مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةدراسات عامة

عصمة الأنبياء برأي المتكلم الأشعري “القاضي عياض” ت.544هـ

 

– على سبيل التقديم:
لعل أشهر مؤلفات القاضي عياض وأكثرها تداولا بين الناس، كتاب “الشفا بتعريف حقوق المصطفى”، وهو كتاب في شمائل نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، ويُعدّ من أحسن الكتب المعرّفة به، قال فيه أهل العلم لما قرؤوه: «لولا الشفا لما عُرف المصطفى»، وهو أشهر من أن يعرَّف، يقول القاضي عياض في مقدمته: (فإنك كررت علي السؤال في مجموعٍ يتضمن التَّعريفَ بقدر المصطفى – عليه الصلاة والسلام – وما يجب له من توقير وإكرام، وما حكم من لم يوف واجب عظيم ذلك القدر، أو قصر في حق منصبه الجليل قلامة ظفر، وأن أَجْمَعَ لك ما لأسلافنا وأئمتنا في ذلك من مقال، وأبيِّنَه بتنزيلِ صورٍ وأمثال… ولما نويت تقريبه، ودرجت تبويبه، ومهدت تأصيله، وخلَّصت تفصيله، وانتحيت حصره وتحصيله، ترجمته بـ”الشفا بتعريف حقوق المصطفى”، وحصرت الكلام فيه في أقسام أربعة..)[1]. 
وهكذا قسمه مؤلفه إلى أربعة أقسام: 
الأول: في تعظيم قدر النبي قولًا وفعلًا،
والقسم الثاني: فيما يجب على الأنام من حقوقه عليه السلام، 
والقسم الثالث: فيما يستحيل في حقه وما يجوز وما يمتنع وما يصح، 
والقسم الرابع: في تصرف وجوه الأحكام على من تَنَقَّصه أو سَبَّه.
– تعريف العصمة وبيان معناها:
تكاد تجمع جل مصادر اللغة على أن العصمة لغة تعني: المنع والحفظ، واصطلاحا: حفظ الله تعالى أنبياءه من الذنوب كبيرها وصغيرها، أي أن الله تعالى لا يعطي للنبي الذي يرسله فرصة اقتراف الذنب، إذ يحفظه من ذلك. 
وخلاصة ما ذهب إليه المتكلمون في العصمة، أنها تعني: حفظ الله تعالى لأنبيائه عن مواقعة الذنوب الظاهرة والباطنة. 
وتعني كذلك: أن العناية الإلهية لم تنفك عنهم في كل أطوار حياتهم قبل النبوة وبعدها. 
فهي محيطة بهم تحرسهم من الوقوع في منهيٍّ عنه شرعا أو عقلا. 
فقد كان أنبياء الله تعالى ورسله -عليهم السلام- محفوظي الظواهر والبواطن من التلبس بمنهي عنه، ولو نهي كراهة أو خلاف أولى. فهم محفوظون ظاهرا من الزنا وشرب الخمر والكذب والسرقة وغير ذلك من المنهيات المستقبحات في الخارج، ومحفوظون في الباطن من الحسد والكبر والرياء وغير ذلك من منهيات الباطن. 
وبهذا يثبت أن العصمة أصل من أصول النبوة، أنعم الله بها على أنبيائه جميعا، وذلك لشرف الرسالة التي بعثوا من أجل تبليغها. 
– مفهوم العصمة عند القاضي عياض:
لقد كان لتعظيم مقام النبوة أثر كبير في توجيه البحث في عصمة الأنبياء عليهم السلام، وما يتعلق بها من مسائل، حيث ذهب معظم متكلمي الغرب الإسلامي من الأشاعرة إلى عصمة النبي- صلى الله عليه وسلم –  من الكبائر والصغائر قبل البعثة وبعدها، عمدا وسهوا،  وقد ردُّوا على من أجاز عليهم بعض ذلك بتفصيلاته.
وقد عقد القاضي عياض في كتابه “الشفا” مبحثا حول عصمة الأنبياء ضم مجموعة من الفصول في بابين اثنين؛ 
– الباب الأول بعنوان: فيما يختص بالأمور الدينية والكلام في عصمة نبينا وسائر الأنبياء صلوات الله عليهم، وفيه ستة عشر فصلا منها: 
– في حكم عقد قلب النبي- صلى الله عليه وسلم – من وقت نبوته.
– في عصمة الأنبياء قبل النبوة من الجهل بالله وصفاته والتشكك في شيء من ذلك.
 – في إجماع الأمة على عصمة النبي- صلى الله عليه وسلم – من الشيطان.
 – في عصمة النبي في أقواله وأفعاله.
 – فيما يتصل بأمور الدنيا وأحوال نفسه.
– فيما يتعلق بالجوارح.
 – عصمة الأنبياء من الفواحش والكبائر.
– في عصمتهم قبل النبوة…
– والباب الثاني بعنوان: فيما يخصهم في الأمور الدنيوية ويطرأ عليهم في العوارض البشرية.
 وقسمه إلى تسعة فصول منها: 
فيما يخصهم في الأمور الدنيوية ويطرأ عليهم في العوارض البشرية.
– حالتهم بالنسبة للسحر.
– أحواله في أمور الدنيا.
– أخباره الدنيوية.
– حكمة المرض والابتلاء لهم…
يقول القاضي عياض:  (فالأنبياء والرسل عليهم السلام وسائط بين الله تعالى وبين خلقه؛ يبلغونهم أوامره ونواهيه، ووعده ووعيده، ويعرفونهم بما لم يعلموه من أمره وخلقه، وجلاله وسلطانه وجبروته وملكوته، فظواهرهم وأجسادهم وبنيتهم متصفة بأوصاف البشر، طارىء عليها ما يطرأ على البشر من الأعراض والأسقام والموت والفناء ونعوت الإنسانية، وأرواحهم وبواطنهم متصفة بأعلى من أوصاف البشر متعلقة بالملأ الأعلى متشبهة بصفات الملائكة سليمة من التغير والآفات، لا يلحقها غالبا عجز البشرية ولا ضعف الإنسانية.. وهذه جملة لن يكتفي بمضمونها كل ذي همة، بل الأكثر يحتاج إلى بسط وتفصيل…)[2].
– ما يعصم فيه الأنبياء :
إن الرسل عليهم السلام من حيث إنهم مرسلون من عند الله تعالى بالشرائع والأحكام تجب لهم صفات أهمها: الصدق والأمانة والتبليغ والفطانة؛ فهم صادقون مؤتمنون فيما يبلغونه عن الله تعالى، متمتعون بالفطانة لإلزام الخصوم وإحجاجهم، ومكلفون بتبليغ ما كلفهم به ربهم سبحانه ولا يكتمون الله حديثا.
وقد اتصف نبينا – صلى الله عليه وسلم – بالعصمة – كغيره من رسل الله-، والعصمة هنا تعني المأمن من الزلل والخطأ، والمأمن من أن يقر النبي – صلى الله عليه وسلم – على خطأ أو نسيان يصدر عنه، وغير ذلك مما يعتري البشر، ولا يؤثر ذلك في رسالته أو نبوته، ولذلك سيقتصر الحديث هنا في القضايا التي تجيب عن التساؤل التالي:
 ما هي الأمور التي يعصم فيها الأنبياء؟
وجوابه أن العصمة تكون في ثلاثة أمور:
 الأول: العصمة فيما يتعلق بالوحي تلقياً وتبليغاً،
 الثاني: العصمة فيما يتعلق بالوقوع في الكبائر، 
الثالث: العصمة فيما يتعلق بالوقوع في الصغائر،
فهذه ثلاثة أبواب هي أبواب العصمة التي ميز الله تعالى بها أنبياءه ورسله.
فالعصمة فيما يتعلق بالتبليغ أو بتلقي الوحي عن الله عز وجل لا خلاف بين أهل السنة والجماعة فيها؛ إذ هم مجمعون على أن الأنبياء والمرسلين معصومون في هذا الباب. كما أنهم معصومون بعد بعثتهم من اقتراف الكبائر. لكن الخلاف بينهم فيما يتعلق بارتكابهم الكبائر قبل بعثتهم، والراجح: أنهم لم يرتكبوا كبيرة قبل البعثة. وهناك أمور لازمة لجميع البشر لم ينج منها أحد حتى الأنبياء والمرسلون؛ كالغضب والسخط والخوف وغير ذلك..
وهذه أقوال القاضي عياض في ذلك:
– يقول في عصمة الأنبياء قبل النبوة من الجهل بالله وصفاته والتشكك في شيء من ذلك: (وأما عصمتهم من هذا الفن قبل النبوة فللناس فيه خلاف، والصواب أنهم معصومون قبل النبوة من الجهل بالله وصفاته والتشكك في شيء من ذلك..)[3].
– ويقول في عصمة النبي من الشيطان: (واعلم أن الأمة مجمعة على عصمة النبي – صلى الله عليه وسلم – من الشيطان وكفايته منه، لا في جسمه بأنواع الأذى، ولا على خاطره بالوساوس)[4].
– ويقول في عصمة النبي في أقواله وأفعاله: (وأما أقواله – صلى الله عليه وسلم – فقامت الدلائل الواضحة بصحة المعجزة على صدقه، وأجمعت الأمة فيما كان طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء منها بخلاف ما هو به، لا قصدا ولا عمدا ولا سهوا ولا غلطا. أما تعمد الخلف في ذلك فمنتف بدليل المعجزة القائمة مقام قول الله فيما قال اتفاقا وبإطباق أهل الملة إجماعا)[5].
– ويقول في عصمة الأنبياء من الفواحش والكبائر: (وأما ما يتعلق بالجوارح من الأعمال ولا يخرج من جملتها القول باللسان فيما عدا الخبر الذي وقع فيه الكلام، والاعتماد بالقلب فيما عدا التوحيد وما قدمناه من معارفه المختصة به، فأجمع المسلمون على عصمة الأنبياء من الفواحش والكبائر الموبقات. ومستند الجمهور في ذلك الإجماع الذي ذكرناه، وهو مذهب القاضي أبي بكر، ومنعها غيره بدليل العقل مع الإجماع، وهو قول الكافة واختاره الأستاذ أبو إسحاق. وكذلك لا خلاف أنهم معصومون من كتمان الرسالة والتقصير في التبليغ؛ لأن كل ذلك يقتضي العصمة منه المعجزة، مع الإجماع على ذلك من الكافة. والجمهور قائل بأنهم معصومون من ذلك من قبل الله، معتصمون باختيارهم وكسبهم إلا حُسينا النجار فإنه قال: لا قدرة لهم على المعاصي أصلا.
 وأما الصغائر فجوزها جماعة من السلف وغيرهم على الأنبياء وهو مذهب أبي جعفر الطبري وغيره من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين.. وذهبت طائفة أخرى إلى الوقف وقالوا: العقل لا يحيل وقوعها منهم ولم يأت في الشرع قاطع بأحد الوجهين. وذهبت طائفة أخرى من المحققين من الفقهاء والمتكلمين إلى عصمتهم من الصغائر كعصمتهم من الكبائر، قالوا: لاختلاف الناس في الصغائر وتعيينها من الكبائر وإشكال ذلك، وقول ابن عباس وغيره: إن كل ما عُصي الله به فهو كبيرة، وإنه إنما سمي منها الصغير بالإضافة إلى ما هو أكبر منه..)[6].
– ويقول في عصمتهم قبل النبوة: (وقد اختلف في عصمتهم من المعاصي قبل النبوة؛ فمنعها قوم، وجوزها آخرون. والصحيح إن شاء الله تنزيههم من كل عيب، وعصمتهم من كل ما يوجب الريب، فكيف والمسألة تصورها كالممتنع، فإن المعاصي والنواهي إنما تكون بعد تقرر الشرع)[7].
الخاتمة: 
وخلاصة ما ذكره القاضي عياض في هذه المسألة من المباحث المتعلقة بعصمة نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – والدعوة إلى الاعتقاد الصحيح فيها وتنزيهه عن الوقوع في الخطأ والزلل قوله: (قد استبان لك أيها الناظر بما قررناه ما هو الحق من عصمته – صلى الله عليه وسلم – عن الجهل بالله وصفاته وكونه على حالة تنافي العلم بشيء من ذلك كله جملة بعد النبوة عقلا وإجماعا، وقبلها سمعا وشرعا، وعصمته عن الكذب وخلف القول منذ نبأه الله وأرسله قصدا أو غير قصد، واستحالة ذلك عليه شرعا وإجماعا ونقلا، ولا بشيء مما قرره من أمور الشرع وأداه عن ربه من الوحي قطعا وعقلا، وعن الصغائر تحقيقا، وعن استدامة السهو والغفلة واستمرار الغلط والنسيان عليه فيما شرعه للأمة، وعصمته في كل حالاته من رضا وغضب وجد ومزح، فيجب عليك أن تتلقاه باليمين، وتشد عليه يد الضنين، وتقدر هذه الفصول حق قدرها، وتعلم عظيم فائدتها وخطرها، فإن من يجهل ما يجب للنبي- صلى الله عليه وسلم – أو يجوز له أو يستحيل عليه ولا يعرف صور أحكامه؛ لا يأمن أن يعتقد في بعضها خلاف ما هي عليه، ولا ينزهه عما لا يجب أن يضاف إليه، فيهلك من حيث لا يدري، ويسقط في هوة الدرك الأسفل من النار، إذ ظن الباطل به، واعتقاده ما لا يجوز عليه يحل بصاحبه دار البوار)[8].
أما التنبيهات التي خوطب النبي- صلى الله عليه وسلم – بها، فلم تكن نتيجة اقتراف خطأ أو ذنب، بل إنها من قبيل اختيار الحسن مع وجود الأحسن، ولهذا يجب تقييمها من هذه الزاوية.
ولذلك ختم كتابه بالقول: (هنا انتهى القول بنا في ما حررناه، وانتجز الغرض الذي انتحيناه، واستوفى الشرط الذي شرطناه، مما أرجو أن يكون في كل قسم منه للمريد مقنع، وفي كل باب منهج إلى بغيته ومنزع..)[9].
الهوامش:
[1] كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى- صلى الله عليه وسلم – للقاضي عياض- ص: 8- تقديم وتحقيق: عامر الجزار-دار الحديث/القاهرة- طبعة:1425هـ/2004م- توضيح: هناك اختلاف كبير بين مختلف الطبعات في بعض نصوص القاضي عياض، لذلك ألزمت نفسي بالطبعة المشار إليها فقط، رغم الاختلافات التي تكون جوهرية أحيانا.
[2] نفسه- ص: 332
[3] نفسه- ص: 345
[4] نفسه- ص: 353
[5] نفسه- ص: 356
[6] نفسه- ص: 371-372
[7] نفسه- ص: 374
[8] نفسه- ص: 396
[9] نفسه- ص: 495
إعداد: منتصر الخطيب

– على سبيل التقديم:

لعل أشهر مؤلفات القاضي عياض وأكثرها تداولا بين الناس، كتاب “الشفا بتعريف حقوق المصطفى”، وهو كتاب في شمائل نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، ويُعدّ من أحسن الكتب المعرّفة به، قال فيه أهل العلم لما قرؤوه: «لولا الشفا لما عُرف المصطفى»، وهو أشهر من أن يعرَّف، يقول القاضي عياض في مقدمته: (فإنك كررت علي السؤال في مجموعٍ يتضمن التَّعريفَ بقدر المصطفى – عليه الصلاة والسلام – وما يجب له من توقير وإكرام، وما حكم من لم يوف واجب عظيم ذلك القدر، أو قصر في حق منصبه الجليل قلامة ظفر، وأن أَجْمَعَ لك ما لأسلافنا وأئمتنا في ذلك من مقال، وأبيِّنَه بتنزيلِ صورٍ وأمثال… ولما نويت تقريبه، ودرجت تبويبه، ومهدت تأصيله، وخلَّصت تفصيله، وانتحيت حصره وتحصيله، ترجمته بـ”الشفا بتعريف حقوق المصطفى”، وحصرت الكلام فيه في أقسام أربعة..)[1]. 

وهكذا قسمه مؤلفه إلى أربعة أقسام: 

الأول: في تعظيم قدر النبي قولًا وفعلًا،

والقسم الثاني: فيما يجب على الأنام من حقوقه عليه السلام، 

والقسم الثالث: فيما يستحيل في حقه وما يجوز وما يمتنع وما يصح، 

والقسم الرابع: في تصرف وجوه الأحكام على من تَنَقَّصه أو سَبَّه.

– تعريف العصمة وبيان معناها:

تكاد تجمع جل مصادر اللغة على أن العصمة لغة تعني: المنع والحفظ، واصطلاحا: حفظ الله تعالى أنبياءه من الذنوب كبيرها وصغيرها، أي أن الله تعالى لا يعطي للنبي الذي يرسله فرصة اقتراف الذنب، إذ يحفظه من ذلك. 

وخلاصة ما ذهب إليه المتكلمون في العصمة، أنها تعني: حفظ الله تعالى لأنبيائه عن مواقعة الذنوب الظاهرة والباطنة. 

وتعني كذلك: أن العناية الإلهية لم تنفك عنهم في كل أطوار حياتهم قبل النبوة وبعدها. 

فهي محيطة بهم تحرسهم من الوقوع في منهيٍّ عنه شرعا أو عقلا. 

فقد كان أنبياء الله تعالى ورسله -عليهم السلام- محفوظي الظواهر والبواطن من التلبس بمنهي عنه، ولو نهي كراهة أو خلاف أولى. فهم محفوظون ظاهرا من الزنا وشرب الخمر والكذب والسرقة وغير ذلك من المنهيات المستقبحات في الخارج، ومحفوظون في الباطن من الحسد والكبر والرياء وغير ذلك من منهيات الباطن. 

وبهذا يثبت أن العصمة أصل من أصول النبوة، أنعم الله بها على أنبيائه جميعا، وذلك لشرف الرسالة التي بعثوا من أجل تبليغها. 

– مفهوم العصمة عند القاضي عياض:

لقد كان لتعظيم مقام النبوة أثر كبير في توجيه البحث في عصمة الأنبياء عليهم السلام، وما يتعلق بها من مسائل، حيث ذهب معظم متكلمي الغرب الإسلامي من الأشاعرة إلى عصمة النبي- صلى الله عليه وسلم –  من الكبائر والصغائر قبل البعثة وبعدها، عمدا وسهوا،  وقد ردُّوا على من أجاز عليهم بعض ذلك بتفصيلاته.

وقد عقد القاضي عياض في كتابه “الشفا” مبحثا حول عصمة الأنبياء ضم مجموعة من الفصول في بابين اثنين؛ 

– الباب الأول بعنوان: فيما يختص بالأمور الدينية والكلام في عصمة نبينا وسائر الأنبياء صلوات الله عليهم، وفيه ستة عشر فصلا منها: 

– في حكم عقد قلب النبي- صلى الله عليه وسلم – من وقت نبوته.

– في عصمة الأنبياء قبل النبوة من الجهل بالله وصفاته والتشكك في شيء من ذلك.

 – في إجماع الأمة على عصمة النبي- صلى الله عليه وسلم – من الشيطان.

 – في عصمة النبي في أقواله وأفعاله.

 – فيما يتصل بأمور الدنيا وأحوال نفسه.

– فيما يتعلق بالجوارح.

 – عصمة الأنبياء من الفواحش والكبائر.

– في عصمتهم قبل النبوة…

– والباب الثاني بعنوان: فيما يخصهم في الأمور الدنيوية ويطرأ عليهم في العوارض البشرية.

 وقسمه إلى تسعة فصول منها: 

فيما يخصهم في الأمور الدنيوية ويطرأ عليهم في العوارض البشرية.

– حالتهم بالنسبة للسحر.

– أحواله في أمور الدنيا.

– أخباره الدنيوية.

– حكمة المرض والابتلاء لهم…

يقول القاضي عياض:  (فالأنبياء والرسل عليهم السلام وسائط بين الله تعالى وبين خلقه؛ يبلغونهم أوامره ونواهيه، ووعده ووعيده، ويعرفونهم بما لم يعلموه من أمره وخلقه، وجلاله وسلطانه وجبروته وملكوته، فظواهرهم وأجسادهم وبنيتهم متصفة بأوصاف البشر، طارىء عليها ما يطرأ على البشر من الأعراض والأسقام والموت والفناء ونعوت الإنسانية، وأرواحهم وبواطنهم متصفة بأعلى من أوصاف البشر متعلقة بالملأ الأعلى متشبهة بصفات الملائكة سليمة من التغير والآفات، لا يلحقها غالبا عجز البشرية ولا ضعف الإنسانية.. وهذه جملة لن يكتفي بمضمونها كل ذي همة، بل الأكثر يحتاج إلى بسط وتفصيل…)[2].

– ما يعصم فيه الأنبياء :

إن الرسل عليهم السلام من حيث إنهم مرسلون من عند الله تعالى بالشرائع والأحكام تجب لهم صفات أهمها: الصدق والأمانة والتبليغ والفطانة؛ فهم صادقون مؤتمنون فيما يبلغونه عن الله تعالى، متمتعون بالفطانة لإلزام الخصوم وإحجاجهم، ومكلفون بتبليغ ما كلفهم به ربهم سبحانه ولا يكتمون الله حديثا.

وقد اتصف نبينا – صلى الله عليه وسلم – بالعصمة – كغيره من رسل الله-، والعصمة هنا تعني المأمن من الزلل والخطأ، والمأمن من أن يقر النبي – صلى الله عليه وسلم – على خطأ أو نسيان يصدر عنه، وغير ذلك مما يعتري البشر، ولا يؤثر ذلك في رسالته أو نبوته، ولذلك سيقتصر الحديث هنا في القضايا التي تجيب عن التساؤل التالي:

 ما هي الأمور التي يعصم فيها الأنبياء؟

وجوابه أن العصمة تكون في ثلاثة أمور:

 الأول: العصمة فيما يتعلق بالوحي تلقياً وتبليغاً،

 الثاني: العصمة فيما يتعلق بالوقوع في الكبائر، 

الثالث: العصمة فيما يتعلق بالوقوع في الصغائر،

فهذه ثلاثة أبواب هي أبواب العصمة التي ميز الله تعالى بها أنبياءه ورسله.

فالعصمة فيما يتعلق بالتبليغ أو بتلقي الوحي عن الله عز وجل لا خلاف بين أهل السنة والجماعة فيها؛ إذ هم مجمعون على أن الأنبياء والمرسلين معصومون في هذا الباب. كما أنهم معصومون بعد بعثتهم من اقتراف الكبائر. لكن الخلاف بينهم فيما يتعلق بارتكابهم الكبائر قبل بعثتهم، والراجح: أنهم لم يرتكبوا كبيرة قبل البعثة. وهناك أمور لازمة لجميع البشر لم ينج منها أحد حتى الأنبياء والمرسلون؛ كالغضب والسخط والخوف وغير ذلك..

وهذه أقوال القاضي عياض في ذلك:

– يقول في عصمة الأنبياء قبل النبوة من الجهل بالله وصفاته والتشكك في شيء من ذلك: (وأما عصمتهم من هذا الفن قبل النبوة فللناس فيه خلاف، والصواب أنهم معصومون قبل النبوة من الجهل بالله وصفاته والتشكك في شيء من ذلك..)[3].

– ويقول في عصمة النبي من الشيطان: (واعلم أن الأمة مجمعة على عصمة النبي – صلى الله عليه وسلم – من الشيطان وكفايته منه، لا في جسمه بأنواع الأذى، ولا على خاطره بالوساوس)[4].

– ويقول في عصمة النبي في أقواله وأفعاله: (وأما أقواله – صلى الله عليه وسلم – فقامت الدلائل الواضحة بصحة المعجزة على صدقه، وأجمعت الأمة فيما كان طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء منها بخلاف ما هو به، لا قصدا ولا عمدا ولا سهوا ولا غلطا. أما تعمد الخلف في ذلك فمنتف بدليل المعجزة القائمة مقام قول الله فيما قال اتفاقا وبإطباق أهل الملة إجماعا)[5].

– ويقول في عصمة الأنبياء من الفواحش والكبائر: (وأما ما يتعلق بالجوارح من الأعمال ولا يخرج من جملتها القول باللسان فيما عدا الخبر الذي وقع فيه الكلام، والاعتماد بالقلب فيما عدا التوحيد وما قدمناه من معارفه المختصة به، فأجمع المسلمون على عصمة الأنبياء من الفواحش والكبائر الموبقات. ومستند الجمهور في ذلك الإجماع الذي ذكرناه، وهو مذهب القاضي أبي بكر، ومنعها غيره بدليل العقل مع الإجماع، وهو قول الكافة واختاره الأستاذ أبو إسحاق. وكذلك لا خلاف أنهم معصومون من كتمان الرسالة والتقصير في التبليغ؛ لأن كل ذلك يقتضي العصمة منه المعجزة، مع الإجماع على ذلك من الكافة. والجمهور قائل بأنهم معصومون من ذلك من قبل الله، معتصمون باختيارهم وكسبهم إلا حُسينا النجار فإنه قال: لا قدرة لهم على المعاصي أصلا.

 وأما الصغائر فجوزها جماعة من السلف وغيرهم على الأنبياء وهو مذهب أبي جعفر الطبري وغيره من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين.. وذهبت طائفة أخرى إلى الوقف وقالوا: العقل لا يحيل وقوعها منهم ولم يأت في الشرع قاطع بأحد الوجهين. وذهبت طائفة أخرى من المحققين من الفقهاء والمتكلمين إلى عصمتهم من الصغائر كعصمتهم من الكبائر، قالوا: لاختلاف الناس في الصغائر وتعيينها من الكبائر وإشكال ذلك، وقول ابن عباس وغيره: إن كل ما عُصي الله به فهو كبيرة، وإنه إنما سمي منها الصغير بالإضافة إلى ما هو أكبر منه..)[6].

– ويقول في عصمتهم قبل النبوة: (وقد اختلف في عصمتهم من المعاصي قبل النبوة؛ فمنعها قوم، وجوزها آخرون. والصحيح إن شاء الله تنزيههم من كل عيب، وعصمتهم من كل ما يوجب الريب، فكيف والمسألة تصورها كالممتنع، فإن المعاصي والنواهي إنما تكون بعد تقرر الشرع)[7].

الخاتمة: 

وخلاصة ما ذكره القاضي عياض في هذه المسألة من المباحث المتعلقة بعصمة نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – والدعوة إلى الاعتقاد الصحيح فيها وتنزيهه عن الوقوع في الخطأ والزلل قوله: (قد استبان لك أيها الناظر بما قررناه ما هو الحق من عصمته – صلى الله عليه وسلم – عن الجهل بالله وصفاته وكونه على حالة تنافي العلم بشيء من ذلك كله جملة بعد النبوة عقلا وإجماعا، وقبلها سمعا وشرعا، وعصمته عن الكذب وخلف القول منذ نبأه الله وأرسله قصدا أو غير قصد، واستحالة ذلك عليه شرعا وإجماعا ونقلا، ولا بشيء مما قرره من أمور الشرع وأداه عن ربه من الوحي قطعا وعقلا، وعن الصغائر تحقيقا، وعن استدامة السهو والغفلة واستمرار الغلط والنسيان عليه فيما شرعه للأمة، وعصمته في كل حالاته من رضا وغضب وجد ومزح، فيجب عليك أن تتلقاه باليمين، وتشد عليه يد الضنين، وتقدر هذه الفصول حق قدرها، وتعلم عظيم فائدتها وخطرها، فإن من يجهل ما يجب للنبي- صلى الله عليه وسلم – أو يجوز له أو يستحيل عليه ولا يعرف صور أحكامه؛ لا يأمن أن يعتقد في بعضها خلاف ما هي عليه، ولا ينزهه عما لا يجب أن يضاف إليه، فيهلك من حيث لا يدري، ويسقط في هوة الدرك الأسفل من النار، إذ ظن الباطل به، واعتقاده ما لا يجوز عليه يحل بصاحبه دار البوار)[8].

أما التنبيهات التي خوطب النبي- صلى الله عليه وسلم – بها، فلم تكن نتيجة اقتراف خطأ أو ذنب، بل إنها من قبيل اختيار الحسن مع وجود الأحسن، ولهذا يجب تقييمها من هذه الزاوية.

ولذلك ختم كتابه بالقول: (هنا انتهى القول بنا في ما حررناه، وانتجز الغرض الذي انتحيناه، واستوفى الشرط الذي شرطناه، مما أرجو أن يكون في كل قسم منه للمريد مقنع، وفي كل باب منهج إلى بغيته ومنزع..)[9].

 

الهوامش:


[1] كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى- صلى الله عليه وسلم – للقاضي عياض- ص: 8- تقديم وتحقيق: عامر الجزار-دار الحديث/القاهرة- طبعة:1425هـ/2004م- توضيح: هناك اختلاف كبير بين مختلف الطبعات في بعض نصوص القاضي عياض، لذلك ألزمت نفسي بالطبعة المشار إليها فقط، رغم الاختلافات التي تكون جوهرية أحيانا.

[2] نفسه- ص: 332

[3] نفسه- ص: 345

[4] نفسه- ص: 353

[5] نفسه- ص: 356

[6] نفسه- ص: 371-372

[7] نفسه- ص: 374

[8] نفسه- ص: 396

[9] نفسه- ص: 495


إعداد: الباحث منتصر الخطيب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق