنين من مناسبة التشريع لنفسية المرأة وما راكمته من مواد في “فقه التجمل” يحتاج إلى إثراء واستيعاب وإلى ملاءمة لواقع متغير ولظروف علمية حديثة.

——————————————————————————–

[1]  صحيح البخاري حديث رقم 3230

[2]  انظر تفسير الآية 18 من سورة الزخرف في التحرير والتنوير.

[3]  سنن النسائي شرح السيوطي وحاشية السندي – كتاب الزينة ، حديث رقم 5143.

[4]  مسند أحمد حديث رقم 25776.

[5]  صحيح مسلم – كتاب التوبة – حديث رقم 2770.

[6]  – ص 219 .

[7]  صحيح مسلم، كتاب الحيض حديث رقم 367.

[8]  صحيح البخاري – كتاب تفسير القرآن، حديث رقم 4332، ص 1684.

[9]  فتح الباري شرح صحيحي البخاري،ص 518.

[10]  سنن أبي داود حديث رقم 2692.

[11]  انظر الحديث الدال على ذلك في سنن الترمذي كتاب المناقب حديث رقم 3886.

[12]  مسند أحمد حديث رقم 25717.

[13] انظر إمتاع الأسماع  لتقي الدين المقريزي.

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. السلام عليكم ورحمة الله
    قرأت الكثير عن عائشة أم المؤمنين بحكم تخصصي لكن هذا الجانب من شخصيتها لم ألمسه فيما قرأت. فعلا تحتاج شخصيتها كما قلت إلى دراسات وأبحاث حتى نتمكن من إعادة اكتشاف سير أعلام الإسلام بما فيهم عائشة بل إعادة بناء التراث الإسلامي بما يستحق من اعتبار.
    دعائي لكم بالتوفيق وتحياتي لصاحبة المقال

  2. اشكر الاخت مونية على هده المقالة والتحليل الرائع الدي قدمته حول هدا الموضوع المهم في حياتنا كمسلمين فنحن في حاجة ماسة الى مثل هده الكتابات خاصة في هدا العصر الدي يعرف العديد من الخروقات والتضليل حول المراة وما لها وما عليها ومثل هدا المقال لو قرئ من طرف اغلب النساء او نوقش في وسائل اعلامية اكثر قربا من المتلقي لكان له الاثر الايجابي على حياة بناتنا المخدوعات بالعصرنة واللواتي للاسف الشديد يعرفن عن حياة الممثلات والمغنيات الكثير وقد لا تعرف اكثرهن شيئا عن حياة امهات المسلمين او لهن نظرة وفكرة مغلوطة وحتى خاطئة احيانا فحبدا مثل هده المقالات من هده الرابطة اعز الله القائمين عليها والساهرين على الكتابة فيها و بالتوفيق للاخت مونية

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق