مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةدراسات عامة

طائفة: إخوان الصفا وخلان الوفا

1– التعريف بهم:
يبتدئ فؤاد المعصوم حديثه عن جماعة”إخوان الصفا” بهذه المقدمة الإشكالية فيقول:  «يمكننا القول إنه لا يوجد في تاريخ الفلسفة الإسلامية شخصية أو جماعة اختلف الباحثون  قديما وحديثا في حقيقتها ومذهبها ودورها في الحياة الفكرية كاختلافهم في حقيقة إخوان الصفا، ومذهبهم ودورهم. فمن الباحثين من ينظر إليهم نظرة شك أو عداء، ومنهم من ينظر إليهم نظرة إعجاب وتقدير، ويرى فيهم رواد فكر ودعاة إصلاح، ومنهم من يحسبهم على الشيعة، ويحدد الموقف منهم مسبقا بشكل غير موضوعي، ومنهم من يزعم أن رسائل الإخوان من تأليف الأئمة، ويرفعها إلى كتاب مقدس»[1].
 وفي التعريف بها يقول شوقي أبو خليل: “إخوان الصفا” «لقب جماعة من المفكرين عاشت بالبصرة إبان النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي، ذات نزعة فلسفية سياسية، وميول شيعية (من الإسماعيلية)، كانت غايتهم إسعاد النفس. كتموا أسماءهم، وعمدوا إلى الكناية والإشارة والإيماء والإيجاز في مصنفاتهم، وصاغوا مذهبا زعموا أنه وفَّق بين الشريعة الإسلامية والفلسفة اليونانية، وضمَّنوا هذه الآراء كتابا عرف باسم:”رسائل إخوان الصفا” التي تشتمل على 52 رسالة مقسمة إلى أربعة أقسام:
الأول في الرياضيات ويضم هذا القسم13رسالة تبحث في الحساب والهندسة والفلك والجغرافية والموسيقى والصنائع العلمية والعملية والمنطق. والثاني في الطبيعيات والجسمانيات. والثالث في العقليات والنفسيات. والرابع في الإلهيات والمعتقدات»[2].
ويقول عنهم محمد أمحزون: «إخوان الصفا جماعة فكرية ظهرت بالبصرة في القرن الرابع الهجري ولكنهم.. في واقع الأمر جماعة سرية باطنية، مزجت الفلسفة الإغريقية والعقيدة الباطنية ببعض المبادئ الإسلامية، وبالتالي فهي أولى ثمار الحركة الباطنية التي استغلت التشيع والتصوف الفلسفي ستارا لنشر رسائلها وأفكارها الهدامة بأسلوب متلون غير صريح وغامض..ولذلك خفي أمرهم على كثير من الناس..وأصبحوا لغزا مبهما في التاريخ الإسلامي، واختلف الباحثون والعلماء في تصنيفهم..»[3].
2– تاريخهم:
يقول محمد أمحزون حول تاريخ وظروف نشأة هذه الجماعة : «ظهر إخوان الصفا في وقت كانت الدولة العباسية في أحلك أيامها إبان عهد الولايات المتناحرة، وحين أفل الوجود الفعلي للسلطة المركزية في بغداد..فبعد مقتل الخليفة المتوكل عام (247هـ/861م)، بدأت الفتن تستشري والأحوال تضطرب وسلطان الخلفاء يتلاشى؛ بسبب اعتمادهم على الترك، وظهور كثير من الطوائف المارقة عن الدين، والتنافس الشديد بين قواد الجيش والوزراء، مما أدى إلى عدم الاستقرار السياسي واضطراب الأحوال اضطرابا شديدا»[4]، ويضيف كذلك: «إن عصر إخوان الصفا تميز بكثرة الدويلات المتناحرة، وانعدام السلطة المركزية، وتفشِّي الفساد السياسي، وكثرة القتل والنهب والترويع، الأمر الذي أقض مضاجع العلماء وعامة الناس في هذا العصر، ولا ريب أن فساد الحالة السياسية سينعكس سلبا على الحالة الاقتصادية.. فضعف السلطان كان سببا مباشرا لشيوع شريعة الغاب بينهم في ذلك العهد، إذ استفحل أمر اللصوص فأغاروا على المنازل في وضح النهار.. وقد صاحب هذه الحوادث المروعة غلاء شديد في المعيشة..وباستثناء القلة من أصحاب الجاه والسلطان، فإن الأمة كانت تعيش حياة صعبة.. وبالجملة، كانت الأوضاع السياسية والأحوال الاقتصادية مؤشرا على الوهن الذي أصاب العالم الإسلامي، حيث بلغت الخلافة العباسية من الضعف جدا ما جعل الأمور تفلت من يدها،  مما شجع آل بويه الشيعة على الدخول إلى بغداد والاستيلاء على مقاليد الحكم فيها. وكان هذا نذير شؤم على المسلمين السنة، حيث تجرَّأ على الدين كل ناعق وزنديق. ويظهر أن إخوان الصفا كانوا من هؤلاء الذين تشجعوا بمجيء آل بويه، فأظهروا من أمرهم ما كان خافيا، وتجرأوا على إظهار رسائلهم..»[5]، ثم يختم حديثه فيقول: «إن إخوان الصفا استفادوا من تدهور الأوضاع على الصعيد السياسي والاقتصادي لكي يبثوا أفكارهم ورسائلهم بين الناس، ومن الملاحظ أن نشاطهم يقع في هذا العصر بين سنة (334هـ/945م) سنة دخول البويهيين العراق، وسنة (373هـ/983م) انطلاقا من أن البويهيين خلقوا الأجواء والظروف المناسبة لظهور الاتجاهات الشيعية والباطنية المتعاطفة معهم.. ويمكن أيضا أن نعلل تأليف رسائلهم في هذا العهد لشعورهم بالأمان، لأنهم كانوا على وفاق مع حكامه، فهم دون شك استفادوا من الأجواء التي سادت نتيجة دخول البويهيين بغداد، وإلا فإنهم لم يتجرأوا على إظهار رسائلهم قبل هذا التاريخ..»[6 ].
أما فؤاد المعصوم فيرجح أن يكون تاريخ ظهورهم كما قال: « إن الجمعية ربما تأسست قبيل النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، ثم بدأ التأليف في مواضيع الكتاب بشكل رسائل، واستغرق ذلك عدة سنوات. وبذلك تأكد لدينا أن الرسائل لم تؤلف في القرن الثاني أو الثالث، بل كتبت في القرن الرابع الهجري، كذلك ثبت أنها ليست من نتاج القرن الخامس، لأن إخوان الصفا ورسائلهم كانا مدار الحوار بين أبي حيان التوحيدي والوزير ابن سعدان، وكان ذلك سنة 374هـ(984م)..»[7].
3– مصنفو الرسائل:
يقول محمد أمحزون: « اختلف الناس في أسماء من صنفوا هذه الرسائل، ولعل هذا الاختلاف يعود إلى السرية التامة التي أحاط بها إخوان الصفا أنفسهم في تطوير نظام حركتهم الهدامة وهو ما يعرف في التاريخ الإسلامي بالتقية، وهو أسلوب استعمله الرافضة والفرق الباطنية للتعمية عن أخبارها وعدم الاهتداء إلى أعضائها. فظهور الرسائل وانتشارها بين الوراقين وفي المجالس الأدبية والعلمية، تلك غاية كانت ضمن سياق خطة مؤلفيها لإثارة لغط واسع في الأوساط العلمية وبين جمهور الناس عن شخصيات المصنفين، بالإضافة إلى تأثير نفسي لدى المتلقي يفرض عليه البحث وراء سرِّ هؤلاء من خلال قيادته إلى قراءة الرسائل، ومن ثم التأثر والتفاعل مع ما ورد فيها من أفكار وآراء.. ويكفي في ذم هؤلاء الأشخاص المنتسبين إلى جماعة إخوان الصفا أنهم اشتغلوا بطاغوت الفلسفة وجعلوها دينهم، إذ يستشف من تعاليمهم وآرائهم أنها ناجمة عن نزعة فلسفية مستوحاة من أفكار فيثاغورس، واقتباسهم من العقائد الأفلاطونية والأفلاطونية الجديدة، وفلسفة المشائين والفرس والهنود»[8].
وأقدم مصدر تاريخي متاح ومعاصر عمليا لإخوان الصفا، هو صوان الحكمة لأبي سليمان السجستاني (ت371هـ) الذي يؤكد أن مؤلف الرسائل هو أبو سليمان المقدسي قائلا: «أبو سليمان المقدسي: له الرسائل الإحدى والخمسون المسماة “رسائل إخوان الصفا” وكلها مشحونة بالأخلاق وعلم الألحان، وهي موجودة فيما بين الناس، قد تداولتها الأيدي»[9]- بيد أن من أمدنا بالمعلومات الأكثر تفصيلا عن مؤلفي رسائل إخوان الصفا هو تلميذ أبي سليمان؛ أبو حيان التوحيدي الذي أفرد لهم ليلة طويلة هي السابعة عشرة من ليالي الإمتاع والمؤانسة، حين سأله الوزير ابن العارض عن زيد بن رفاعة..»[10].
ويقول أحمد الخطيب معلقا: «على أية حال، فإنه مما لا جدال فيه أن رسائل إخوان الصفا ليست من تأليف شخص واحد، بل من تأليف جماعة متعددة، تتباين معارفهم وأساليبهم، وهذا واضح جدا في رسائلهم، وربما كان منهم بعض أئمة الإسماعيلية المستورين، أو أن هؤلاء الأئمة قد أوعزوا لدعاتهم بكتابة هذه الرسائل لتكون لسان دعاية لمذهبهم، وهذا الذي جعل أبا حيان التوحيدي يتوهم أن زيد بن رفاعة وجماعته قد ألفوا هذه الرسائل..»[11].
ونورد هنا نص كلام  أبي حيان التوحيد في جوابه عن الوزير ابن عضد الدولة في حدود سنة (373هـ)، قال أبو حيان حاكيا عن الوزير المذكور حين طلب منه الحديث عن رفيقه وأحد مؤلفي هذه الرسائل قائلا:  «حدِّثني عن شيء هو أهم من هذا إلي وأخطر على بالي أني لا أزال أسمع من زيد بن رفاعة قولا يريبني ومذهبا لا عهد لي به وكناية عما لا أحقه وإشارة إلى ما لا يتوضح شيء منه..فما حديثه؟ وما شأنه؟ وما دخلته؟ وما خبريته؟ فقد بلغني أنك كنت تغشاه وتجلس إليه وتكثر عنده وتورِّق له، ولك معه نوادر مضحكة ونوادر عجيبة، ومن طالت عشرته لإنسان صدقت خبرته به وانكشف أمره له وأمكن اطلاعه على مستكن رأيه وخافي مذهبه وعويص طريقته.. فقلت أيها الوزير أنت الذي تعرفه قبلي قديما وحديثا بالتربية والاختبار والاستخدام، وله منك الأخوة القديمة والنسبة المعروفة، قال: دع هذا وصفه لي. قلت: هناك ذكاء غالب وذهن وقاد ويقظة حاضرة وسوائح متناحرة، ومتسع في فنون النظم والنثر، مع الكتابة البارعة في الحساب والبلاغة وحفظ أيام الناس وسماع للمقالات وتبصر في الآراء والديانات، وتصرف في كل فن إما بالشد والموهم وإما بالتبصر المفهم وإما بالتناهي المفحم..فقال فعلى هذا ما مذهبه؟ قلت: لا ينسب إلى شيء ولا يعرف برهط، لجيشانه بكل شيء وغليانه في كل باب، ولاختلاف ما يبدو من بسطة تبيانه وسطوة لسانه..وقد أقام بالبصرة زمنا طويلا وصادف بها جماعة لأصناف العلم وأنواع الصناعة؛ منهم أبو سليمان محمد بن مشعر البستي ويعرف بالمقدسي، وأبو الحسن علي هارون الزنجاني، وأبو أحمد المهرجاني والعوفي وغيرهم، فصحبهم وخدمهم، وكانت هذه العصابة قد تآلفت بالعشرة، وتصافت بالصداقة، واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة، فوضعوا بينهم مذهبا زعموا أنهم قربوا به الطريق إلى الفوز برضوان الله، والمصير إلى جنته، وذلك أنهم قالوا: إن الشريعة قد دنست بالجهالات، واختلطت بالضلالات، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة، وذلك لأنها حاوية للحكمة الاعتقادية والمصلحة الاجتهادية، وزعموا أنه متى انتظمت الفلسفة الاجتهادية اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال..وصنفوا خمسين رسالة في جميع أجزاء الفلسفة علميها وعمليها، وأفردوا لها فهرسة وسموها “رسائل إخوان الصفا” وكتموا أسماءهم وبثوها في الوراقين، ولقنوها للناس وادعوا أنهم ما فعلوا ذلك إلا ابتغاء وجه الله عز وجل، وطلب رضوانه..»[12].
 ويضيف أحمد زكي تكملة لهذا النص فيقول: «وحشوا هذه الرسائل بالكلمات الدينية والأمثال الشرعية والحروف المحتملة والطرق المموهة. قال الوزير: فهل رأيت هذه الرسائل؟ قلت: قد رأيت جملة منها وهي مبثوثة من كل فن بلا إشباع ولا كفاية، وهي خرافات وكنايات وتلفيقات وتلزيقات، وحملت عدة منها إلى شيخنا أبي سليمان المنطقي السجستاني محمد بن بهرام وعرضتها عليه فنظر فيها أياما وتبحرها طويلا ثم ردها علي وقال: تعبوا وما أغنوا، ونصبوا وما أجروا، وحاموا وما وردوا، وغنوا وما أطربوا، ونسجوا فهلهلوا ومشطوا ففلفلوا، ظنوا ما لا يكون ولا يمكن ولا يستطاع، ظنوا أنهم يمكنهم أن يدرسوا الفلسفة التي هي علم النجوم والأفلاك والمقادير والمجسطي وآثار الطبيعة، والموسيقى الذي هو معرفة النغم والإيقاعات والنقرات والأوزان، والمنطق الذي هو اعتبار الأقوال بالإضافات والكميات في الشريعة، وأن يربطوا الشريعة في الفلسفة؛ وهذا مرام دونه جدد، وقد تورك على هذا قبل هؤلاء قوم كانوا أحد أنيابا وأحضر أسبابا وأعظم أقدارا وأرفع أخطارا وأوسع قوى وأوثق عرى؛ فلم يتم لهم ما أرادوه، ولا بلغوا منه ما أبلوه، وحصلوا على لوثات قبيحة ولطخات واضحة موحشة وعواقب مخزية..[ثم أضاف] : إن الشريعة مأخوذة عن الله عز وجل بواسطة السفير بينه وبين الخلق من طريق الوحي وباب المناجاة وشهادة الآيات وظهور المعجزات، وفي أثنائها ما لا سبيل إلى البحث عنه والغوص فيه، ولابد من التسليم المدعو إليه والمنبه عليه، وهناك يسقط لم؟ ويبطل كيف؟ ويزول هلا؟ ويذهب لو.. فعلى هذا كيف يسوغ لإخوان الصفا أن ينصبوا من تلقاء أنفسهم دعوة تجمع حقائق الفلسفة في طريق الشريعة، على أن وراء هذه الطوائف جماعة أيضا لهم مأخذ من هذه الأغراض كصاحب العزيمة وصاحب الكيمياء وصاحب الطلسم وعابر الرؤيا ومدعي السحر ومستعمل الوهم.. ولو كانت هذه جائزة لكان الله تعالى ينبه عليها وكان صاحب الشريعة يقوِّم شريعته بها ويكملها باستعمالها ويتلافى في نقصها بهذه الزيادة التي تجدها في غيرها أو يحض المتفلسفين على إيضاحها بها، [و] يتقدم إليهم بإتمامها ويفرض عليهم القيام بكل ما يذب عنها حسب طاقتهم فيها، ولم يفعل ذلك بنفسه ولا وكله إلى غيره من خلفائه والقائمين بدينه؛ بل نهى عن الخوض في هذه الأشياء وكره إلى الناس ذكرها وتوعدهم عليها وقال من أتى عرافا أو كاهنا أو منجما يطلب غيب الله منه فقد حارب الله ومن حارب الله حرب ومن غالبه غلب..[ثم قال]: ولقد اختلفت  الأمة ضروبا من الاختلاف في الأصول والفروع،  وتنازعوا فيها فنونا من التنازع في الواضح والمشكل من الأحكام والحلال والحرام والتفسير والتأويل والعيان والخبر والعادة والإصلاح، فما فزعوا في شيء من ذلك إلى منجم ولا طبيب ولا منطقي ولا هندسي ولا موسيقار ولا صاحب عزيمة وشعبذة وسحر وكيمياء، لأن الله تعالى تمم الدين بنبيه صلى الله عليه وسلم ولم يحوجه بعد البيان الوارد بالوحي إلى بيان موضوع بالرأي.. [وقال]: وكما لم نجد هذه الأمة تفزع إلى أصحاب الفلسفة في شيء من أمورها، فكذلك ما وجدنا أمة موسى صلى الله عليه وسلم وهي اليهود تفزع إلى الفلاسفة في شيء من دينها، وكذلك أمة عيسى صلى الله عليه وسلم وهي النصارى، وكذلك المجوس..[وقال]: ومما يزيدك وضوحا أن الأمة اختلفت في آرائها ومذاهبها ومقالاتها فصارت أصنافا فيها وفرقا كالمعتزلة والمرجئة والشيعة والسنية والخوارج، فما فزعت طائفة من هذه الطوائف إلى الفلسفة ولا حققت مقالتها بشواهدهم وشهاداتهم، وكذلك الفقهاء الذين اختلفوا في الأحكام من الحلال والحرام منذ أيام الصدر الأول إلى ىومنا هذا لم نجدهم تظاهروا بالفلاسفة واستنصروهم.. [وقال]: وأين الآن الدين من الفلسفة وأين الشيء المأخوذ بالوحي النازل من الشيء المأخوذ بالرأي الزائل..»[13].
 ويعلق محمود إسماعيل على نص التوحيدي بقوله:« يكشف هذا النص المقتضب والهام في آن عن عدة حقائق أساسية تتعلق بنشأة الجماعة وأصولها الطبقية، ومرجعية فكرها وعقلانية هذا الفكر، والغايات والأهداف التي توخاها إخوان الصفا من معارفهم، وهي؛ أولا: أن التوحيدي لم يطلع على كل هذه الرسائل مما يدل على أنها كانت مستورة حتى تاريخ كتابة هذا النص. يفهم ذلك من قول التوحيدي أن الإخوان (كتبوا فيها أسماءهم) وهو ما لم يحدث. كذا قوله بأنهم (صنفوا خمسين رسالة) أمر يدل على عدم علمه بالرسالة الإحدى وخمسين المعروفة باسم “الرسالة الجامعة” والتي يبدو أنها كتبت في وقت متأخر بعد كتابة الرسائل الخمسين. دليلنا في ذلك انطواؤها على آراء تناقض الكثير مما ورد في الرسائل السابقة. كما وأن هذه الآراء تتسم بالمزيد من العمق ومزيد من الدراية بما يشي بأنها كتبت في عصر ازدهار العلوم الطبيعية والرياضية-فضلا عن الفلسفية والشرعية- إبان عصر الصحوة البورجوازية الثانية. وهذا يدل على أن الرسائل لم تكتب دفعة واحدة بل على فترات متصلة من تاريخ الجماعة. كما يفسر ظاهرة التناقض في آراء الإخوان بصدد بعض المسائل، وبالتالي يكشف عن أخطاء الدارسين في تقويم فكر الجماعة«[14].  
4- أقوالهم الاعتقادية:
1-الألوهية:
يقول محمد أمحزون: «في مجال العقيدة، عمد إخوان الصفا إلى الجمع والتلفيق بين عدة نظريات فلسفية تمثل نظرتهم إلى الألوهية، فأخذوا بنظرية الفيض التي قال بها أفلوطين، وهي النظرية التي تقول بها الإسماعيلية عند حديثها عن الألوهية ومراتب الوجود..وجدير بالإشارة أن نظرية الفيض التي ترجع إلى الأفلاطونية الحديثة كما تبناها إخوان الصفا في رسائلهم تهدم العقيدة الإسلامية في الإله وقدرته، «فَهُم وإن قالوا بأن الله تعالى علة العالم لكنهم قرروا أنه لا يستطيع خلقه، وأن العالم صدر عنه كما يصدر الضوء عن الشمس، فهو لازم له لا يستطيع حبسه ومنعه، وهذا القول ينفي القدرة الإلهية كما يفهمها المسلمون في قوله تعالى: (إن الله على كل شيء قدير)[البقرة/20]، وينفي الإرادة الإلهية كما في قوله تعالى: (فعال لما يريد)[البروج/16]، ويصنف الله جل علاه بأنه لا حيلة له في خلق العالم، ولا شأن له فيه، ولا رأي له فيه-تعالى الله عما يقولون-»[15].
ويزيد محمود إسماعيل تأكيدا لهذا الرأي فيقول: «تأثر الإخوان في معرفة الموجودات التالية لله سبحانه بنظرية الفيض الأفلاطونية والأرسطية والأفلوطينية بعد تعديلها، وتقديم صيغة جديدة لا تتعارض مع التصور الديني، مدعومة بنظام الأعداد الفيثاغوري. فلم يقولوا بقدم العالم، إنما جاروا رأي الدين في أنه محدث..لكنهم أعطوا “الفيض” بعدا عقلانيا باستخدام “العلة والمعلول” في صدور المخلوقات المتراتبة التي فاض بعضها عن بعض، فجعلوها “فاعلة منفعلة”»[16].
وقد رد أحمد الخطيب في بحثه عن الشعوبية والفرق المنحرفة مثل هذا الاعتقاد الذي اعتقده إخوان الصفا  بقوله: «وهذه العقيدة بعيدة عن الإسلام ومخالفة له تماما، متعارضة مع كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، إذ الأصل في هذه المسألة عند المسلم أن يعتقد مغايرة الخالق سبحانه لخلقه وانفصال الموجودات كلها عن موجدها وخالقها، ثم إن وجوده تعالى وجود أزلي لا بداية له ولا نهاية ، ووجود العالم حادث له بداية ونهاية»[17].
وقد انتهت بهم نزعتهم التلفيقية هذه – وفي باقي أقوالهم – إلى أن يَرَوا في جميع المذاهب الفلسفية والوثنية والموحدية مذهبًا واحدًا يوفِّق بين جوهر الأديان، ولهذا قالوا: «(الرجل الكامل يكون فارسي النسب، عربي الدين، عراقي الأدب، عبراني المخبَر، مسيحي المنهج، شامي النسك، يوناني العلم، هندي البصيرة، صوفي السيرة، ملَكيَّ الأخلاق)»[18].
وبالتالي ذهبوا إلى الدعوة إلى توحيد جميع الأديان والمذاهب فقالوا: «ينبغي لإخواننا ألا يعادوا علما من العلوم أو يهجروا كتابا من الكتب ولا يتعصبوا على مذهب من المذاهب، لأن رأينا ومذهبنا يستغرق جميع المذاهب كلها، ويجمع العلوم كلها»[19].
2-الدين:
عرَّف الإخوان الدين لغة بأنه: «(الطاعة من جماعة لرئيس واحد) والطاعة الحقيقية لها عنصران: عنصر التصديق والاقتناع القلبي بضرورة هذه الطاعة، والعنصر الثاني هو ترجمة هذا التصديق إلى ممارسة عملية.. كما عرفوا الإيمان-وهو العنصر الأول- لغة بأنه: التصديق للمخبر فيما قال وأخبر عنه. وأما اصطلاحا: فهو أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر. وبالنسبة للعنصر الثاني فلما (كانت الطاعة لا تتبين إلا بالأوامر والنواهي، والأمر والنهي لا يعرفان إلا بالأحكام والحدود والشرائط في المعلومات، سميت هذه كلها شريعة الدين وسنن أحكامه)، وبناء عليه فالدين له جانبان: جانب اعتقادي، وجانب عملي وهو الشريعة، وعندما يقارن الإخوان بين الدين والفلسفة فهم يقصدون بالدين جانبه النظري الاعتقادي، أو الجانب الإيماني، [كما ] يرى الإخوان أنه ليس بين الدين والفلسفة تعارض، بله النزاع، نعم هما يختلفان مجالا وأداة، ولكل منهما شخصيته وكيانه، إلا أنهما يتفقان غاية. فالدين والفلسفة لهما غايتان: إحداهما أولية والثانية نهائية، إذ أن (غرض الأنبياء عليهم السلام في وضعهم النواميس والشرائع، وغرض الحكماء في وضع السياسات ليس هو إصلاح أمور الدنيا فحسب، بل غرضهم جميعا في ذلك إصلاح الدين والدنيا جميعا، فأما غرضهم الأقصى فهو نجاة النفوس من محن الدنيا وشقاوة أهلها وإيصالها إلى سعادة الآخرة ونعيم أهلها)، وبعبارة أخرى الدين والفلسفة يتفقان هدفا ويختلفان وسيلة، أو يتفقان في الغرض وهو الأصل، ويختلفان في الفروع.»[20]
3-النبوة:
إن نظرة إخوان الصفا إلى النبوة مرتبطة بنظرتهم في مثنوية الإنسان القائلة بأنه نفس وجسم، وأن النفس أشرف، وأن غاية الإنسان هي التخلص من الجسد والعودة إلى عالم الأرواح، والله لما خلق الإنسان في أحسن تقويم وجعله خليفته في الأرض يتحكم على جميع ما فيها، بما يريد بعقله وكمال هيبته..لم يجز في حكمة الباري تعالى أن يتركه بلا وصية يبين له فيها ما ينبغي له أن يفعل و ما لا ينبغي أن يفعل، والنفس لا تحقق غايتها وهي جاهلة، فهناك كثير من الأمور لا يصل إلى معرفتها العقل. إذن فقد كان الإنسان بحاجة إلى طريقة توصله إلى معرفة تلك الأمور التي بها تتحقق الغاية، وكانت هذه الطريقة هي النبوة. فهي التي توصل الإنسان إلى تلك المنطقة المحرمة على العقل، أو المجهولة له، لذلك فمن الممكن أن نقول: إن النبوة تبدأ حيث تنتهي الفلسفة أو الوحي يبدأ حيث يقف العقل. وكما سبق فالنبوة في رأي إخوان الصفا أشرف من الفلسفة التي هي أشرف الصنائع البشرية.. [كما] يرى الإخوان أن النبوة ليست كسبية وإنما هي منحة، فالله يصطفي من يشاء من عباده ويجعله وسيطا وسفيرا بين الملائكة وخلقه، إلا أن الله يختاره من بين الصفوة أو صفوة الصفوة، (فأفضل الإنسان هم العقلاء وأخيار العقلاء هم العلماء وأعلى العلماء درجة وأرفعهم منزلة هم الأنبياء ثم بعدهم في الرتبة الفلاسفة الحكماء)»[21].
يقول محمد امحزون في تحقيق أمر النبوة عندهم: «اعتنى إخوان الصفا في إحدى رسائلهم بالبحث في ماهية الناموس الإلهي وشرائط النبوة، فهم يرون أن أرفع منزلة يرتفع إليها الإنسان على الإطلاق هي منزلة الأنبياء، لكنهم لا يؤمنون بختم النبوة، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، لأنه في رأيهم إذا اجتمعت ست وأربعون خصلة من فضائل البشرية في واحد من البشر في أي وقت من الزمان، فإن ذلك الشخص هو المبعوث وصاحب الزمان، والإمام للناس ما دام حيا.. هذا من جهة، من جهة ثانية فالنبوة في زعمهم تكتسب عن طريق الرياضة وصفاء القلب، وهي درجة يرتقي إليها العلماء والفلاسفة، ولذلك اعتبروا كل فيلسوف كبير نبي..»[22].
والخلاصة-يقول أحمد الخطيب-: «إن إخوان الصفا لا يعترفون بأن محمدا عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء والمرسلين، ويجعلون سقراط وأفلوطين وفيثاغورس في مصاف الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، وبالتالي فهم يرون أن جميع الأديان والمذاهب هدفها واحد، وإن وجد اختلاف في وسائلها، فهذا لا يعني التناقض ولا يوجب الخلاف..»[23].
4-نظرية الظاهر والباطن:
 ظهرت التأويلات المجازية –في الإسلام- للكثير من الآيات القرآنية من وقت مبكر قبل انتشار الفلسفة اليونانية لتتفق مع النظر العقلي، ولتنزيه الله تعالى عن كل ما يعني التجسيم لو أخذ بظاهره، كما هو واضح بشكل خاص لدى المعتزلة، وقد ذهب “إخوان الصفا” هذا المذهب- كما يرى فؤاد المعصوم-: «يقول إخوان الصفا: (إن لكل شيء من الموجودات في هذا العالم ظاهرا وباطنا، وظواهر الأمور قشور وعظام، وبواطنها لب ومخ، وإن الناموس(الدين) هو أحد الأشياء الموجودة في هذا العالم منذ كان الناس، وله أحكام وحدود ظاهرة بينة يعلمها أهل الشريعة وعلماء أحكامها من الخاص والعام، ولأحكامه وحدوده أسرار وبواطن لا يعرفها إلا الخواص منهم والراسخون). وترجع الثنائية في الدين بجانبيه الظاهر والباطن إلى الثنائية في تكوين الإنسان، فالإنسان – في رأي إخوان الصفا- مكون من جوهرين متباينين في الصفات، وهما الجسد الجسماني والنفس الروحانية، ولكنهما مشتركان في الأعمال العارضة والصفات الزائلة، ولكل من الجوهرين نزعته الخاصة، لذلك فأكثر أمور الإنسان مثنوية متضادة، وهذه الأمور لا تنسب إلى الجسد الجسماني بمجرده، ولا إلى النفس بمجردها، ولكن إلى الإنسان الذي هو جملتهما والمجموع منهما، فاسم الإنسان واقع على المجموع المكون من الجزئين: النفس والجسد، إلا أن النفس أشرف، فهي كاللب والجسد كالقشر، فما يتعلق بأمور جسمه فمن قبيل الظاهر، وما يتعلق بأمور نفسه فمن قبيل الباطن. ولما كان الإنسان هو هذه الجملة المركبة  من(جسد جسماني ظاهر جلي، ومن نفس روحانية باطنة خفية، صارت أحكام الدين والإسلام وحدود الشريعة على وجهين: ظاهر وباطن، والظاهر هو أعمال الجوارح، والباطن هو اعتقادات الأسرار في الضمائر وهو الأصل)..» [24].
وقد ذهب “إخوان الصفا”-تبعا لمبدئهم في القول بالظاهر والباطن- إلى القول: «بأن الإيمان نفسه له ظاهر وباطن، فالظاهر هو الإقرار باللسان بالأشياء الخمسة ، وأما الباطن فهو إضمار القلوب باليقين على تحقيق هذه الأشياء المقر بها باللسان، فهذا حقيقة الإيمان»[25].
وأوَّلَ “إخوان الصفا” الثواب والعقاب الحسي الموجود في الجنة والنار؛ فزعموا: «(أن جهنم هي: عالم الكون والفساد التي هي دون فلك القمر، وأن الجنة هي: عالم الأرواح وسعة السموات، وأن أهل جهنم هم: النفوس المتعلقة بأجساد الحيوانات التي تنالها الآلام والأوجاع دون سائر الموجودات)»[26].
ورأوا: « (أن جهنم هي خندق محفور، كبير واسع، مملوء من نيران تشتعل وتلتهب، وأن الله -تعالى- يأمر الملائكة -قصدًا منه وغيظًا على الكفار- أن يأخذوهم ويرموهم في ذلك الخندق، ثم إنه كلما احترقت أجسادهم وصارت فحمًا ورمادًا، أعاد فيها الرطوبة والدم حتى تشتعل من الرأس ثانيًا كما اشتعل أول مرة، وهكذا يكون دأبهم أبدًا)»[27].
وقد أدى تأويلهم للبعث والقيامة إلى إنكار الحشر والنشور؛ إذ اعتقدوا أن خراب العالم وحشر الأجساد يوم القيامة شيء يأباه العقل، وإنما هي أحوال تطرأ على النفس بعد الموت أو حين تنتبه من غفلتها في الدنيا، في كلام متناقض مضطرب لا يوقن بحقائق الآخرة. يقولون: (إن البعث والقيامة أمور تقال لعامة الناس ولمن لا يعرف من الأمور شيئًا. أما الخاص ومن نظر في العلوم، فإن هذا لا يصلح لهم؛ وذلك لأن كثيرًا من العقلاء والحكماء (الفلاسفة) ينكرون خراب السموات، ويأبون ذلك إباءً شديدًا، والجيد لهم أن يعتقدوا أمر الآخرة، وأن لها عَودًا متأخرًا عن الكون في الدنيا، كما كان في الدنيا موجودًا متأخرًا عن الكون في الرحم، وكما كانت أيام الشيخوخة متأخرة عن أيام الشباب..وهي أحوال تطرأ على النفس بعد مفارقتها الجسد إذا هي انتبهت من نوم غفلتها في الدنيا، واستيقظت من رقدة جهالتها قبل الممات)[28].  كما أنكروا في رسائلهم -أيضًا- وجود إبليس والشياطين؛ فالاعتقاد بوجودهم -على حد زعمهم- من الآراء الفاسدة. يقولون: «(ومن الآراء الفاسدة من يعتقد أن الله خلق خلقًا وربَّاه وأنماه وأنشأه وسلَّطه وقوَّاه على عباده متمكنًا في بلاده، ثم ناصبه العداوة والبغضاء، وهو إبليس وجنوده من الشياطين)»[29].
ويختتم أحمد الخطيب مزاعمهم هذه بالقول: «ولهذا ينكر إخوان الصفا اليوم الآخر كما جاء به القرآن ويؤمن به المسلمون، ويعتبرون الجنة والنار والبعث والحساب صالحة للعوام فقط، وهم في سبيل البرهان على صحة ذلك يعمدون إلى تأويل الآيات القرآنية التي تتحدث عن عذاب جهنم ونعيم الجنة.. [ويضيف كذلك]: «والدارس لرسائل إخوان الصفا يستطيع أن يجزم بأن إخوان الصفا لا يؤمنون بالأمور الغيبية مطلقا، بل يحاولون أن يؤولوا جميع الأمور الغيبية إلى أمور حسية، كما لاحظنا في تأويلاتهم للجنة والنار، لذلك فهم ينكرون أيضا وجود إبليس والشياطين، فالاعتقاد بوجودهم-على حدِّ زعمهم-من الآراء الفاسدة»[30].
وبالجملة؛ فإن المتأمل في رسائلهم يرى بجلاء ووضوح أنهم لا يؤمنون بالأمور الغيبية مطلقًا، رغم أنها شرط في صحة الإيمان بالله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: ٣]، بل أوَّلُوها إلى أمور حسية، كما رأينا في تأويلاتهم للجنة والنار متأثرين بلوثة وترَّهات الفلاسفة الماديين الذين انسدَّت في قلوبهم مدارك البصيرة، والمعرضين عن آيات الله -تعالى- التي لا تحصى في الآفاق والأنفس.
5- الأخلاق:
تحتوي رسائل إخوان الصفا على كثير من القصص ذات المغزى الأخلاقي والنقد السياسي، وتَرِد أغلب هذه القصص على لسان الحيوانات، لأن ذلك أبلغ في المواعظ وأبين في الخطاب وأعجب في الحكايات وأظرف في المسامع وأطرف في المنافع وأغوص في الأفكار وأحسن في الاعتبار. كما أنهم وجدوا في هذا اللون من التعبير حماية لأنفسهم في حملتهم على الأوضاع الاجتماعية والسياسية.
يقول محمود إسماعيل: «أولى إخوان الصفا فلسفة الأخلاق أهمية كبرى، يشهد بذلك الدلالة السيميائية لتسمية جماعتهم:”إخوان الصفا وخلان الوفا”، إذ تشي الكلمات الأربع بهذه الدلالة في وضوح تام، بل كانت غاية فلسفتهم العامة ومعارفهم الموسوعية أخلاقية في التحليل الأخير، فالمعرفة عندهم-كما سبق القول- كرست من أجل غرس الفضائل وتكوين المواطن الصالح كنواة لدولة الخير..لذلك كانت رسالتهم-الأخلاقية-في إيجاز شديد-تتوخى تربية المواطن الجامع لنقيض تلك الرذائل..»[31].
ويذهب فؤاد المعصوم إلى أن الأخلاق برأي إخوان الصفا هي :«(تهيؤ ما في كل عضو من أعضاء الجسد يسهل به على النفس إظهار فعل من الأفعال أو عمل من الأعمال أو صناعة من الصنائع أو تعلم علم من العلوم أو أدب من الآداب أو سياسة من غير فكر ولا روية)..[ويذهب إلى القول بأن:] الطبائع الغريزية المختلفة بين الناس هي الأسباب الأولى لما يكون بينهم من اختلاف وفوضى واضطراب، وحيث إن ترقي النوع الإنساني إنما يكون بتجمعه وتعاونه وعمارة عالمه؛ إذ هو (لا يقدر أن يعيش وحده إلا عيشا نكدا)..كان لابد  من أخلاق أخرى غير طبيعية تصدر عنها الأعمال والأفعال من أجل ترقي الإنسان، وتكون هذه الأخلاق من فكر وروية مكتسبة إما بموجب العقل، وإما بموجب أحكام الدين..لذلك فنحن حينما ننعم النظر في أوامر الدين ونواهيه وأحكامه وترغيبه ووعده ووعيده..نجد أن أكثر أوامره بخلاف ما في طبع الإنسان، فمثلا أُمر بالصيام وترك الأكل والشرب عند شدة الجوع والعطش، وبالقيام للصلاة وترك النوم والفراش، وبالتعفف عند هيجان الشهوة، وبالحلم عند ثورة الغضب، وبالشجاعة عند المخاوف، وبالعفو عند المقدرة. ومن هنا يتبين أن الأخلاق عند إخوان الصفا نوعان:
1-جبلية أو غريزية.
2- مكتسبة معتادة من جريان العادة.
فالأخلاق الغريزية هي التي تأتي نتيجة الشهوات المركوزة في الجبلة، وهذه الشهوات تدعو النفس إلى طلب المنفعة لأجسادها ودفع المكروه والمضرة عنها بغض النظر عن الظروف التي تكون حول الإنسان وحول المجتمع الذي يعيش فيه. وأما المكتسبة فهي التي تأتي أولا عن فكر وروية إما بموجب العقل أو بموجب أحكام الدين، وبعد ذلك تصير عادة لهم بطول الاستمرار عليها. وهذه الأخلاق هي التي يدعو إليها الأنبياء والفلاسفة والتي تسمى بالفضيلة..»[32].
6-علاقة الدين بالفلسفة:
يقول أحمد الخطيب: «يشترك إخوان الصفا مع الحركات الباطنية الأخرى في الاهتمام بالفلسفة، ولذلك نراهم قد عظموا من أمرها كثيرا، واعتبروها (بأنها التشبه بالإله بحسب طاقة الإنسان)، لأن من إحدى غاياتهم ووسائلهم مزج الدين بالفلسفة، فنراهم يأتون بشواهد من أقوال الفلاسفة والحكماء، بجانب الشواهد من أقوال الرسل والأنبياء.. وقد برر إخوان الصفا سبب مزجهم الدين بالفلسفة لزعمهم(أن الشريعة قد دنست بالجهالات واختلطت بالضلالات، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة، لأنها حاوية للحكمة الاعتقادية والمصلحة الاجتهادية، فمتى انتظمت الفلسفة الاجتهادية اليونانية والشريعة العربية، فقد حصل الكمال)..إذن فالخلافات التي قد تظهر بين الدين والفلسفة، هي على رأي إخوان الصفا (فروق في الفروع، وفي أسلوب الأداء التابع لأنواع الأمزجة ومختلف الحالات النفسية التي يتصف بها الأفراد، فكلما زادت النفس نقاوة وتحررا من قيود الجسد ومتطلباته، ازدادت قدرتها على إدراك المعاني الخفية المنطوية في الكلام الإلهي، وعلى الانسجام مع المعارف العقلية التي تقرها الفلسفة»[33].
 ولتأييد هذا الكلام يقول كذلك: «وينقل أبو حيان التوحيدي عن المقدسي-أحد الذين يزعم التوحيدي أنه من مؤلفي إخوان الصفا قوله: (إنما جمعنا بين الفلسفة والشريعة، لأن الفلسفة معترفة بالشريعة، وإن كانت الشريعة جاحدة لها، وإنما جمعنا أيضا بينهما لأن الشريعة عامة، والفلسفة خاصة، والعامة قوامها الخاص، كما أن الخاصة تمامها بالعامة، وهما متطابقتان إحداهما على الأخرى)»[34].
آراء العلماء فيهم:
حذر كثير من العلماء من رسائلهم ودعوا إلى عدم مطالعتها وقراءتها، لأن الباطل قد غلب عليها، وفي هذا السياق يقول أبو حامد الغزالي: «فإن من نظر في كتبهم كإخوان الصفا وغيرهم، فرأى ما مزجوه بكلامهم من الحكم النبوية والكلمات الصوفية، ربما استحسنها وقبلها وحسن اعتقاده فيها، فيسارع إلى قبول باطلهم الممزوج به لحسن ظن حصل فيما رآه واستحسنه، وذلك نوع استدراج إلى الباطل. ولأجل هذه الآفات يجب الزجر عن مطالعة كتبهم لما فيها من الغدر والخطر، وكما يجب صون من لا يحسن السباحة عن مزالق الشطوط، يجب صون الخلق عن مطالعة تلك الكتب»[35].
ويقول عنهم ابن تيمية في معرض حديثه عن اعتقادات بعض الفرق الكلامية: «ومثل كتاب “رسائل إخوان الصفا” الذي صنفه جماعة في دولة بني بويه ببغداد، وكانوا من الصابئة المتفلسفة المتحنفة، جمعـوا -بزعمهم- بين دين الصابئة المبدلين وبين الحنيفية، وأتوا بكلام المتفلسفة وبأشياء من الشريعة، وفيه من الكفر والجهل شيء كثير، ومع هذا فإن طائفة من الناس-من بعض أكابر قضاة النواحي- يزعم أنه من كلام جعفر الصادق. وهذا قول زنديق وتشنيع جاهل..»[36].
وعن مضمون هذه الرسائل يقول محمد امحزون: « لكن هذه الرسائل يعوزها العمق والنظام والترتيب، ويغلب عليها الإغراق في الخيال والاعتماد على أفكار الفلسفة الإغريقية وأوهامها من غير فحص ولا انتقاد، وبحث في كثير من العلوم من غير إشباع ولا كفاية. كما تشتمل على كثير من تراث المنجمين كأسرار الأعداد والفأل والزجر والسحر والعزائم والشعوذة، والإيمان بطوالع النجوم وتأثيرها، وموسيقى الأفلاك ونغماتها. وتشتمل كذلك على عقيدة الإمام المستور والتقية والتأويل، وغير ذلك من الأفكار الباطنية. والمتأمل في هذه الرسائل يلاحظ أن إخوان الصفا لا يكشفون مباشرة عن أهدافهم، ويتحدثون بصراحة عما يجول في نفوسهم، وإنما يضعون السم في الدسم لخدمة غايتهم، فيخلطون بين الدين والفلسفة للتشويش على القراء واستدراجهم إلى ما يريدون..»[37].
وجاء في مقدمة ناشر الرسائل قوله: «لم يعرض إخوان الصفا رسائلهم الفلسفية بأسلوب علمي محكم التنسيق، فجاءت مباحثهم وآراؤهم متراخية مفككة منتشرة هنا وهناك فيها عود وتكرار ومزج غريب، اختلطت فيه الفلسفة التقليدية والعلوم الرياضية والطبيعية بخرافات من السحر والتنجيم، وحكايات تشبه أمثال كليلة ودمنة وأسمار ألف ليلة وليلة..»[38].

 

                                                                   إعداد: الباحث منتصر الخطيب

 

الهوامش:

[1] إخوان الصفا:(فلسفتهم وغايتهم)-فؤاد معصوم-منشورات المدى للثقافة والنشر/سوريا-الطبعة الأولى/1998-المقدمة-ص:13
[2] أطلس الفرق والمذاهب الإسلامية: أماكن نشوئها وانتشارها ونبذة عن فكرها وتاريخها-شوقي ابو خليل-دار الفكر/دمشق-طبعة/2009-ص:401
[3] الفرق الباطنية(التاريخ والمنهاج) محمد أمحزون-سلسلة (لتستبين سبيل المجرمين) نشر هذا الكتاب بالتنسيق مع كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمكناس المغرب-الطبعة الأولى/2010-ص:92
[6-5-4] الفرق الباطنية-محمد أمحزون-ص:81
[7] إخوان الصفا-فؤاد معصوم-ص:64
[8] الفرق الباطنية- محمد أمحزون-ص:81
[9]  صوان الحكمة لأبي سليمان السجستاني- تحقيق: عبد الرحمن بدوي/طهران-د.ت-ص:361-362
[10] كتاب الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي-تحقيق: أحمد أمين وأحمد الزين-المكتبة العصرية/بيروت-طبعة/1953-ج/2-ص:4-5- وانظر كذلك كتاب: -الحركات الباطنية في العالم الإسلامي: (عقائدها وحكم الإسلام فيها)-محمد أحمد الخطيب-مكتبة الأقصى/الأردن-الطبعة الأولى/1984-ص:169 فما فوق.
[11] الحركات الباطنية-أحمد الخطيب- ص:173
[13-12] موسوعات العلوم العربية-رسائل إخوان الصفا تأليف: أحمد زكي-المطبعة الأميرية ببولاق/مصر-الطبعة الأولى/1308هـ-ص: 73 فما فوق-وانظر كذلك أقوالهم من كتاب: -“رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا”منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات/لبنان-طبعة/2005- وهو في أربعة أجزاء-بتقديم: بطرس البستاني.
[14] إخوان الصفا(رواد التنوير في الفكر العربي) إسماعيل محمود-عامر للطباعة والنشر بالمنصورة-الطبعة الأولى/1996-ص:43
[15] الفرق الباطنية- محمد أمحزون- ص:121
[16] إخوان الصفا-إسماعيل محمود-ص:75 فما فوق
[17] الشعوبية والزندقة وأثرهما في ظهور العقائد والفرق المنحرفة-محمد أحمد الخطيب-مكتبة الأقصى/الأردن-الطبعة الأولى/1994-ص:30
[19-18] الفرق الباطنية-محمد أمحزون-ص:94-وانظر: رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا”منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات.
[21-20] إخوان الصفا-فؤاد معصوم-ص:125 فما فوق
[22] الفرق الباطنية- محمد أمحزون- ص:125فما فوق
[23] الحركات الباطنية- أحمد الخطيب- ص:185
[25-24] إخوان الصفا-فؤاد معصوم-ص:99
 [26-27-28-29] المصدر: موقع مجلة البيان. وانظر: رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا”منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات.
[30] الحركات الباطنية- أحمد الخطيب -ص:186/190
[31] إخوان الصفا- محمود إسماعيل -ص:108
[32] إخوان الصفا-فؤاد معصوم-ص:244 فما فوق
[34-33] الحركات الباطنية- أحمد الخطيب -ص: 192/193
[35]المنقذ من الضلال-أبو حامد الغزالي-تقديم وعناية: أسعد السحمراني-دار النفائس/ سوريا-الطبعة الأولى/2009-ص:30-31
[36] مجموع الفتاوي لابن تيمية-دار الحديث/القاهرة-طبعة/2006-مج2/ص:317
[37] الفرق الباطنية- محمد أمحزون-ص:81
[38] رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا -مقدمة الناشر-ص:19

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق