مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

طريقة الجنيد السالك والالتزام بالأصول الشرعية

دة. ربيعة سحنون                                                                                                                              مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة

    يجد الناظر المتأمل في بدائع المخلوقات وعجائب المصنوعات، الآيات البينات والدلائل الواضحات على وجود الخالق الواحد، وقدرته ونفوذ مشيئته وظهور عظمته، وإن خالق هذا العالم الذي أبرزه من العدم إلى الوجود لا بد أن يكون مُتّصفاً بصفات الكمال التي تليق به، والتي لا تشبه صفات المخلوقات.

هذا الذي يجب اعتقاده في حق الله سبحانه وتعالى، وهذه هي العقيدة الصحيحة التي كان عليها السلف الصالح: التصديق الكامل الذي لا يداخله شك، والإيمان الكامل بأن الله تعالى:(هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم).[الحديد 3].

    وعلى هذا الاعتقاد كان أئمة الصوفية عبر العصور، وعلى اختلاف الطرق وتعددها، كانوا لا يلتفتون إلا إلى الله عز وجل، ولا يرجون أحدا سواه، ولا يستعينون إلا به تبارك وتعالى، سائرون على الطريق الذي شرعه الله تعالى وخطه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو: إفراد الله عز وجل بالعبادة (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء) [البينة، 5]. وقال تعالى ( هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين).[غافر، 65].

وما يُنسب للصوفية من القول بالحلول أو الاتحاد، بمعنى حلول ذات الله عز وجل في ذات المخلوق أو اتحاد الذاتين في واحدة فمردود وباطل، إذ من غير المعقول أن يكون تعامل أناس يجاهدون أنفسهم ويُروِّضُونها على الطاعات التي تُقرِّبهم إلى الحق تبارك وتعالى من أجل بلوغ مرتبة الإحسان، وهم في ذلك كله لهم مقصد واحد يجِدُّون في الوصول إليه: مرضاة الله تبارك وتعالى.

وقد رد بعض علماء المسلمين هذه الشبهة التي ألصقت بالصوفية، وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية، يقول: “.. للمؤمنين العارفين بالله المحبين له من مقامات القرب ومنازل اليقين ما لا تكاد تحيط به العبارة، ولا يعرفه حق المعرفة إلا من أدركه وناله، والرب رب، والعبد عبد، ليس في ذاته شئ من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شئ من ذاته، وليس أحد من أهل المعرفة بالله يعتقد حلول الرب تعالى به، أو بغيره من المخلوقات ولا اتحاده به. وإن سمع شئ من ذلك منقول عن أكابر الشيوخ، فكثير منه مكذوب، اختلقه الأفّاكون من الاتحادية المباحية، الذين أضلهم الشيطان وألحقهم بالطائفة النصرانية”. [الفتاوى، 11/44].

وقال أيضا: ” فيجب أن يعلم أن الشيوخ الصالحين الذين يقتدى بهم في الدين هم المتبعون لطريق الأنبياء والمرسلين كالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان.. وطريقة هؤلاء دعوة الخلق إلى الله، وإلى طاعته وطاعة رسوله، واتباع كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم”.[الفتاوى، 11/44].

وقال الإمام الشعراني : “ولعمري إذا كان عباد الأوثان لم يتجرؤوا على أن يجعلوا آلهتهم عين الله بل قالوا (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)[الزمر، 3]، فكيف يظن بأولياء الله تعالى أنهم يدعون الاتحاد بالحق على حد ما تتعقله العقول الضعيفة، هذا كالمحال في حقهم رضي الله عنهم، إذ ما من ولي إلا وهو يعلم أن حقيقته تعالى مخالفة لسائر الحقائق، وأنها خارجة عن جميع معلومات الخلائق، لأن الله بكل شئ محيط…”. [اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر، 1/89-90].

   فالصوفية يُقرُّون بوجود الله تعالى، وبأنه لا مثيل له ولا شبيه لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، قال القشيري- رحمه الله-: “اعلموا –رحمكم الله- أن شيوخ هذه الطائفة بنوا قواعدهم على أصول صحيحة في التوحيد، صانوا بها عقائدهم عن البدع، ودانوا بما وجدوا عليه السلف وأهل السنة من توحيد، ليس فيه تمثيل ولا تعطيل، وعرفوا ما هو حق القدم، وتحققوا بما هو نعت الموجود عن العدم”. [الرسالة القشيرية، 41].

   وقد ذكر محمود أبو الفيض المنوفي معتقد الصوفية الخالص في توحيد المولى جل وعلا، فقال: “وقد أجمع القوم على أن الله تعالى واحد أحد فرد صمد قديم أزلي، باق أبدي، وأن ما سواه فهو من صنعه وخلقه، لا شريك له ولا ضد له ولا ند له ولا شبيه له، موصوف بكل ما وصف به نفسه من الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام… وهو سبحانه وتعالى لا يكيفه الفعل ولا يمثله الفكر، ولا تلحقه العبارات، ولا تعينه الإشارات، ولا تحيط به الأفكار، ولا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار…”. [التصوف الإسلامي الخالص، 28].

   وللجنيد –رحمه الله تعالى- أقوال كثيرة في التوحيد، فقد كان هذا الأصل هو الغالب على تصوفه، بحيث ” يرجع إليه الفضل الأول في نقل التوحيد من الميدان الكلامي إلى الميدان الصوفي، أومن ميدان النظر العقلي إلى ميدان التجربة الروحية”. [دراسات في التصوف الإسلامي، 302].

   وقد سئل الجنيد عن التوحيد فقال: ” إفراد الموحد بتحقيق وحدانيته بكمال أحديته بأنه الواحد، الذي لم يلد ولم يولد، بنفي الأضداد والأنداد والأشباه، بلا تشبيه ولا تكييف ولا تصوير ولا تمثيل (ليس كمثله شئ وهو السميع البصير) “. [تاج العارفين، 210].

   فالتوحيد عند الجنيد هو علم يتعلق بمعرفة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فيكون على هذا هو أشرف العلوم على الإطلاق، يقول: “التوحيد علمك وإقرارك بأن الله فرد في أزليته، لا ثاني معه، ولا شئ يفعل فعله”.[تاج العارفين، 212].

    فالتوحيد الصوفي عند الجنيد هو توحيد متصل بتنزيه الله تعالى عن صفات المحدثات، بل ينفي أيضا القدرة على إدراكه عز وجل والإحاطة به.

وحكي عن تاج العارفين أنه قال: ” أشرف كلمة في التوحيد قول أبي بكر الصديق: سبحان من لم يجعل للخلق طريقا إلى معرفته، إلا العجز عن معرفته “. [المرجع السابق، 209].

    وتحقيق التوحيد لديه هو الذي يبلغ بالعبد درجة الإحسان فيعبد الله كأنه يراه، ويراقب الله تعالى في تعامله مع الخلق، ويخشى الله تعالى في خلواته وفي حركاته وسكناته، هذا هو توحيد الخاصة من أهل التصوف.

 وذلك بأن ” يكون العبد بسره ووجده وقلبه كأنه قائم بين يدي الله عز وجل، تجري عليه تصاريف تدبيره، وتجري عليه أحكام قدرته في بحار توحيده، بالفناء عن نفسه، وذهاب حسه بقيام الحق له في مراده منه، فيكون كما كان قبل أن يكون، يعني في جريان أحكام الله عليه، وإنفاذ مشيئته فيه”. [اللمع، 51].

فيكون العبد إذّاك مؤمنا متيقنا بما عنده سبحانه وتعالى، راضيا بعطائه عز وجل خيره وشره،منقادا له محبة وخضوعا وتذللا.

    قال الجنيد – رحمه الله تعالى- مُعرِّفاً العقيدة: ” إن أول ما يحتاج إليه من عقد الحكمة تعريف المصنوع صانعه، والمُحدث كيف كان أحدثه، وكيف كان أوله، وكيف أحدثه بعد موته، فيعرف صفة الخالق من المخلوق، وصفة القديم من المحدث، فيعرف المربوب ربه، والمصنوع صانعه، والعبد الضعيف سيده، فيعبده ويوحده، ويعظمه ويذل لدعوته، ويعترف بوجوب طاعته، فإن من لم يعرف مالكه لم يعترف بالملك لمن استوجبه، ولم يضف الخلق في تدبيره إلى وليه، والتوحيد علمك وإقرارك بأن الله فرد في أوليته وأزليته، لا ثاني معه ولا شئ يفعل فعله، وأفعاله التي أخلصها لنفسه؛ أن يعلم أن ليس شئ يضر ولا ينفع، ولا يمنع، ولا يسقم ولا يبري، ولا يرفع، ولا يضع، ولا يخلق، ولا يرزق، ولا يميت، ولا يحيي، ولا يسكن ولا يحرك غيره جل جلاله”. [تاج العارفين، 169-170].

فالعقيدة عند الجنيد هي الإيمان بالله عز وجل ومعرفته بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، والمعرفة بدلائل وجوده ومظاهر عظمته في الكون والطبيعة، وهذه هي العقيدة ” التي أنزل الله بها كتبه، وأرسل بها رسله، وجعلها وصيته في الأولين والآخرين، فهي عقيدة واحدة، لا تتبدل بتبدُّل الزمان والمكان، ولا تتغير بتغير الأفراد والأقوام (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) “.[العقائد الإسلامية،8-9].

    وما اختلف الناس قبل الجنيد أو بعده حول هذه الحقيقة الإيمانية الاعتقادية: بأن الله تعالى موصوف بالوجود والقدم أي الأزلية، بمعنى أن وجوده ليس له ابتداء ولا انتهاء، والوحدانية أي أنه لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، والقيام بنفسه، أي أنه لا يحتاج إلى غيره، وكل شئ يحتاج إليه، والمخالفة للحوادث، أي لا يشبه شيئا من المخلوقات، وأن له قدرة وإرادة وحياة أزلية، وأنه متصف بالعلم الأزلي.

    فإذا عرف الإنسان المؤمن واعتقد وتيقن بكل ذلك، فإنه يتوجه إلى عبادة الواحد الأحد، وطاعته في كل ما أمر به واجتناب كل ما نهى عنه، كما قال الجنيد: “…فيعرف المربوب ربه، والمصنوع صانعه، والعبد الضعيف سيده، فيعبده ويوحده، ويعظمه ويذل لدعوته، ويعترف بوجوب طاعته “. [تاج العارفين، 169].

    والعبادة في اللغة تدل على الطاعة والخضوع والتذلل لله عز وجل، وهي في الشرع اسمٌ جامعٌ لكل ما يحبه الله تعالى ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، استجابة لأمر الله تعالى وتطابُقاً مع إرادته ومشيئته، وكيف لا وهي” حق من حقوق الله سبحانه، فإن من عرف الله عرف استحقاقه للحب والتعظيم والحمد والثناء والشكر، لأنه هو الذي وهب الإنسان الحياة، وأمده بما يحفظها (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) “. [إسلامنا، 115].

وعن معاذ بن جبل قال:( كنت ِردف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا معاذ، أتدري ما حق الله على عباده، وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله عز وجل أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا). [صحيح البخاري، رقم 7373].

فالله عز وجل خلق الإنسان محتاجا إليه، وحاجته إليه في عبادته إياه وطاعته وتوحيده وتعظيمه، ولا صلاح ولا فلاح في الدنيا والآخرة إلا بهذه العبادة.

والصوفي يعبد الله عز وجل لذاته، ويطيعه في كل أحواله، ولا ينظر إلى غيره، ولا يشتغل عنه بسواه، ولا يشتاق إلا إليه، ولا يتلذذ إلا بذكره، ولا يحصل له فرح إلا بإقباله عليه، ولا يصيبه حزن إلا بإعراضه عنه.

   وبذا يحقق العبودية لربه وخالقه ومالكه الإله الحق، والتي تتجلى في عظيم المهابة لله عز وجل، والانكسار الدائم والدائب على باب الله سبحانه وتعالى، والتذلل والالتصاق الدائم على أعتابه جل وعلا.

   هذه هي العبودية التي لا فِكاك للإنسان منها بحال من الأحوال، لأن فيه حاجة وفقرا وضعفا للمولى جل في علاه، قال تعالى (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين). [الحجر، 99].

   ومن أجل الوصول إلى اليقين في الله تعالى ومعرفته حق المعرفة، لا بد من المرور عبر مراحل مختلفة ومقامات متعددة، مركزها القلب والروح والوجدان، ومدارها الشريعة الإسلامية، وقطب رحاها: صحة الاعتقاد والتصديق الكامل والإيمان بالله عز وجل وعبادته والتحقق بعبوديته.

  وهذا هو هدف الصوفية الذي ابتغوه من وراء سلوك طريق التصوف والتدرج فيها: تحقيق هدف أسمى وغاية مثلى، هي الوصول إلى معرفة الحق تبارك وتعالى حق المعرفة، والقرب منه والاستئناس به.

 ولن يتحقق للسالكين ذلك إلا بالطاعة لله سبحانه وتعالى، والمداومة على العبادة، والإخلاص فيها، والتذلل له جل وعلا، مع الإيمان الكامل والتصديق الجازم بأنه تعالى هو مالك كل شئ، وبيديه كل شئ، وإليه يرجع في كل شئ، وهو وحده الموصل لكل شئ جل شأنه، فإن ” المعرفة صفة من عرف الحق سبحانه بأسمائه وصفاته، ثم صدق الله تعالى في معاملاته، ثم تنقى عن أخلاقه الرديئة وآفاته، ثم طال بالباب وقوفه، ودام بالقلب اعتكافه، فحظي من الله تعالى بجميل إقباله، وصدق الله تعالى في جميع أحواله، وانقطعت عنه هواجس نفسه، ولم يصغ بقلبه إلى خاطر يدعوه إلى غيره…”. [الرسالة القشيرية، 312].

  فالوصول إلى مقام المعرفة يقتضي التجرد الكامل لله عز وجل، والتخلُّق بالأخلاق المحمدية، والمواظبة على الطاعات، ودوام الوقوف على باب العلي الكبير، فإنه بقدر المعرفة تكون العبودية.

  والسالك لطريق التصوف محتاج إلى معرفته عز وجل، لتزداد خشيته له، وخوفه منه، ورجاؤه فيه، وتوكله عليه، وإخلاصه له، ” لأن القلوب إنما تحب من تعرفه، وتخافه، وترجوه وتشتاق إليه، وتلتذ بقربه، وتطمئن إلى ذكره، بحسب معرفتها بصفاته “. [مدارج السالكين، 3/277].

   والعارف بالله عز وجل تحُلُّ عليه السكينة والطمأنينة والسرور والأمان، فإن من عرف الله – كما قال الجنيد- لا يُسرُّ إلا به، ومن عرف الله أطاعه، ومن عرف نفسه ساء بها ظنه، وخاف على حسناته ألاّ تُقبل. [تاج العارفين، 167].

  ومن عرف الله عز وجل عظّمه وهابه في جميع أوامره ونواهيه، وانكسر له، وافتقر إليه، ولم يتعلق قلبه بشئ غيره سبحانه وتعالى، وحظي بقربه، لأنه ” كلما أخلص العبد في الطاعات ازداد إلى الله تقرُّباً، ولا يزال على هذه الحال حتى يجد حلاوة قُربه من الله، فيتخذ من الطاعة وسيلة تُقرِّبه من الله “.[التصوف السني، 125].

  وبقدر طاعة العبد المؤمن لربه، ومداومة ذكره له جل وعلا في سره وعلانيته، يكون قرب الله سبحانه وتعالى منه، قال الجنيد: “إن الله تعالى يقرب من قلوب عباده على حسب ما يرى من قرب قلوب عباده منه، فانظر ماذا يقرُب من قلبك “.[تاج العارفين، 190].

   وعليه يكون قرب العباد السالكين منه تعالى، وقربه عز وجل منهم، غاية أملهم، ومنتهى سؤلهم، وأعلى وأغلى مطلبهم، فهو الغاية القصوى، والمرتبة العليا، التي أتعب من أجلها العارفون أجسادهم، فأظمأوا نهارهم، وأسهروا ليلهم، طلبا للقرب والوصال.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق