مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

عثمان بن عفان: نموذج أخلاقي للاقتداء

    لقد جاء دين الإسلام منهج هداية للبشرية، لتصحيح عقائدها، وتهذيب نفوسها، وتقويم أخلاقها، وإصلاح مجتمعاتها، وتنظيم علاقاتها، ونشر الخير والفضيلة بين أفرادها، ومحاربة الشر والرذيلة، لذا فقد كانت مكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب، ومعالي القيم، وفضائل الشيم، وكريم الصفات والسجايا، من أسمى ما دعا إليه الإسلام، فقد تميَز بنظام أخلاقي فريد، لم ولن يصل إليه نظام بشري أبدا.

    ولقد بلغ من عظم مكانة الأخلاق في الشريعة الإسلامية أن حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم مهمة بعثته وغاية دعوته في كلمة عظيمة جامعة، قال: «بعثتُ لأتمم حسن الأخلاق»،[1] وفي هذا أكبر دليل وأنصع حجة على أن رسالة الإسلام حققت ذروة الكمال، وقمة الخير والفضيلة والأخلاق، كما أن قدوة هذه الأمة عليه الصلاة والسلام كان المثل الأعلى والنموذج الأسمى للخلق الكريم.

    وحسبنا في ذلك ثناء ربه عليه في قوله سبحانه: ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾،[2] ووصفه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقالت: «كان خلقه القرآن».[3]

     ولخص الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب[4] الأخلاق الإسلامية، حين قال للنجاشي: “أيها الملك،كنا أقواما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسئ الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، فصدَقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا…”.[5]

    وعليه تكون رسالة الإسلام رسالة أخلاق رفيعة، وفضائل كريمة، وسلوكات نبيلة، مقصدها وغايتها مرضاة الحق تبارك وتعالى، وتحقيق المحبة والقرب من أحسن الناس خلقا عليه السلام، فعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون. قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون».[6]

   إن الأخلاق الحسنة أعظم ما تعتز به الأمم، وتمتاز به عن غيرها، والأخلاق تعكس ثقافة الأمة وحضارتها، وبقدر ما تعلو أخلاق الأمة تعلو حضارتها، وتلفت الأنظار إليها، ويتحير أعداؤها فيها، وبقدر ما تنحط أخلاقها وتضيع قيمها تنحط حضارتها وتذهب هيبتها بين الأمم.

   إذا شاعت في المجتمع الأخلاق الحسنة، أمِنَ الناس، وحفظت الحقوق، وقويت أواصر المحبة بين أفراد المجتمع، وقلت الرذيلة، وزادت الفضيلة، وقويت شوكة الإسلام، وإذا شاعت الأخلاق السيئة، فسد المجتمع، واختل الأمن، وضاعت الحقوق، وانتشرت القطيعة بين أفراد المجتمع، وضعفت الشريعة في نفوس أهلها، وانقلبت الموازين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيأتي على الناس سنواتٌ خَدّاعاتٌ؛ يُصدّقُ فيها الكاذب، ويُكذّبٌ فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرُّوَيْبِضَة، قيل: ومن الرويبضة يا رسول الله؟! قال: الرجل التافه في أمر العامة».[7]

    والمتأمِّل في حالِ المسلمين اليوم يجِد أنَّ هناك أزمةً أخلاق في جميع مجالات الحياة: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية…، بل في الحياة اليوميَّة مِن الصغير إلى الكبير، ومِن الذَّكر إلى الأنثى، وهذه الأزمة الأخلاقية ترجع إلى البعد عن دستورنا الذي يُنظم العلاقات بين الناس على أساس المحبة والوئام والتعايش والسلام، ذلك الدستور الذي جاء به سيد المتخلقين عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم بوحي من رب العزة جل في علاه، ليتمم ما وجده في قومه من مكارم الأخلاق التي ورثوها عن سلفهم كابرا عن كابر وليربطها بالدين الحنيف، من صدق وأمانة، ووفاء بالعهود والعقود، وكرم ونجدة وغيرها.

    لكننا في العصر  الراهن ابتعدنا عن الأخلاق الفاضلة، وشاعت البغضاء والنفاق والنفعية حتى بين الأقارب والوالدين، فقطع الرحم، وسادت الضغينة، وكثرت العوائق والعراقيل التي أفسدت الأفراد والمجتمعات على حد سواء، فالسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح اليوم هو:
ما الواجب علينا ونحن أمَّة حُكِم لنا بالخيرية في كتاب الله بشروطها؟ وأين يكمن الحل الأنجع لأزمة الأخلاق؟ هل نجده في في سيرة سلفنا الصالح الذين تخلقوا بأخلاق الله، فكانت أخلاقهم منهجا يحتذى، ممن يريد مجتمعا صحيا بكل المقاييس؟ وكيف السبيل للعودة إلى المنابع والأصول الأخلاقية التي يمثلها السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين من الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى يوم الدين؟

 سِيَر السلف الصالح: النموذج والقدوة

    إن الاقتداء الحسن أهم شيء في حياة المسلم؛ يُنير له السبيل، ويُثبِّتُه على الصراط المستقيم، ويُبيِّن له النهاية والعاقبة الحميدة، ويرفعُ له أعلامَ الحق، ويُوصِلُه إلى جنات النعيم، ويحميه من طُرق الباطل والغواية، وقدوة المسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الصحابة رضي الله عنهم، وأئمة الإسلام الذين قام بهم الإسلام وبه قاموا.

    وسرُّ فضل الصحابة رضي الله عنهم، لكمال اقتدائهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومُشاهدتهم له، ومُعاونته على تمكين الدين في الأرض، وجهادهم معه أعداءَ الإسلام، وبذلهم الأموالَ والنفوسَ في سبيل الله، وتبليغهم القرآن والسنة في الأرض، وهم أفضل الناس بعد النبيين عليهم الصلاة والسلام.

   لهذا اعتنى فقهاء الأمة الإسلامية وعلماؤها بسير الصالحين وأخبارهم، تشهد على ذلك أقوالهم المُرَغِّبة في الإطلاع عليها ومعرفتها، والاقتداء بدررها، من ذلك قول الإمام أبي حنيفة (ت150ھ): “الحكايات عن العلماء ومحاسنهم أحب إليّ من كثير من الفقه، لأنها آداب القوم وأخلاقهم. وشاهده قوله تعالى: ﴿أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده﴾،[8] وقوله سبحانه: ﴿لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب﴾[9]“.[10]

   وقال مالك بن دينار رحمه الله تعالى: “الحكايات تحف الجنة. وقال آخر: استكثروا من الحكايات فإنها درر، وربما كانت فيها الدرة اليتيمة”.[11]

   وروى الإمام الحافظ أبو سعد السمعاني (ت562ھ) في كتابه: أدب الإملاء والاستملاء، “عن سليمان بن حرب قال: كنا عند حمّاد بن زيد فحدّثنا بأحاديث كثيرة، ثم قال: لتأخذوا في أبزاز الجنة، فحدثنا بحكايات. وعن أبي حامد أحمد بن ماما الأصبهاني ببخارا يقول: سمعت البرقي يقول: الحكايات حبوب تُصطاد بها القلوب. وعن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي: سمعت عمي يقول: قال لي الرشيد: استكثروا من هذه الحكايات فإنها نثارات الدر، وربما كانت فيها الدرة التي لا قيمة لها[12]“.[13]

    وقال ابن الجوزي: “رأيت الاشتغال بالفقه وسماع الحديث لا يكاد يكفي في صلاح القلب، إلا أن يمزج بالرقائق والنظر في سير السلف الصالحين”.[14]

   لا يسعنا إلا أن نخلص إلى نتيجة مفادها أن حكايات الصالحين من الرجال وأخبارهم مليئة بالدرر واللآليء، غنية بالفوائد والفرائد، التي لولاها لما حصل الاهتداء والاقتداء بنهجهم، في حسن التزامهم بالشرع الحنيف، وفي أخلاقهم وآدابهم وحسن سمتهم.

    وفي الحديث عن نموذج من طينة ذي النورين، وصاحب الهجرتين، عثمان بن عفان رضوان الله عليه ما يدخل في سياق القدوة والاقتداء، خاصة فيما تعلق بجانب الأخلاق، وإن كانت سيرته مجملة تستحق الدراسة والتأمل والتحليل، ليحصل الانتفاع والاقتداء والاهتداء، وخاصة في هذا العصر ونحن نعيش أزمة أخلاق وتخليق، وبعد عن النموذج الواجب اتباعه، وزرع مبادئه داخل مجتمعاتنا، فإن “تاريخ عصر الخلفاء الراشدين ملئ بالدروس والعبر، وهي متناثرة في بطون الكتب وأمهات المصادر والمراجع…، فتاريخ الخلافة الراشدة يغذي الأرواح، ويهذب النفوس، وينور القلوب، ويبني العقول، ويشحذ الهمم، ويقدم الدروس، ويسهل العبر، وينضج الأفكار، ويوضح معالمها، وصفات قادتها، ونظام حكمها، وأخلاق جيلها، وعوامل ازدهارها، وأسباب زوالها، فنستفيد من ذلك في إعداد الجيل المسلم الذي يتربى على منهاج النبوة…”.[15]

    نحن بحاجة ماسة لأن نربي أنفسنا وجيلنا على أن ديننا الحنيف وشريعتنا الغراء قد أخرجت لنا قادة دان لها الشرق والغرب، وأنبتت لنا علماء ما زالوا يؤتون أكلهم كل حين بإذن ربهم، وأيضاً ينبغي أن نجعل ميزاننا وميزان من نعلّم ميزانا شرعياً، فالمحبوب عندنا من أحبه الله، والمكروه والمبغوض من أبغضه الله، وهذا نعرفه من جهة الظاهر وأما السرائر فإلى الله تعالى.

 عثمان بن عفان والتربية في مدرسة النبوة

   إن الرافد القوي الذي أثّر في شخصية عثمان رضي الله عنه، وصَقَل مواهبه، وفجَّر طاقته، وهذَّب نفسه، هو صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتتلمذه على يديه في مدرسة النبوة، ذلك أن عثمان لازم الرسول عليه السلام في مكة بعد إسلامه، كما لازمه في المدينة بعد هجرته؛ فقد نظم عثمان نفسه، وحرص على التلمذة في حلقات مدرسة النبوة في فروع شتى من المعارف والعلوم، على يدي معلم البشرية وهاديها الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه، فحرص على تعلم القرآن الكريم والسنة المطهرة من سيد الخلق أجمعين عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.


وهذا عثمان يحدثنا عن ملازمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: إن الله -عز وجل- بعث محمدا بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكنت ممن استجاب لله ولرسوله وآمن، فهاجرت الهجرتين الأوليين، ونلت صهر رسول الله، ورأيت هديه.

    تربى عثمان على المنهج القرآني، وكان المربي له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت نقطة البدء في تربية عثمان هي لقاؤه برسول الله صلى الله عليه وسلم، فحدث له تحول غريب واهتداء مفاجئ بمجرد اتصاله به عليه السلام، فخرج من دائرة الظلام إلى دائرة النور، واكتسب الإيمان وطرح الكفر، وقوي على تحمل الشدائد والمصائب في سبيل الإسلام وعقيدته السمحة.

    “لقد تشرّب عثمان رضي الله عنه بالمنهج القرآني، وتتلمذ على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعَرَف من خلال القرآن الكريم من هو الإله الذي يجب أن يعبده، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يغرس في نفسه معاني تلك الآيات العظيمة، فقد حرص صلى الله عليه وسلم أن يربي أصحابه على التصور الصحيح عن ربهم وعن حقه عليهم، مدركا أن هذا التصور سيورث التصديق واليقين عندما تصفى النفوس وتستقيم الفطرة”.[16]

   كانت شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم تملك قوى الجذب والتأثير في الآخرين، فقد صنعه الله على عينه، وجعله أكمل صورة لبشر في تاريخ الأرض، والعظمة دائما تحب وتحاط من الناس بالإعجاب، ويلتف حولها المعجبون ويلتصقون بها التصاقا بدافع الإعجاب والحب، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يضيف إلى عظمته تلك أنه رسول الله تلقى الوحي منه جل وعلا، وبلّغه للناس.

   كان هذا الحب الذي حرّك الرعيل الأول من الصحابة هو مفتاح التربية الإسلامية ونقطة ارتكازها ومنطلقها الذي تنطلق منه. لقد حصل لعثمان وللصحابة ببركة صحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتربيتهم على يديه أحوال إيمانية عالية، ولقد تتلمذ عثمان على يدي رسول الله عليه السلام، فتعلم منه القرآن الكريم والسنة النبوية، وأحكام التلاوة وتزكية النفوس، قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَاب تَعَالوا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُون﴾.[17]

   وحرص على التبحر في الهدي النبوي الكريم من خلال ملازمته لرسول الله في غزواته وسِلْمه، وقد أمدته تلك المعايشة بخبرة ودربة ودراية بشؤون الحرب، ومعرفة بطبائع النفوس وغرائزها.

  لقد أثّرت صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أخلاقة وسلوكه وطبعه، فشكل بحق -كغيره من الصحابة والتابعين وتابعيهم- نموذجا يقتدى، ونهجا يحتذى، ولا أدلّ على ذلك من اقتداء أهل السلوك، وأرباب التخلُّق من الصوفية بهم، فإنه لا يجادل أحد في أن قدوة الصوفية في التخلق هم الصحابة الكرام، الذين تأدبوا بآداب سيّد الخلق عليه السلام، هذا ما أجمعت عليه جُلّ مصادر المؤرخين، حتى إن منهم من جعل الصحابة من طائفة الصوفية الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، من هؤلاء أبو نعيم الأصفهاني الذي افتتح حلية أوليائه بقوله: “… فقد استعنت بالله عز وجل وأجبتك إلى ما ابتغيت من جمع كتاب يتضمن أسامي جماعة وبعض أحاديثهم وكلامهم، من أعلام المتحققين من المتصوفة وأئمتهم، وترتيب طبقاتهم من النساك ومحجتهم، من قرن الصحابة والتابعين وتابعيهم من بعدهم، من عرف الأدلة والحقائق، وباشر الأحوال والطرائق، وساكن الرياض والحدائق، وفارق العوارض والعلائق، وتبرأ من المتنطعين والمتعمقين…، إذ لأسلافنا في التصوف من العلم المنشور، والصيت والذكر المشهور…”.[18]

لقد أقرّ أبو نعيم للصحابة والتابعين وتابعيهم ببلوغهم مقام التصوف أو الإحسان من الدين، والذي أصّله الحديث المروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن الإسلام والإيمان والإحسان، والذي عرّفه عليه السلام بقوله: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك». [19]

“فالتصوف ليس أمرا مستحدثا جديدا، ولكنه مأخوذ من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وحياة أصحابه الكرام، كما أنه ليس مستقى من أصول لا تمت إلى الإسلام بصلة كما يزعم أعداء الإسلام”.[20] 

وأصلُ التصوف كسلوك وتعبُّد، وإقبال على العبادة، وامتثال للأوامر، واجتناب للنواهي، ومجاهدة للنفس، وكثرة لذكر الله تعالى، وتحلٍّ بمكارم الأخلاق، يرجع إلى عهد سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وعهد الصحابة رضوان الله عليهم، ويستمد أصوله وفروعه من الدين الإسلامي الحنيف: القرآن الكريم والسنة النبوية.

فقد جمع سيدنا عثمان من مكارم الأخلاق وفضائل الصفات ما جعله قدوة لغيره من الصوفية وعامة المسلمين، فقد أخذ من أخلاق النبوة حظا وافرا، ونيلا ظافرا، وقد أبدع الأصفهاني في وصفه حيث قال: “ثالث القوم القانت ذو النورين، والخائف ذو الهجرتين، والمصلي إلى القبلتين، هو عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، كان من الذين ﴿آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا﴾، [المائدة، 93]، فكان ممن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه. غالب أحواله الكرم والحياء، والحذر والرجاء، حظه من النهار الجود والصيام، ومن الليل السجود والقيام، مبشر بالبلوى، ومنعم بالنجوى”.[21]

ولحسن خلقه ومعاملته أحبته قريش حتى ضربت العرب المثل بحبها له، تقول قريش: “أحبّك الرحمن حب قريش عثمان”.[22]

وأي درجة يسعى إليها الإنسان المؤمن المتخلق بالأخلاق المحمدية أعظم وأعلى وأرقى من رضا نبيه عليه السلام عليه، وقد حظي سيدنا عثمان بن عفان بهذه المنزلة، حيث “كان بين الصحابة منزلة من منازل الفخر، يعتدّون بها ويتعارفون عليها، وهي منزلة الرضا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يوم وفاته، وكان من الكلمات الجارية على الألسنة في معرض الثناء أن يقال عن الرجل إنه ممن توفي رسول الله عليه السلام وهو عنهم راض. فهذه المنزلة كانت من مفاخر عثمان التي يذكرها له من يحمده، وكان في الطليعة ممن تحسب لهم هذه المفخرة بين الصحابة…”.[23]

 رجل استحيت منه الملائكة

الحياء خلق نبيل، وزينة النفس البشرية، ورافد من روافد التقوى، لأنه يلزم صاحبه فعل كل ما هو جميل، ويصونه عن مقارفة كل قبيح، وهو من أجمع شعب الإيمان التي تقود صاحبها إلى الجنة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء[24] من الجفاء، والجفاء في النار».[25]

وقد حثّ الإسلام على أدب وخلق الحياء في آيات كثيرة، منها قوله عز وجل: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق﴾،[26] وقوله تعالى: ﴿فجاءته إحداهما تمشي على استحياء﴾.[27]

وقد عُرف النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخلق واشتهر به، حتى قال عنه أبو سعيد الخدري: «كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها»،[28] وهكذا نشأ الأنبياء جميعا على هذه السجية، فلا عجب إذاً أن يصبح الحياء الوصية المتعارف عليها، والبقية الباقية من كلام النبوة، والتي يبلغها كل نبي لأمته.

والحياء عند أهل الصلاح والولاية أول مدارجهم ومنازلهم في طريق السير إلى الله تعالى وبلوغ مرتبة الإحسان، «لما فيه من ملاحظة حضور من يستحى منه. وأول سلوك أهل الخصوص: أن يروا الحق سبحانه حاضرا معهم، وعليه بناء سلوكهم…، فالحياء حالة حاصلة من امتزاج التعظيم بالمودة. فإذا اقترنا تولد بينهما الحياء».[29]

فقد بلغ سيدنا عثمان مقام الحياء، الذي هو مقام العباد المقربين، والأولياء والصالحين، وذلك ما أكده المناوي في فيض القدير بقوله: «مقام عثمان مقام الحياء، والحياء فرع يتولد من إجلال من يشاهده، ويعظم قدره، مع نقص يجده من النفس، فكأنه غلب عليه إجلال الحق تعالى، ورأى نفسه بعين النقص والتقصير، وهما من جليل خصال العباد المقربين، فعلت رتبة عثمان لذلك، فاستحيت منه خلاصة الله من خلقه…».[30]

والتاريخ والوقائع شاهدان على ذلك، حيث تحكي لنا السيدة عائشة رضي الله عنها قصة يشهد فيها سيد العالمين عليه السلام لعثمان بن عفان رضوان الله عليه بالحياء واستحياء الملائكة منه، قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعا في بيتي، كاشفا عن فخذيه، أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر فأذن له، وهو على تلك الحال، فتحدث، ثم استأذن عمر فأذن له، وهو كذلك، فتحدث، ثم استأذن عثمان، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسوّى ثيابه…، فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتش له، ولم تباله، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك، فقال: ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة».[31]

ذكر الحسن البصري عثمان يوما وتحدث عن شدة حيائه، فقال عنه: إنه ليكون في البيت، والباب عليه مغلق، فما يضع عنه الثوب ليفيض عليه الماء، يمنعه الحياء أن يقيم صلبه.[32] 

وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَرْحَمُ أُمتِي بأمتي أبو بكر، وأشدُّهُمْ في أمر الله عمر، وأصدقُهم حياءً عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أُبَيّ، ولكل أُمّة أمين، وأمينُ هذه الأُمّة أبو عبيدة بن الجراح».[33]

فلم يكن حياء عثمان رضي الله عنه حياء مفتعلاً أو متكلفًا، بل كان حياء صادقًا، وكأنما مازج الحياء دمه ولحمه، فصار كالنّفَس يفعله بلا إرادة رضي الله عنه.

فصار معروفا بهذه الصفة، متميزا بها عن غيره، لدرجة أنه لا تذكر هذه المزية إلا ويذكر عثمان معها، وما يذكر عثمان حتى تذكر معه رضي الله عنه، حتى إنه “لشدة حيائه يهاب الكلام، ولم تكن هيبته للكلام عن عجز ولا عي، فقد كان رضي الله عنه أحسن الناس حديثا وأتمهم منطقا”.[34]

  ما ضرّ عثمان ما عمِل بعد اليوم

  الكرم خُلق الأنبياء عليهم السلام، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أكرم الناس شرفاً ونسبًا، وأجود الناس وأكرمهم في العطاء والإنفاق، وقد رغَّبنا رب العزة جل وعلا فيه في أكثر من موضع من القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون﴾.[35]

 وحثَّنا نبينا صلى الله عليه وسلم على الكرم ورغّب فيه؛ فقال: «من كان يؤمنُ بالله واليوم الآخر فليُكرم ضيفه».[36]

ما روي عن النبي صلى‌ الله‌ عليه ‌وآله ‌وسلم قوله: «السخي قريب من الله، قريب من الجنة، قريب من الناس، بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله، بعيد من الجنة، بعيد من الناس قريب من النار، ولجاهل سخي أحبُّ إلى الله عز وجل من عالِم بخيل».[37] وقد اشتهر عن النبي صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم أنه كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر. 

فمَنْ عُرِفَ بالكرم عُرِف بشرف المنزلة، وعُلُوِّ المكانة، وانقاد له قومُه، فما ساد أحد في الجاهلية ولا في الإسلام، إلا من كان الكرم خلقه، والجود صفته، وعلى دأب نبيه عليه السلام سار عثمان بن عفان، إذ «كان بالمال إلى رضاء الله متوصلا، وببذله لعباد الله متنفلا، ولحظ نفسه منه متقللا، وفي لباسه متعللا».[38]

   أخرج الحاكم عن أبي هريرة قال: «اشترى عثمان الجنة من النبي صلى الله عليه وسلم مرتين بيع الحق، حيث حفر بئر رومة، وحيث جهز جيش العسرة».[39]

   كان رضي الله عنه يتسم بالسخاء الشديد، سخاء ما بعده سخاء، ودعوة من النبي صلى الله عليه وسلم ما دعاها لأحد قبله ولا بعده: «ما ضرّ عثمان ما عمل بعد اليوم».[40]

   والإنفاق في مرضاة الله من علامات صدق الإيمان ومحبة المؤمنين والتوكل على الله، وقد جعل سبحانه إنفاق المـال وسيلة لمغالبة النفس والانتصار عليها بإخراج المال المحبوب لها، يقول تعالى:﴿فاتقُوا اللَّه مَا استَطَعْتُم واسمعوا وأطِيعُوا وأنفِقُوا خَيْراً لأنفُسِكُمْ، ومن يُوقَ شُحّ نَفْسه فأولئك هُمُ المفلحون﴾.[41]

 فسيدنا عثمان عثمان رضي الله عنه بما كان له من اليد الطولى في البذل والعطاء، ما خسر شيئا بإنفاقه وكرمه وجوده، بل ربح جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، المبتغين وجه الله سبحانه ورضاه.

«وقد كان عثمان رضي الله عنه عفيف النفس بالضرورة، لأن الكرم يكون مع العفة لا مع الشره، وهو من أكرم الناس، ولم ينحصر كرمه في ذوي قرابته، بل تعداه إلى غيرهم أيضا».[42]

إنه لم يسبق غيره في ساحات القتال والجهاد، بل «آلى على نفسه ليسبقنهم في ميادين الجود والسخاء، وثابر على ذلك من أول أيامه في الحياة، فهاجر إلى الحبشة وهو يعلم أن ماله كله عرضة للضياع من جراء هذه الهجرة، فلم يبال ما بقي منه وما ضاع، وتقدم في كل محنة أصابت المسلمين من فاقة أو قحط أو نقص في السلاح والعتاد، فبذل من المعونة والعطاء ما لم يبذله أحد من أمثاله في ثرائه، وما لم يبذله الذين هم أقدر منه على معونة أو عطاء…».[43]

وكان الناس في خلافته في عيش رغيد، وأمن وطيد، وفي ألفة واتفاق، وصف الحسن البصري حالهم بقوله: «الأعطيات في خلافته جارية، والأرزاق دارّة، والعدو متقى، وذات البين حسن، والخير كثير، وما مؤمن يخاف مؤمنا، من لقيه فهو أخوه من كان».[44]  

 ولقد بلغ من شدة سخائه وكرمه أنه كان رضي الله عنه يطعم الناس طعام الإمارة، ويدخل بيته فيأكل الخل والزيت.[45]

ولم يكن كرمه وجوده وعطاؤه مقصورا على عصر النبوة، وإنما امتد طوال حياته، فقد أصاب الناس قحط في زمان أبي بكر رضي الله عنه فقال الخليفة لهم: لا تمسون حتى يفرج الله عنكم، فلما كان من الغد جاء البشير إليه قال: لقد قدمت لعثمان ألف راحلة برا وطعاما، قال: فغدا التجار على عثمان، فقرعوا عليه الباب، فخرج إليهم وعليه ملاءة قد خالف بين طرفيها على عاتقه، فقال لهم: ما تريدون؟ قالوا: قد بلغنا أنه قدم لك ألف راحلة بُرّاً وطعاما، بعنا حتى نوسع به على فقراء المدينة، فقال لهم عثمان: ادخلوا، فدخلوا، فإذا ألف وقر في دار عثمان، فقال لهم: كم تربحوني على شرائي من الشام؟ قالوا: العشرة اثني عشر، قال: قد زادوني، قالوا: العشرة أربعة عشر، قال: قد زادوني، قالوا: العشرة خمسة عشر، قال قد زادوني، قالوا: من زادك ونحن تجار المدينة؟ قال: زادني الله بكل درهم عشرة، فهل عندكم زيادة؟ قالوا: لا، قال: فأشهدكم معشر التجار إنها صدقة على فقراء المدينة.[46]

وذكر أهل السير أن عثمان رضي الله عنه لما ولي الخلافة سنة أربع وعشرين سأله الناس أن يزيد في مسجدهم، وشكوا له ضيقه يوم الجمعة، حتى إنهم ليصلون في الرحاب، فشاور فيه عثمان أهل الرأي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا على أن يهدمه ويزيد فيه، فصلى الظهر بالناس ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إني قد أردت أن أهدم مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزيد فيه، وأشهد أني لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من بنى مسجدا بنى الله تعالى له بيتا في الجنة.[47]

أمضى سيدنا عثمان رضي الله عنه مع نفسه ميثاقا لا يخلفه طوال حياته، هو أنه يعتق كل جمعة عبدا ويحرر رقبة، يشتري العبد من سيده بأي ثمن، ثم يهبه حريته، مبتغيا وجه ربه الأعلى.

  لقد كان رضي الله عنه كغيره من الصحابة الفضلاء الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وبقوا على حالهم وعلى إيمانهم حتى بعد وفاة المختار صلى الله عليه وسلم، فالجود والعطاء الذي كان يشتهر به لم يتغير في عهد الصديق والفاروق رضي الله عنهما، ورجاحة العقل والحكمة بقيت كما هي.

 عثمان بين المعرفة بالله تعالى والشوق له سبحانه

لن نخوض في فتنة مقتله رضوان الله عليه، فقد أسهبت المصادر في وصفها، وتضاربت الآراء حولها، وما يهمنا من هذه القضية هو شجاعته رضوان الله عليه، ويقينه في الله عز وجل، وإيمانه الكبير بقضاء الله وقدره، وخوفه على مسلمي هذه الأمة من الفتنة والتشرذم إن هو قاتل ودافع عن نفسه، منفذا لوصية صاحبه ورفيقه ونبيه عليه الصلاة والسلام، المهم لدينا شوقه إلى لقاء ربه جل وعلا، ولقاء نبيه عليه السلام الذي بشره برفقته في الجنة، وذلك اليقين الذي تغلغل بأعماقه حتى إنه لم يخف الموت ولم يتزعزع إيمانه بربه جل في علاه قيد أنملة.

قال الله تعالى: ﴿من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت﴾.[48] قيل: هذا تعزية للمشتاقين، وتسلية لهم. أي أنا أعلم أن من كان يرجو لقائي فهو مشتاق إلي، فقد أجلت له أجلا يكون عن قريب، فإنه آت لا محالة، وكل آت قريب. وفيه لطيفة أخرى وهي تعليل المشتاقين برجاء اللقاء.[49]

فالشوق إلى لقاء الله تعالى درجة رفيعة كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله تعالى إياها، فقد روى الإمام أحمد بسنده عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهذا الدعاء: (وَأَسْأَلُك لَذَّة النَّظَر إلى وجهك والشَّوْق إلى لِقائك في غير ضَرَّاءَ مُضِرَّة، وَلاَ فِتْنَةٍ مُضِلَّة، اللَّهُمَّ زَيِّنا بزينة الإيمان، واجعلنا هُداةً مُهْتدين).[50]

   عن عائشة رضي الله عنها أنها ذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه. قالت: فقلت: يا رسول الله، كُلُّنا نكره الموت! قال: ليس ذلك، ولكن المؤمن إذا بُشِّر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله، وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا بُشِّر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله، وكره الله لقاءه).[51]

وقال القشيري في رسالته: “الشوق اهتياج القلوب إلى لقاء المحبوب، وعلى قدر المحبة يكون الشوق”.[52]

فقد كان رضوان الله عليه من شدة الوجد والحب والشوق إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أن تخلى عن حقه في نصرة أحد له، “لقد ضحى رضي الله عنه بنفسه وماله في سبيل الله، ومن أجل رفع راية الحق، ضحى في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، واستمر كذلك حتى سقط شهيدا للحق”.[53] 

واستسلم عثمان لأمر الله رجاء موعوده، وشوقا إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ومصدقاً لكلماته حين قال: (يا عثمان، إن الله مقمصك قميصاً، فإن أرادك المنافقون على خلعه، فلا تخلعه حتى تلقاني).[54]

وقد دخل المغيرة بن شعبة على ذي النورين وهو محاصر فقال: إنك إمام العامة وقد نزل بك ما ترى، وإني أعرض عليك خصالا ثلاثا اختر إحداهن، إما أن تخرج فتقاتلهم فإن معك عددا وقوة، وأنت على الحق وهم على الباطل، وإما أن تخْرق بابا سوى الباب الذي هم عليه فتقعد على رواحلك فتلحق مكة، فإنهم لن يستحلوك وأنت بها، وإما أن تلحق بالشام فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية. فقال عثمان: أما أن أخرج فأقاتل، فلن أكون أول من خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته بسفك الدماء، وأما أن أخرج إلى مكة فإنهم لن يستحلوني بها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يلحد رجل من قريش بمكة يكون عليه نصف عذاب العالم)، ولن أكون أنا، وأما أن ألحق الشام فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية، فلن أفارق دار هجرتي ومجاورة رسول الله صلى الله عليه وسلم.[55]

فضّل الاستشهاد خوفا على قومه من الفتنة، آثر أن يراق دمه على أن تراق دماء المسلمين دفاعا عنه، فأقسم على الذين نفروا إلى حمايته أن يتركوه لقضاء الله. ولقد غفت عين خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لحظات قبيل مصرعه فرأى النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم ومعه صاحباه أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب، وسمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقول له: (إنك شاهد معنا الجمعة)،[56] فأيقن عثمان أنه لاحق بربه، وهذا ما يفسر “عزيمة عثمان وثباته على الحق الذي كان يؤمن به، إنما هي ثمرة إيمان قوي وقر في قلبه، جعله يستهين بكل شيء في هذه الحياة حتى بالحياة نفسها”.[57]

كان رضوان الله عنه مدركا لحجم تضحيته في المحافظة على مصالح المسلمين، وإعلاء راية الدين الإسلامي الحنيف، لهذا أقدم على الاستشهاد بنفس راضية ومطمئنة لوعد ربها، وهو في ذلك كله يهدف لتقوية الأمة الإسلامية، وتحقيق تماسكها، وتقوية بنيانها.

«إن حياء عثمان لم يمنعه من الكلام مع هول الموقف وضيق الحصار، وفزع التهديد، بل نراه وقد انطلق لسانه يرد عليهم افتراءاتهم، ويدحض بحجته كذبهم، مما يؤيد أن حياءه كان لا يتجاوز موضعه، ولم يكن له ليقضي على شجاعته».[58]

إن شخصية ذي النورين تعتبر شخصية قيادية، وقد اتصف رضي الله عنه بصفات القائد الرباني…: إيمانه بالله واليوم الآخر، والعلم الشرعي، والثقة بالله، والقدوة والصدق، والكفاءة والشجاعة، والمروءة والزهد، وحب التضحية والتواضع وقبول النصيحة، والحلم والصبر وعلو الهمة، والحزم والإرادة القوية، والعدل والقدرة على حل المشكلات، والقدرة على التعليم وإعداد القادة، وغير ذلك من الصفات…[59]

إجمالا، يمكن القول إن شخصية عثمان رضي الله عنه تعد من الشخصيات العجيبة في تاريخنا الإسلامي، ضرب أروع الأمثلة في السخاء، وأروع الأمثلة في الحياء، وأروع الأمثلة في التضحية. ويكفي بأنه كان من أهل الجنة وهو يمشي على الأرض، فقد ارتبط اسمه بصفات جليلة في مقدمتها الحياء والتواضع والكرم والجود والخوف من الله، والعطاء الدائم لخير الإسلام والمسلمين، تاركا رضوان الله عليه سيرة عطرة، وحياة حافلة بأنواع الخيرات والأعمال الصالحات، أفلا يستحق هذا النموذج الأخلاقي الرفيع منا الاقتداء وتربية أبنائنا وبناتنا على هذا الرقي في التخلق، ليكونوا نافعين لأنفسهم ومجتمعهم وللأمة الإسلامية جمعاء؟!

الهوامش

[1]– الموطأ، مالك بن أنس، كتاب حسن الخلق، رقم 8.

[2]– سورة القلم. آية 4.

[3]– المسند، أحمد بن حنبل، مسند عائشة، رقم 25001.

[4]– صحابي هاشمي. يقال له جعفر الطيار. وهو أخو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. الأعلام، الزركلي، 2/125.

[5]– السيرة النبوية، ابن هشام، 1/235-236.

[6]– سنن الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في معالي الأخلاق، رقم 2018.

[7]– سنن ابن ماجة، كتاب الفتن، باب شدة الزمان، رقم 4036.

[8]– سورة الأنعام. آية 90.

[9]– سورة يوسف. آية 111.

[10]– رسالة المسترشدين، الحارث المحاسبي، ص: 12. (تقدمة الطبعة الثانية).

[11]– المصدر السابق، ص: 13.

[12]– أي لا تقدر بثمن لنفاستها وغلائها.

[13]– أدب الإملاء والاستملاء، السمعاني، ص: 70.

[14]– صيد الخاطر، أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، ص: 165.

[15]– سيرة ومناقب عثمان بن عفان، محمد حامد محمد، ص: 4.

[16] تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان رضي الله عنه، علي محمد محمد الصلابي، ص: 25.

[17] سورة آل عمران. آية 64.

[18] حلية الأولياء، أبو نعيم الأصفهاني، 1/33-34.

[19] صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله سبحانه…، رقم 1.

[20] حقائق عن التصوف، ص: 30.

[21] حلية الأولياء، الأصفهاني، 1/92-93.

[22] البدء والتاريخ، مطهر المقدسي، 5/79.

[23] موسوعة عباس محمود العقاد الإسلامية، 2/599.

[24] البذاء: الفاحش من القول. لسان العرب، ابن منظور الإفريقي (مادة بذأ).

[25] سنن الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الحياء، رقم 2009.

[26] سورة الأحزاب. آية 53.

[27] سورة القصص. آية 25.

[28] صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، رقم 3562.

[29] مدارج السالكين، ابن قيم الجوزية، 2/216.

[30] فيض القدير شرح الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير، عبد الرؤوف المناوي، 4/399.

[31] صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عثمان بن عفان رضي الله عنه، رقم 2401.

[32] حلية الأولياء، 1/94.

[33] سنن الترمذي، كتاب المناقب، باب مناقب معاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبي بن كعب…، رقم 3790.

[34] جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين، محمد السيد الوكيل، ص: 304.

[35] سورة البقرة. آية 272.

[36] صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الحث على إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت إلا عن الخير وكون ذلك كله من الإيمان، رقم: 47.

[37] سنن الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في السخاء، رقم 1961.

[38] حلية الأولياء، الأصفهاني، 1/96.

[39] المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري، كتاب معرفة الصحابة، ذكر مقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، رقم 4570.

[40] سنن الترمذي، كتاب المناقب، باب في مناقب عثمان بن عفان، رقم 3701.

[41] سورة التغابن، آية 16.

[42] أشهر مشاهير الإسلام في الحرب والسياسة، رفيق بك العظم، 1/750.

[43] موسوعة عباس محمود العقاد الإسلامية، 2/574-575.

[44] عثمان بن عفان رضي الله عنه، أحمد المزيد وعادل الشدي، ص: 5.

[45] صفة الصفوة، ابن الجوزي، 1/114.

[46] الخلفاء الراشدون القادة الأوفياء وأعظم الخلفاء، حسن أيوب، ص: 142.

[47] الدرة الثمينة في تاريخ المدينة، ابن النجار، ص: 173.

[48] سورة العنكبوت. آية 5.

[49] مدارج السالكين، ابن قيم الجوزية، 3/44.

[50] سنن النسائي، كتاب السهو، باب الدعاء بعد الذكر، رقم 1305.

[51] سنن الترمذي، كتاب الجنائز، باب ما جاء فيمن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، رقم 1067/ صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، رقم 6507.

[52] الرسالة القشيرية، القشيري، ص: 329.

[53] الخلفاء الراشدون أعمال وأحداث، أمين القضاة، ص: 75.

[54] المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري، كتاب معرفة الصحابة، فضائل أمير المؤمنين ذي النورين …، رقم 4544.

[55] الخلفاء الراشدون القادة الأوفياء، حسن أيوب، ص: 145. 

[56] المصدر السابق، رقم 4542.

[57] جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين، السيد الوكيل، ص: 304.

[58] المرجع السابق، ص: 304.

[59] تيسير الكريم المنان، الصلابي، ص: 93.

لائحة المصادر والمراجع

 • أدب الإملاء والاستملاء، أبو سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي السمعاني (ت562ھ)، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1401ھ/1981م.

• أشهر مشاهير الإسلام في الحرب والسياسة، رفيق بك العظم، مطبعة أمين هندية، مصر، د.ط، 1341ھ/1922م.

• الأعلام، خير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، ط17، 2007م.

• البدء والتاريخ، مطهر بن طاهر المقدسي (ت507ھ)، مكتبة الثقافة الدينية، د.ط، د.ت.

• تاج العارفين الجنيد البغدادي، سعاد الحكيم، دار الشروق، القاهرة، مصر، ط 3، 2007م.

• تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان رضي الله عنه، شخصيته وعصره، علي محمد محمد الصلابي، دار  التوزيع والنشر الإسلامية، مصر، ط1، 1423ھ/2002م.

• جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين، دراسة وصفية تحليلية لأحداث تلك الفترة، محمد السيد الوكيل، دار  المجتمع للنشر والتوزيع، جدة، ط5، 1423ھ/2002م.

• حقائق عن التصوف، عبد القادر عيسى، المقطم للنشر والتوزيع، القاهرة، جمهورية مصر العربية، د.ط، 1426ھ/2005م.

• حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني الشافعي (ت430ھ)، دراسة وتحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط3، 2007م.

• الخلفاء الراشدون أعمال وأحداث، أمين القضاة، دار الفرقان للنشر والتوزيع، عمان ط3، 1424ھ/2004م.

• الخلفاء الراشدون القادة الأوفياء وأعظم الخلفاء أبو بكر- عمر- عثمان- علي، حسن أيوب، دار السلام  للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 1423ھ/2003م.

• الدرة الثمينة في تاريخ المدينة، الحافظ بن النجار (578-643ھ)، تقديم وتحقيق وتعليق: محمد زينهم محمد عزب، مكتبة الثقافة الدينية، د.ط، د.ت.

• الرسالة القشيرية في علم التصوف، عبد الكريم بن هوازن القشيري (465ھ)، تحقيق: معروف مصطفى زريق، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، د.ط، 1426ھ/2005م.

• رسالة المسترشدين، أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي البصري (ت243ھ)، حققه وخرج نصوصه وعلق عليه: عبد الفتاح أبو غدة، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، القاهرة، ط10، 1421ھ/2000.

• سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس بمن أقبر من العلماء والصلحاء بفاس، أبو عبد الله محمد بن جعفر بن إدريس الكتاني (1274-1345ھ)، تحقيق: عبد الله الكامل الكتاني، حمزة بن محمد الكتاني، محمد حمزة بن علي الكتاني، دار الثقافة، الدار البيضاء، ط1، 1425ھ/2004م.

• سنن الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي (209-279ھ)، تحقيق وشرح: أحمد محمد شاكر، دار الحديث، القاهرة، د.ط، 1426ھ/2005م.

• سنن النسائي، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي الشهير بالنسائي (215-303ھ)، حكم على أحاديثه وآثاره وعلق عليه: محمد ناصر الدين الألباني، اعتنى به: مشهور بن حسن آل سلمان، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض، ط1، د.ت.

• السيرة النبوية، أبو محمد عبد الملك بن هشام المعافري (ت218ھ)، تحقيق وتخريج وفهرسة: جمال ثابت، محمد محمود، سيد إبراهيم، دار الحديث، القاهرة، د.ط، 1427ھ/2006م.

• صحيح البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري الجعفي (194-256ھ)، دار الحديث، القاهرة، د.ط، 1425ھ/2004م.

• صحيح مسلم، أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (206-261ھ)، وقف على طبعه وتحقيق نصوصه وتصحيحه وترقيمه وعد كتبه وأبوابه وأحاديثه وعلق عليه: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية ودار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، د.ط، د.ت.

• صفة الصفوة، أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي (510-597ھ)، تحقيق: أحمد بن علي، دار الحديث، القاهرة، د.ط، 1421ھ/2000م.

• صيد الخاطر، أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي (ت597ھ)، تحقيق: عبد الحميد هنداوي، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، لبنان، د.ط، 1429ھ/2008م.

• فيض القدير شرح الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير، محمد عبد الرؤوف المناوي (ت1031ھ)، ضبطه وصححه: أحمد عبد السلام، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط3، 1427ھ/2006م.

• لسان العرب، ابن منظور الإفريقي (ت711ھ)، حققه وعلق عليه ووضع حواشيه: عامر أحمد حيدر، راجعه: عبد المنعم خليل إبراهيم، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط2، 2009م.

• مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، شمس الدين محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية (ت751ھ)، تحقيق: عماد عامر، دار الحديث، القاهرة، 1426ھ/2005م.

• المستدرك على الصحيحين، أبو عبد الله الحاكم النيسابوري، اعتنى به: صالح اللحام، الدار العثمانية للنشر، عمان، دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط1، 1428ھ/1007م.

• المسند، أحمد بن حنبل (ت241ھ)، حققه ووضع حواشيه ورقم أحاديثه: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت،  لبنان، ط1، 2008م.

• موسوعة عباس محمود العقاد الإسلامية، مجموعة العبقريات الإسلامية كاملة، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1391ھ/1971م.

• الموطأ، مالك بن أنس (93-179ھ)، دار الحديث، القاهرة، د.ط، 1425ھ/2004م.

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق