وحدة الإحياءدراسات عامة

ضوابط في منهج التفكير الإسلامي

إن أمما كثيرة سبقت الأمة الإسلامية في هذه في الأرض وعمرتها أكثر مما عمرتها هذه الأمة وتقلبت في فجاجها وشعابها، وعلت وتطاولت وشادت وبنت، ولكنها بعد حين اندثرت وبادت، وأصبحت كما يقال أثرا بعد عين، بل أمست خبرا من أخبار التاريخ، بل خبرا صغيرا من أخبار التاريخ التي لا يعلمها كثير من الناس، والذين يعلمون شيئا من ذلك يتناقضون في تصوره على أنحاء شتى، فأين روما وأثينا وقرطاجنة ورأس شمرا وبابل وغيرها لقد عفا عنها الأثر وغفا عن ذكرها التاريخ والخبر.

  أما الأمة الإسلامية فما اندثرت ولن تندثر، بل هي محفوظة الكيان وطيدة الأركان مستمرة الوجود في أوسع صفحات الخلود، وما ذلك إلا لضبط المعرفة الإسلامية بأدق الضوابط وتوثيقها بأوثق العرى وصيانتها بأضبط المناهج، حتى غدت مكتوبة ولأصحابها منسوبة لا يعتريها زيف أو اختلال إلا نادر الأحيان وفي فترات الضعف والهوان، وقد أصبحت لهذه المعرفة مناهج مبتدعة، وضوابط في التفكير راسخة هي موازين جد دقيقة كانت هي أساسا لحضارة الإسلام وأركانا لبناء صرح مجده المتنامي مع الأيام والأعوام؛ إذ لولا هذه القواعد والضوابط الفكرية، والمناهج الدقيقة العلمية لما امتاز الغبار من النضار ولما عرف صحيح القول من الخشار. وإن الحضارة في جوهرها هي أسس التفكير العلمي ومناهجه وضوابطه، وبمقدار صلاحها تكون صلاحية البناء في هذه الحضارة.

 وإذا كانت الأمة الإسلامية اليوم متخلفة في ضبط مناهج التفكير وقواعد المعرفة فهي متخلفة في كل شيء، ولا يمكن أن نلقي باللوم في ذلك على غيرنا قال الله عز وجل: ﴿اَفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم﴾ (الملك: 22) ولسنا نبالغ إذا قلنا إن أزمة المسلمين اليوم هي أزمة فقه ومنهاج قبل أن تكون أزمة صدق وإخلاص وتنـزيل، والمسلم مرآة عقله وحاله انعكاس لمنهجه وفكره. والعقل الإسلامي من نفسه أوتي، وقد حق فينا قول الشاعر:

دواؤك فيك وما تبصر    ***     وداؤك منك وما تشعــر

وتحسب أنك جرم صغير   ***     وفيك انطوى العالم الأكبر

وأنت الكتاب المبين الذي   ***    بأحرفه يظهر المضمــر

  كلمة حول المنهج

  إن المنهج ليس مجموعة من نصوص الشرع يحفظها المرء ويستدل بما أراد منها على ما أراد دون فقه أحكامها والعلم بمقاصدها ومآلاتها، بل المنهج قواعد علمية مستفادة من ثمرات العلم بالنصوص وفقهها، يدل عليها استقراء صنيع العلماء في شتى المعارف والعلوم الشرعية والكونية. وإننا اليوم بحاجة إلى ذهنيات مرتبة وعقول مبصرة حتى ندرك الركب الحضاري ونساير التطور العلمي ونغالب أمم الأرض في وقت عمل فيه الأعداء على استثمار العقول والأخذ بزمام العلم وناصيته ونامت الأمة عن ذلك. ولا بصر للعقول إلا بنور القرآن والسنة، وفهم سلف الأمة الصالح والنظر في سنن الله الكونية في الأنفس والآفاق. وترتيب الذهن لا يكون بزحمة الآراء وكثرة الأفكار ورقاعات ما تقذفه الصحف والجرائد كل يوم، بل بفقه السنن الشرعية والسنن الكونية مع فقه الواقع وإدمان النظر والقراءة.

 كلمة عن التفكير

   يعدّ التفكير في التصوّر الإسلامي من أشرف المزايا والخصائص التي امتاز بها الإنسان العاقل عن غيره من المخلوقات، وليست أفضليتة لذاته، بل لما يحصل عنه من معرفة وعلم موصلين إلى أسمى الغايات وأشرف المصالح من جلب للمنافع ودرء للمفاسد في الآجل والعاجل. فالتفكير هو مبدأ العلم وطريق الحق، حيث حثّ عليه القرآن في معظم آياته وخطابه للمكلفين، فبواسطته تنال العلوم والمعارف، وتميز الحقائق من الأوهام، والمصالح من المفاسد.

ولا أدل على ذلك من تنوّع أساليب القرآن الكريم في استدعاء العقل للتفكير والتّرغيب فيه، بيانا لفضائله ومنافعه، كالتّعقل والنّظر والتدبّر والتبصّر والاعتبار، والتفقّه، والتذكّر، إلى غيرها من الأساليب الدالة على مزاياه. وقد عبّر القرآن الكريم عن الغاية الشاملة للتفكير، الجامعة لمصالح الدنيا والآخرة، فقال سبحانه: ﴿كذلك يبين الله لكم الاَيات لعلكم تتفكرون. في الدنيا والاَخرة﴾ (البقرة: 217-218)، ففي النص بيان للعلة والحكمة من التفكير، وهو العلم بشؤون الدنيا والآخرة، وعدم الاقتصار على إحداهما، كما هو شأن الماديين الذين اقتصروا على مصالح الدنيا، أو شأن الروحانيين الذين اقتصروا على مصالح الآخرة.

ولما كان التفكير في التصوّر الإسلامي بهذه المنـزلة، لم يكتف القرآن بالحث عليه، وإزالة الحجب والعوائق المانعة منه فحسب، بل وضع له ضوابط ترشد عملية التفكير نحو تحقيق غاياتها وأهدافها؛ لأن إطلاق عنان التفكير وحريته من غير ضابط قد يؤدي إلى نقيض المقصود منه، فتعود نتائج التفكير بالوبال والخسران.  فما هي تلك الضوابط المعرفية؟

الضابط الأول: ارتبط العلم بمقاصد التوحيد

   والمراد بهذا الضابط أن يرتبط العلم بمقاصد التوحيد القائمة على إفراد الله بالوحدانية وأنه سبحانه مصدر الحكم والحاكمية، وإفراد النبي صلى الله عليه وسلم بالإتباع فلا يرشد العلم ولا يصح الفكر إلا بخضوعه لألوهية رب العالمين ولا يسلم المنهاج إلا باتباع شرعة النبي -صلى الله عليه وسلم-  ومحجته البيضاء، قال الإمام الطحاوي: “ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام، فمن رام علم ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه. حجبه مرامه عن خالص التوحيد، وصافي المعرفة وصحيح الإيمان فيتذبذب بين الكفر والإيمان والتصديق والتكذيب والإقرار والإنكار موسوسا تائها شاكا لا مؤمنا مصدقا ولا جاحدا مكذبا[1].”

 وهذا الأصل عرف عند السلف بأصل الأصول، وهو أول مراتب العلم، وأشرف العلوم؛ لأنه العلم بالله. إذ شرف العلم بشرف المعلوم، ويشمل توحيد الربوبية بتفويض قضية الخلق إلى الله، وتوحيد الألوهية بأنه لا معبود بحق إلا الله، فلا عبادة ولا خضوع ولا استسلام إلا لله. رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ الْإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: “مِنَ اللَّهِ الرِّسَالَةُ، وَمِنَ الرَّسُولِ الْبَلَاغُ، وَعَلَيْنَا التَّسْلِيمُ[2].” وَهَذَا كَلَامٌ جَامِعٌ نَافِعٌ.

وضمنه توحيد الحاكمية، ويصح بتسليم زمام الأحكام إبراما ونقضا في التشريع والحلال والحرام لله سبحانه وتعالى حتى لا يخبط العقل في مراتع الهوى والظن والتخمين أو الاجتهاد في غير محاله ومراميه، ثم توحيد الأسماء والصفات وهو إثبات ما أثبته الله لنفسه وما وصفه به رسوله -صلى الله عليه وسلم- من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل.

 فلا ندخل في شيء من ذلك بعقولنا متأولين أو مشبهين فإنه لا شيء مثله ولا شيء يعجزه ولا إله غيره، لا تبلغه الأوهام ولا تدركه الأفهام ولا يشبهه الأنام حي لا يموت قيوم لا ينام خالق بلا حاجة رازق بلا مؤنة مميت بلا مخافة باعث بلا مشقة “ذلك بأنه على كل شيء قدير وكل شيء إليه فقير وكل أمر عليه يسير [3].”

  ثم توحيد الإتباع لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن الله تعالى جعل العصمة في سنته وأناط السلامة باتباع محجته، فيهدر كل ما عارض سنته قولا أو فعلا من قول فقيه أو رأي متكلم، أو حكمة فيلسوف، أو نظرية عالم، أو ذوق متصوف، أو خيال شاعر أو نحو ذلك.

فعلم العلماء وحكمة الحكماء وعقل العقلاء ينبغي أن يكون كل ذلك تبعا لهذا الأصل. ومآل الأمر خضوع نتاج العقول وبنات الأفكار لأصول العقيدة لتنسجم علوم المفكرين ونظريات العلماء مع عقيدة التوحيد. فإن العلم إدراك لسنن الله ونواميسه في الكون والشرع، وكلها من عند الله، فلا سبيل مع الاعتصام بتجريد التوحيد إلى كفر العلوم أو إلحاد العلماء كما حصل عند أهل الملل والأهواء والنحل الزائغة عن الحق كغلاة المتكلمين والصوفية وملاحدة الفلاسفة من المجوس ومن ألحد من علماء اليهود والنصارى في أوروبا وغيرها.

فلما غاب ربط العلم بالتوحيد عند هؤلاء خرجوا إلى أجناس من الزيغ والانحراف في غايات المعرفة ونتاجها ومقاصدها الخيرة وتسربت مقاصد الشر ونـزعات الإلحاد إلى العلوم الكونية والعلوم الإنسانية. ومن ذلك:

ـ التفنن في اختراع وسائل الدمار الشامل وخراب العمران والقضاء على أجناس من الخلائق مما أمر الله بحفظه، مثل الدراسات الحديثة في الفيزياء النووية وكيمياء الأحياء التي عمدت إلى تطوير القنابل النووية وصنع الرؤوس النووية المبيدة للشعوب، والأسلحة الكيماوية الفتاكة بالنوع الإنساني والحيواني على السواء تحت شعارات مزيفة وأقاويل باطلة.

وكذلك ما يعرف اليوم بالعبث البيولوجي الذي أصبح نوعا من التفكه والتفنن في السعي لتغيير خلق الله وإحداث تشوهات في الأجنة عن طريق العبث بالصبغيات في النوع الإنساني والحيواني بالخصوص.

وكذلك ما وصل إليه علم الإجرام اليوم من استخدام برامج الرسم وتحليل الأصوات والصور في الحاسوب للكشف عن عورات الناس وتلفيق المشاهد والوقائع المكذوبة للتشهير بالمخالفين.

 فهذا كله مما ينافي توحيد الحاكمية وإخضاع العلم لشرع الله، ويهدر مقاصد الشريعة التي أمرت بحفظ النوع الإنساني وحماية الكون والبيئة ونهت عن الفساد والإفساد في الأرض وذلك سبيل العابثين كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وإذا تولى سعى في الاَرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد﴾ (البقرة: 203).

والنظر إلى البناء العقدي لابد أن يأخذ طابعين أساسين: نظري وتطبيقي.

فالأول: لابد أن تتخلص العقيدة الإسلامية نظريا من رواسب النظريات الكلامية القديمة التي كانت مرتبطة بصراعات العصور التي ظهرت فيها والتي لم تستطع تحريك الحياة في عصرنا؛ لأنها لا تعبر عن واقعها، والتي تحولت لاسيما في العصور الأخيرة إلى قوالب جاهزة في تراكيب عويصة غريبة وأحاجي غامضة غير مفهومة، ومعظم موضوعات علم الكلام لم تكن من أهداف الوحي الإلهي، وإنما نتجت من المشاكل اللاهوتية التي أثارها اليهود والنصارى والبراهمة وأرباب الملل والنحل الأخرى في وجه الفكر الإسلامي، واضطر المفكرون المسلمون إلى الخوض فيها لإسكات الخصم والقضاء على شبهاته وشغبه في إطار مفاهيم الزمن الذي ظهر فيه، وكان من نتاج ذلك أن المسلمين شغلوا بقضايا الغيب، في حين أن الوحي الإلهي جاء ليوجههم إلى عالم الشهادة (عالم المادة) وتسخيره والقيام بأداء الاستخلاف فيه.

وإنه لمن العبث إحياء فكر علماء الكلام واعتباره جزء من العقيدة يجب دراسته والخوض فيه بكل حدوده وأبعاده ومشاكله، بل وتفسيق أو تبديع أو تكفير من لم يعرف ذلك ويعلمه في الوقت الذي تبقى فيه الميادين والمساحات الثقافية الأخرى في حياة المسلمين اليوم خالية أمام المذاهب المادية الحديثة الهدامة، تضرب في الفراغ وتسيطر على عقلية الأجيال المثقفة وتحدث الأزمة المعقدة اتجاه الإسلام. على أن علم الكلام بمنطقه القديم ومادته المعرفية الغريبة لم تعد تستطيع أن تصوغ الإنسان المسلم في عقيدته وسلوكه ونظرته للواقع والمستقبل؛ لأنه فقد الصلة بالحياة الحاضرة تماما، بينما وفق في هذا المجال من حملوا عقيدة التوحيد القرآني كل حسب ظرفه وحولوه إلى حياة وحركة ومنهج تغيير وقد تنبه إلى هذا العلامة ابن خلدون فقال: “وعلى الجملة فينبغي أن تعلم أن هذا العلم الذي هو علم الكلام غير ضروري لهذا العهد على طالب العلم؛ إذ الملحدة والمبتدعة انقرضوا، والأئمة من أهل السنة قد كفونا شأنهم فيما دونوا وكتبوا، وأما الآن فلم يبق منها إلا كلام تنـزه الباري عن الكثير من إيهاماته وإطلاقاته ولقد سئل الإمام الجنيد -رحمه الله- عن قوم مرّ بهم من المتكلمين يفيضون فيه فقال: ما لهؤلاء؟ فقيل قوم ينـزهون الله بالأدلة عن صفات الحدوث وسمات النقص فقال: “نفي العيب حيث يستحيل العيب عيب. لكن فائدته في آحاد الناس وطلبة العلم فائدة معتبرة” إذ لا يحسن بحامل السنة الجهل بالحجج النظرية على عقائدها[4]“، ويقول الزركشي: “وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ مِنْ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ بِقَدْرِ مَا يَنَالُ الْمُسْلِمُ بِهِ رَدَّ الْخَاطِرِ، وَإِنَّمَا الْمُنْكَرُ إيجَابُ التَّوَصُّلِ إلَى الْعَقَائِدِ فِي الْأُصُولِ، بِالطَّرِيقِ الَّذِي اعْتَقَدُوا، وَسَامُوا بِهِ الْخَلْقَ، وَزَعَمُوا أَنَّ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ لَمْ يَعْرِفْ اللَّهَ تَعَالَى، ثُمَّ أَدَّى بِهِمْ ذَلِكَ إلَى تَكْفِيرِ الْعَوَام أَجْمَعَ، وَهَذَا هُوَ الْخَطِيئَةُ الشَّنْعَاءُ، وَالدَّاءُ الْعُضَالُ، وَإِذَا كَانَ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ هُمْ الْعَوَامُّ، وَبِهِمْ قِوَامُ الدِّينِ، وَعَلَيْهِمْ مَدَارُ رَحَى الْإِسْلَامِ، وَلَعَلَّ لَا يُوجَدُ فِي الْبَلْدَةِ الْوَاحِدَةِ الَّتِي تَجْمَعُ الْمِائَةَ أَلْفٍ، مَنْ يَقُومُ بِالشَّرَائِطِ الَّتِي تَعْتَبِرُونَهَا، إلَّا الْعَدَدَ الْقَلِيلَ الشَّاذَّ الشَّارِدَ النَّادِرَ، وَلَعَلَّهُ لَا يَبْلُغُ عَقْدَ الْعَشَرَةِ، فَمَنْ يَجِدُ الْمُسْلِمُ مِنْ قَبْلِهُ، أَنْ يَحْكُمَ بِكُفْرِ هَؤُلَاءِ النَّاسِ أَجْمَعَ، وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُمْ لَا عَقِيدَةَ لَهُمْ فِي أُصُولٍ أَصْلًا، وَإِنَّهُمْ أَمْثَالُ الْبَهَائِمِ[5].”

   ولا يعني هذا هجوما على علم الكلام أو انتقاصا منه، فلولاه ما حلت كثير من المشكلات التي واجهت المسلمين آنذاك، ولكن الغرض هو صياغة الفكر العقدي اليوم وبناؤه بناء يلائم الواقع والزمان، ولا ضير أن يقتبس من الفكر الكلامي السابق تعامله الواقعي مع المشكلات التي واجهت المسلمين أيديولوجيا وتمثل تجربته في أصولها الفلسفية دون جزئياتها الفرعية، فإنه بهذا يمكن أن يقوم اليوم بدور مهم في البناء الأيديولوجي للمسلمين، فيؤسس مرجعية مذهبية تقوم على العقيدة الإسلامية تندرج تحت سلطانها مشاريع الحياة السلوكية كلها في مختلف المجالات فتستعيد حياة المسلمين وحدتها وانسجامها، وقد تمزقت اليوم شر تمزق بين أنموذج الانحطاط وأنموذج الحياة الغربية فنبتت فيها المشاكل المعيقة لا عن مسايرة الركب الحضاري فقط، ولكن عن بناء الإنسان الصالح وتقديم الإنسان الأنموذج الذي يحقق معنى الخلافة في الكون ويقوم بأمانة الاستخلاف وغاية الوجود الإنساني.

وهذا هو الهدف لا أن نعمق الشرخ بين المسلمين بأمور لم يكلفهم الله -عز وجل- بها، ونكفر أكثرهم لجهلهم بفروعيات علم الكلام معتبرين أن ذلك من الدين، والحق أن ذلك ليس من الدين في شيء. قال سفيان بن عيينة: “كل ما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه فتفسيره قراءته والسكوت عليه، ليس لأحد أن يفسره إلا الله -عز وجل- ورسوله -صلى الله عليه وسلم-[6]“، وقال الزهري: “على الله البيان وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم وقد مات أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما عرفوا حقيقة الاستواء ولا كيفية النـزول ولا الإتيان ولا اليد ولا العين ولا النفس ولا القدم ولا سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن شيء من ذلك وما ضرهم ذلك في دينهم شيئا[7].”

لقد سعى المسلمون الأوائل بكل ما لديهم أن يصوغوا مجتمعهم صياغة جديدة في إطار العقيدة الإسلامية التي من مقاصدها الأولى تحقيق قوله تعالى: ﴿بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق﴾ (الاَنبياء: 18)؛ فمهمة العقيدة هو إزهاق الباطل وذلك بقذف الحق ونشره بين الناس جميعا وذلك بما يلي:

1. تحرير الإنسان من كل أنواع الباطل ومن جميع أشكال الأهواء والنـزوات المضلة والاعتقادات الفاسدة وجعل الإنسان لا يخضع إلا لله.

2. حماية العقل الإنساني وصيانته وذلك بالحفاظ عليه ورفع مستواه إلى أعلى قدر وصولا إلى الرشد العقلي وذلك بتوجيهه وترشيده إلى معرفة الله تعالى حق المعرفة.

3. منع التقليد في التفكير والسلوك وإعطاء العقل حريته في الاجتهاد والابتكار بما ينفع، ومنع الاستبداد بالرأي وحل المعضلات التي تختلف فيها العقول.

4. وضع رؤية دقيقة يتكامل فيها الوحي والعقل والكون ويصرف فيها العقل المسلم إلى النظر والتدبر والعمل في عالم الشهادة وشؤونه كما يوجهه الوحي، وهذه هي الرؤية التي مكنت للسلف الأول ناصية الإبداع وفتحت أمام العقل المسلم أبواب التجريب والنظر والتنقيب في سنن الحياة والكائنات وفتحت للإنسانية آفاقا جديدة في مجال الحضارة، كانت هي الأساس التي أقامت الحضارة الحديثة عليه منهجها العلمي التجريبي وإنجازاتها المادية التجريبية التي لم تعرف لها الإنسانية من قبل سبيلا ولا مثيلا. وبقدر ما تيسر للعقل المسلم خلال ما مضى من عصور من صفاء الرؤية الإسلامية بقدر ما تمكن من الانصراف إلى بناء الحياة وحمل مسؤولياته في خلافة عالم الشهادة، وإعماره يشهد بها تراث المسلمين الحضاري في مختلف العلوم والفنون الطبيعية والتقنية والشرعية. وبقدر ما انغمس العقل المسلم في سيرته التاريخية في قضايا الغيب والإلهيات وعالم ما وراء المادة بقدر ما ضيع من جهده وطاقاته دون أن يحل مشكلة أو يزيل معضلة، بل ما زالت الأوهام والسفسطات والقضايا التي خاضها قائمة وما زال الخوض فيها قائما وما زال الخلاف والشقاق فيها يزيد ولا ينقص مما يعين عليها أعداءها ويطمعهم فيها[8].

الثاني: المستوى التطبيقي: إن هدف العقيدة في واقعنا الإسلامي اليوم هو إيجاد الإنسان الصالح والمجتمع الصالح والأمة الصالحة يقول الدكتور محسن عبد الحميد: “إن غاية العقيدة الإسلامية قد طمست من حيث أنها علم إيمان وعبودية لله تعالى وتحرير للإنسان من الخوف وتوحيد وجهته وغايته، وتحريكه نحو بناء الحياة من خلال توازن رائع وحركة مستمرة ونظرة دائمة إلى المستقبل حتى آخر لحظة من حياته، بحيث لو قامت القيامة ونفخ في الصور واختل نظام الوجود وبيده فسيلة، فلابد أن يغرسها كما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. فقد روى الإمام أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: “إِنْ قَامَتْ عَلَى أَحَدِكُمُ الْقِيَامَةُ وَفِى يَدِهِ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا[9].”

لقد حررت عقيدة التوحيد القرآني الإنسان من عبادة نفسه وعبادة غيره وعبادة مظاهر الحياة المادية وألوانها المتعددة من المال والمتاع والمصالح ووضعت الإنسان على طريق الوضوح في الحياة وأنقذته من التيه وحددت مركزه تحديدا دقيقا فغدا يشعر بأنه جزء من هذا الكون الذي يخضع للعناية الإلهية المباشرة وبذلك انتهت أزمته الحضارية التي هوت به إلى الحضيض، تلك الأزمة التي أوجدتها المذهبيات الجاهلية المشركة قبل الإسلام.

إن العقيدة الإسلامية في جوهرها قائمة على فكرة الوحدة والتوحيد: توحيد الشريعة، توحيد العبادة، توحيد الأخلاق والقيم، توحيد الأمة الإسلامية حضاريا كما قال تعالى: ﴿إنّ هذه أمتكم أمة واحدة، وأنا ربكم فاعبدون﴾ (الاَنبياء: 91). توحيد الأمة الإسلامية اجتماعيا بحيث تربط قلوب معتنقيها وتجعلهم أسرة واحدة كما قال تعالى: ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس﴾ (آل عمران: 110)؛ فالوحدانية هي المنطلق الأساسي الأول للعقل المسلم؛ فالعقل المسلم لا يكون له وجود إلا إذا آمن بالوحدانية على أنها مسلمة عقيدية بديهية فطرية عقلية تختلط بكل ذرة من كيانه ووعيه وضميره وفهمه لذاته وحياته والكون من حوله؛ وأساس هذه العقيدة البديهية الفطرية العقلية هو إيمانه المطلق وإدراكه البين بالله جل شأنه الخالق الحق الواحد الأحد الفرد الصمد الذي ليس كمثله شيء[10].”

لقد حرص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طيلة الفترة المكية أن يربط قلوب العباد بالله -عز وجل- فدعاهم إلى توحيد الله -عز وجل- وإفراده بالعبودية وذلك يقتضي توحيد مصدر التلقي ومصدر التشريع وهو الله تعالى؛ فكلما اتصلت العقول بالله -عز وجل- كلما أصبح الإنسان يملك قوة نفسه فلا يخاف إلا من الله، ولا يعمل إلا لله، ولا يرجو الثواب والعطاء إلا من الله تعالى. وبذلك يقيم العقل المسلم والفكر المسلم والمنهجية الإسلامية على فرضية الحق أساسا ومدارا ومآلا لكل الكون والكائنات ومرد وجودهما إلى الله الخالق وحده دون شريك أو مثيل. وعلى فرض وحدة المصدر ووحدة الحقيقة التي ينطلق منها ويمثلها كل الكون والكائنات؛ “وعلى فرض وحدة الإنسان الذي خلقه الله وكرمه بالإرادة والخلافة ورعاية الكائنات على أسس الحق والعدل والخير[11] .”

إن الغرض من إعادة البناء العقدي اليوم هو تحقيق مفهوم الربانية في نفوس العباد على مستوياتها الثلاثة:

أ. ربانية المصدر؛ فلا تصدر الشرائع إلا عن الله ولا تصدر الأحكام إلا عن الله.

ب. ربانية الغاية؛ فلا تكون غاية الإنسان في هذا الوجود إلا عبادة الله تعالى ولا تتحقق هذه العبادة إلا بما شرع كما قال تعالى: ﴿وما خلقت الجن والاِنس إلا ليعبدون﴾ (الذاريات: 56).

ج. ربانية الوسيلة؛ أي أن يكون الطريق الذي يوصلك إلى الله -عز وجل- طريقا صحيحا مستقيما مشروعا، وبذلك يسلم الإنسان من النواقض التي يمكن أن تهدم عقيدته من أصلها: ﴿وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين﴾ (البينة: 5)، ﴿ألا لله الدين الخالص﴾ (الزمر: 3).

والخلاصة أنه لابد من إحياء المعاني الربانية في النفوس من الإيمان بالله -عز وجل- وتوحيده وأسمائه الحسنى تبارك وتعالى والإيمان برسالاته وبالجزاء الأخروي باعتبارها أهداف الحياة العليا وغايات الوجود الإنساني. والعمل على دعمها وتثبيتها وحمايتها بكل الوسائل والأساليب عقلية وعاطفية، خاصة وعامة، نظرية وعملية، والعودة في فهم قضايا العقيدة إلى المنابع الصافية من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وفهم الراسخين في العلم من أمته بعيدا عن غلو الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.

ثم لابد أيضا من إحياء معنى التقوى لله تعالى والإخلاص له والثقة به والتوكل عليه وغرس الإحساس الدائم برقابة الله تعالى على كل أعمال الإنسان واطلاعه على سره ونجواه، وتغذية الشعور بالمسؤولية أمامه يوم لا تملك نفس لنفس شيئا ولا ينفع المرء إلا ما قدمت يداه. واستحضار فكرة الخلود في الدار الآخرة وأهوال النشور والموقف والحساب والميزان والجنة والنار.

وبهذه المعاني الروحية تتكون القلوب الحية أو الضمائر اليقظة التي هي أعظم رادع عن الشر وأكبر حافز على الخير وأقوى مدد لمكارم الأخلاق.

الضابط الثاني: فهم الكليات الشرعية فهما شموليا

 من الضوابط المهمة في الفكر الإسلامي فهم الكليات الشرعية فهما شموليا لا فهما ترقيعيا ولا فهما تجزيئيا؛ فالإسلام هو النظام الشامل لكل شؤون الحياة فينبغي أن يفهم فهما شاملا وعاما قال سبحانه: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاِسلام دينا﴾ (المائدة: 4). والمراد بالفهم الشامل أن تتجه الحياة كلها وجهة إسلامية، فتكون عقيدة المجتمع عقيدة إسلامية ومناهجه وأفكاره إسلامية، ومشاعره ونـزعاته إسلامية وأخلاقه وتربيته إسلامية وتقاليده وآدابه إسلامية وأخيرا أن تكون قوانينه وتشريعاته عامة وخاصة إسلامية، وبعبارة أخرى أن تكون أحكام الإسلام المرجعية الأساسية لكل مجتمع ولكل خطوة يخطوها الفرد والمجتمع.

يقول أحد المفسرين: “فأعلن لهم إكمال العقيدة وإكمال الشريعة معا، فهذا هو الدين ولم يعد للمؤمن أن يتصور أن بهذا الدين بمعناه هذا نقصا يستدعي الإكمال، ولا قصورا يستدعي الإضافة ولا محلية أو زمانية تستدعي التطوير أو التحوير، وإلا فما هو بمقر بصدق الله وما هو بمرتض ما ارتضاه الله للمؤمنين.”

  إن شريعة ذلك الزمان الذي نـزل فيه القرآن هي شريعة كل زمان وكل مكان؛ لأنها بشهادة الله شريعة الدين الذي جاء للإنسان في كل مكان وفي كل زمان لا لجماعة من بني الإنسان في جيل من الأجيال في مكان من الأمكنة كما كانت تجيء الرسل والرسالات.

إن الغرض اليوم هو إحياء الفهم الكلي لأحكام هذه الشريعة، وإن هذه الشريعة التي أنـزلها الله -عز وجل- وأكمل بها الشرائع تتناول جوانب حياة الإنسان كلها عقدية وأخلاقية وسياسية واجتماعية، فالإسلام بناء حضاري قائم بذاته لا تفصل أجزاؤه عن بعضها فالذي أوجب الصلاة والزكاة والصوم والحج هو الذي حرم الخمر والربا والزنى واللواط، وهو الذي حرم الغش والرشوة، وهو الذي أوجب الشورى والعدل والمساواة، والإسلام الذي بنى الإنسان عقديا ورباه على عمارة المسجد بالصلاة هو الذي يربي الإنسان على عمارة الأرض وتسخير الكون لصالحه، والإسلام الذي بنى المجتمع على مكارم الأخلاق وفضائلها وحرم الرذائل كالزنى والميوعة هو الذي بنى المجتمع على وجوب العدل وحماية الناس في دينهم وأعراضهم وأنفسهم وعقولهم وأموالهم؛ فالإسلام دين ودولة عقيدة وشريعة؛ الإسلام منظومة حضارية متكاملة ومذهبية فريدة خاصة.

إن الشريعة الإسلامية قد أنـزلت من عند الله لتسع حياة الإنسان من كل أطرافها وحياة المجتمع من كل أبعادها، فلا تضيق بالحياة ولا تضيق الحياة بها وحسبنا أن الله الذي شرعها أراد لها أن تكون كذلك ومتى أراد الله ذلك فلا راد لحكمه. لقد شاء الله أن تكون هذه الشريعة كاملة تامة: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا﴾. يقول محمد أسد: “لم يكن الذي جذبني إلى الإسلام تعليم خاص من التعاليم، بل ذلك البناء المجموع العجيب والمتراص بما لا نستطيع له تفسيرا من تلك التعاليم الأخلاقية، بالإضافة إلى منهاج الحياة العملية ولا أستطيع اليوم أن أقول أي النواحي استهوتني أكثر من غيرها، فإن الإسلام على ما يبدو لي بناء تام الصنعة وكل أجزائه قد صيغت ليتمم بعضها بعضا ويشد بعضها بعضا، فليس هناك شيء لا حاجة إليه وليس هناك نقص في شيء. فنتج عن ذلك ائتلاف متزن مرصوص. ولعل هذا الشعور من جميع ما في الإسلام من تعاليم وفرائض قد وضعت مواضعها هو الذي كان له أقوى الأثر في نفسي[12].”

ويقول المودودي: “والشريعة الإسلامية هي الوحيدة التي تحقق وحدة تامة وانسجاما منقطع النظير بين كافة تفريعات الحياة وشعاب الفكر والعمل من المسجد إلى ميدان القتال، ومن طريقة العبادة إلى استعمل وسائل الاتصال ومن أدق تفاصيل الغسل والطهارة والاستنجاء إلى أعظم أمور العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والحضارية ومن مكاتب التعليم الأولي إلى آخر التجارب العلمية ومنجزات القوانين الطبيعية واكتشافاتها، ويربط بين أجزاء هذه الوحدة نظام هادف وترتيب ذو مغزى مثله في ذلك مثل الآلة التي تترابط أجزاؤها بطريقة معينة بحيث تأتي من حركتها واشتغالها نتيجة واحدة.”

 وهذا الفهم الشامل والكلي للإسلام لابد من إعادة بنائه حتى يعتز المسلم برسالة الإسلام بوصفه عقيدة وشريعة وحضارة ونظام حياة أودع الله فيه الكمال والشمول والتوازن والوضوح والعمق وحتى يغرس هذا الاعتزاز في ضمائر الجميع صغارا وكبارا بحيث لا يزاحمه نظام أو مذهب آخر للحياة أو نـزعة من النـزعات، فدين المسلم أغلى ما يعتز به ويحرص عليه وفي سبيله يسعى بكل ما يملك. ورحم الله الشاعر؛ إذ قال:

أبي الإسلام لا أب لي سواه    ***     إذا افتخروا بقيس أو تميم

وقال آخر:

سر الوجود وإكسير الحياة لنا     ***     من شرعة الله فرقانا وتنـزيلا

 فإن نضحّ به يا أهل أمتنــا    ***      فإن أمتنا أولى ضحايانــا

وهذا الفهم الذي نقصده لابد أن يستمد عناصره من منابع الإسلام الصافية من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- الثابتة الصحيحة، ومما تراكم من فهم علماء الأمة البعيد عن كل الشوائب التي لحقت به وأضيفت إليه عبر مختلف العصور.

  لابد من اعتبار القرآن والسنة المصدرين الأساسيين لكل فهم ولكل تصور ولكل استنباط قال سبحانه: ﴿قل اِن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم﴾ (آل عمران: 31). وقال -صلى الله عليه وسلم-: “ألا إني أوتيتُ هذا الكتاب، ومثلَهُ معهُ، ألا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعان على أريكته، يقولُ: عليكم بِهذَا القُرآن، فيما وَجدْتُم فيه من حلالٍ فأحِلُّوهُ، وما وجدْتُم فيه من حرام فَحَرِّموهُ، ألا لا يَحِلُّ لكُم الحِمارُ الأهليّ، ولا كلُّ ذي نَاب مِنَ السِّبَاعِ، ولا لُقْطَةُ مُعاهدٍ، إلا أنْ يَستَغْنِيَ عنها صَاحِبُها[13].” “وأخرج البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:  “غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله، أما إني لم أقله ولكن الله قاله[14]“. قال سبحانه: ﴿وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى﴾ (النجم: 3-4). وعن حسان بن عطية قال: “كان جبريل ينـزل بالسنة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما ينـزل عليه بالقرآن[15].”

قال ابن حجر: “إن بعض الأحكام ثبت بالوحي وإن لم يكن مما يتلى[16].” وقال -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: مَا تَرَكْتُ شَيْئًا مِمَّا أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِهِ إِلا أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَمَا تَرَكْتُ شَيْئًا مِمَّا نَهَاكُمُ اللَّهُ عَنْهُ إِلا وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، وَإِنَّ الرُّوحَ الأَمِينَ قَدْ أَلْقَى فِي رُوعِي، أَنَّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَوْعِبَ كُلَّ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ لَهَا، فَمَنْ أَبْطَأَ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَلْيُجْمِلْ فِي الطَّلَبِ، فَإِنَّكُمْ لَنْ تُدْرِكُوا مَا عِنْدَ اللَّهِ إِلا بِمِثْلِ طَاعَتِهِ[17].” قال الشافعي: “فكان مما ألقي في روعه سنته وهي الحكمة التي ذكر الله[18].” وقال الطحاوي: “ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام[19].” وقال ابن أبي العز الحنفي: “أي لا يثبت إسلام من لم يسلم لنصوص الوحيين وينقاد إليهما ولا يعترض عليهما ولا يعارضهما برأيه ومعقوله وقياسه[20].”

وهذا هو التصور الذي ينبغي أن يسود وهو أن القرآن وما صح من سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سيان في استنباط الأحكام والوقوف على أحكام الشرع. وقد ساق ابن حبان في صحيحه الدلالة على هذا فقال: ذكر الخبر المصرح بأن: سنن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- كلها عن الله لا من تلقاء نفسه، أخبرنا محمد بن عبيد الله بن الفضل الكلاعي بحمص، حدثنا كثير بن عبيد المذحجي، حدثنا محمد بن حرب، عن الزبيدي، عن مروان بن رؤبة، عن ابن أبي عوف، عن المقدام بن معد يكرب، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “إني أوتيت الكتاب وما يعدله، يوشك شبعان على أريكته أن يقول: بيني وبينكم هذا الكتاب، فما كان فيه من حلال أحللناه، وما كان فيه من حرام حرمناه، ألا وإنه ليس كذلك[21].” قال الشافعي رحمه الله: “أجمع المسلمون أن من استبانت له سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن له ليدعها لقول أحد من الناس كائنا ما كان[22].” وقال ابن القيم: “قال الله تعالى: ﴿يأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تومنون بالله واليوم الاَخر﴾ وأجمع المسلمون على أن الرد إلى الله سبحانه هو الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو الرد إليه في حضوره وحياته وإلى سنته في غيبته وبعد مماته[23].”

وقد حذر العلماء أشد التحذير من دعوى الاقتصار على القرآن وحده في معرفة الشرع واستنباط أحكامه وهذا الذي سارت عليه المدرسة العقلية في مطلع القرن العشرين بزعامة محمد عبده ورشيد رضا وغيرهما. يقول محمد عبده: “وعلى أي حال فلنا، بل علينا أن نفوض الأمر في الحديث ولا نحكمه في عقيدتنا ونأخذ بنص الكتاب وبدليل العقل[24].” وقال أحدهم: “أنا لا أناقش الحديث من حيث سنده ولكن أراه يتعارض مع العقل ويقدم العقل على النقل عند التعارض.” وقال محمد الغزالي: “رد الحديث إذا خالف العقل مهما كان إسناده ومهما كان من صححوه ووثقوه من علماء الإسلام[25].” وكتب الدكتور توفيق صدقي مقالا نشر في مجلة المنار أنكر فيه حجية السنة بعنوان: “الإسلام هو القرآن وحده”. وفي هذا ما فيه من هدم لأهم أسس الإسلام وأركانه؛ إذ على السنة ينبني فهم الإسلام وإدراك معانيه ولولاها ما فهم الكتاب ولا حفظ. قال العلامة عبد الغني عبد الخالق -رحمه الله-: “إن حفظ القرآن متوقف على حفظها ومستلزم له بما أنها حصنه الحصين ودرعه المتين وشارحه المبين تفصل مجمله وتفسر مشكله وتوضح مبهمه وتقيد مطلقه وتبسط مختصره وتدفع عنه عبث العابثين ولهو اللاهين، وتأويلهم إياه حسب أهوائهم وأغراضهم، وما تمليه عليهم رؤساؤهم وشياطينهم فحفظها من أسباب حفظه وصيانتها صيانة له ولقد حفظها الله تعالى كما حفظ القرآن فلم يذهب منها والحمد لله شيء على الأمة وإن لم يستوعبها كل فرد على حدة[26].”

الضابط الثالث: مراعاة مقاصد الشريعة الإسلامية في اليسر ورفع الحرج

 من مقاصد الشريعة الإسلامية اليسر ورفع الحرج، وقد نوه الإسلام في غير ما آية وحديث بمبدإ اليسر والسماحة الذي هو وصف عام من أوصاف الشريعة قال سبحانه: ﴿ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به﴾ (البقرة: 286). وقال عز وجل: ﴿وما جعل عليكم في الدين من حرج﴾ (الحج: 76). وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنه- سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَيُّ الأَدْيَانِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ[27]؛ أي أحب الأديان إلى الله هو الإسلام الذي هو الحنيفية السمحة. وأثبت الحديث أن السماحة هي الوصف العام للإسلام؛ فعن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه[28]“؛ أي كان مغلوبا وكان الدين غالبا. فاستقراء الشريعة دل على أن السماحة واليسر من أهم مقاصد الشرع الحنيف وباب الرخص خير دليل على ذلك فعن عائشة رضي الله عنها قالت: “ما خير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما[29].” والمراد بالإثم ما دلت الشريعة على تحريمه قال الشاطبي: “إن الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة قد بلغت مبلغ القطع[30].” ويقول أيضا: “المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور فلا يذهب بهم مذهب الشدة ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة، فإنه قد مر أن مقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموما عند العلماء الراسخين[31].” ويظهر أن الحكمة من السماحة في الشريعة الإسلامية أن الله تعالى جعل هذه الشريعة دين الفطرة الراجعة إلى الجبلة فهي كائنة في النفوس يسهل عليها قبولها، ومن الفطرة النفور من الشدة والحرج: ﴿يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر﴾ (البقرة: 184). وقد أراد الله أن تكون شريعة الإسلام عامة ودائمة فاقتضى ذلك أن يكون تنفيذها بين الأمة سهلا ميسورا ولا يتحقق هذا إلا إذا انتفى عنها العنت والحرج والشدة فكانت بسماحتها أشد ملائمة للنفوس ورحم الله ابن القيم فقد قال: “إِنَّ الشَّرِيعَةَ مَبْنَاهَا وَأَسَاسُهَا عَلَى الْحِكَمِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَهِيَ عَدْلٌ كُلُّهَا، وَرَحْمَةٌ كُلُّهَا، وَمَصَالِحُ كُلُّهَا، وَحِكْمَةٌ كُلُّهَا؛ فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ خَرَجَتْ عَنْ الْعَدْلِ إلَى الْجَوْرِ، وَعَنْ الرَّحْمَةِ إلَى ضِدِّهَا، وَعَنْ الْمَصْلَحَةِ إلَى الْمَفْسَدَةِ، وَعَنْ الْحِكْمَةِ إلَى الْعبث؛ فَلَيْسَتْ مِنْ الشَّرِيعَةِ وَإِنْ أُدْخِلَتْ فِيهَا بِالتَّأْوِيلِ؛ فَالشَّرِيعَةُ عَدْلُ اللَّهِ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَرَحْمَتُهُ بَيْنَ خَلْقِهِ، وَظِلُّهُ فِي أَرْضِهِ، وَحِكْمَتُهُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ وَعَلَى صِدْقِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَتَمَّ دَلَالَةً وَأَصْدَقهَا[32].” وقال الحسن البصري: “ضاع هذا الدين بين الغالي فيه والجافي عنه[33].”

الضابط الرابع: الاقتداء بالسلف في الفهم والعمل

من أهم الركائز التي لابد من إدراكها وإعادة صياغتها الاقتداء بالسلف في فهم نصوص الشرع والعمل بها قال سبحانه: ﴿ويتّبع غير سبيل المومنين نوله ما تولى ونصله جهنم، وساءت مصيرا﴾ (النساء: 114). وما سبيل المومنين الواجب اتباعها إلا اقتداؤهم بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفهم صحابته الأبرار. وهذا الذي كان عليه سلف هذه الأمة حكى ابن العربي في الأحكام عن الزُّبَيْرَ بْنَ بَكَّارٍ يَقُولُ: سَمِعْت سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ: سَمِعْت مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ وَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مِنْ أَيْنَ أُحْرِمُ؟ قَالَ: مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ مِنْ حَيْثُ أَحْرَمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فَقَالَ: إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُحْرِمَ مِنْ الْمَسْجِدِ.فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ.قَالَ: إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُحْرِمَ مِنْ الْمَسْجِدِ مِنْ عِنْدِ الْقَبْرِ.قَالَ: لَا تَفْعَلْ، فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْك الْفِتْنَةَ.قَالَ: وَأَيُّ فِتْنَةٍ فِي هَذَا؟ إنَّمَا هِيَ أَمْيَالٌ أَزِيدُهَا. قَالَ: وَأَيُّ فِتْنَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَرَى أَنَّك سَبَقْت إلَى فَضِيلَةٍ قَصَّرَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: “فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[34].”

وجاء في كتاب الاعتصام للشاطبي: “وقال مالك بن أنس: قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد تم هذا الأمر واستكمل، فإنما ينبغي أن نتبع آثار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا نتبع الرأي فإنه متى اتبع الرأي جاء رجل آخر أقوى في الرأي منك فاتبعته فأنت كلما جاء رجل غلبك اتبعته أرى هذا لا يتم[35].”

فالوقوف عند السنن والعمل بها هو عمل السلف الصالح اعتقادا منهم أن الدين، إنما ينحصر في الكتاب والسنة وأن أمر الدين قد انتهى بقبص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى، وأن الكمال في اتباعه وأن الرأي لا قرار له ولا ميزان له مهما كان قائله وإلا لا معنى للرسالة والنبوة، فكان الواجب الوقوف عند السنن وما اتصل بها وتفرع عنها من أدلة الاستنباط مما أدركه جهابذة العلماء قال ابن وهب -رحمه الله-: “كان مالك إذا جاءه بعض أهل الأهواء قال: أما إني على بينة من ديني وأما أنت فشاك اذهب إلى شاك مثلك فخاصمه[36].” وجاء في كتاب الاعتصام: “قال ابن حبيب: أخبرني ابن الماجشون أنه سمع مالكا يقول: ومن أحدث في هذه الأمة شيئا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خان الدين؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم﴾ فما لم يكن يومئذ دينا لا يكون اليوم دينا[37]“؛ فالالتزام بالسنة والبعد عن الرأي مذهب السلف فقد جاء في التمهيد في ترجمة ربيعة الرأي قوله: “وكان يذكر مع جلة التابعين في الفتوى بالمدينة وكان مالك يفضله ويرفع به ويثنى عليه في الفقه والفضل على أنه ممن اعتزل حلقته لإغراقه في الرأي[38].” قال الشاعر:

لا ترغبن عن الحديث وأهله   ***   فالرأي ليل والحديث نهار

قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: “إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد فبعثه برسالته ثم نظر في قلوب العباد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد بعده فاختارهم لصحبة نبيه ونصرته ولم يزل أئمتنا يحثوننا على اتباع سبيلهم والاهتداء بهديهم[39].”

وقال أيضا: “من كان منكم متأسيا، فليتأس بأصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا وأقربها هديا وأحسنها حالا؛ قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوا آثارهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم[40].”

 وقال عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه-: “قف حيث وقف القوم، فإنهم عن علم وقفوا وببصر ناقد قد كفوا وإنهم على كشفها كانوا أقوى وبالفضل لو كان فيها أحرى فلئن قلتم حدث بعدهم فما أحدثه إلا من سلك غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم ولقد تكلموا منه بما يكفي ووصفوا منه ما يشفي فما دونهم مقصر وما فوقهم مجسر لقد قصر عنهم قوم فجفوا وطمح آخرون عنهم فغلوا وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم[41].”

وقال الأوزاعي إمام أهل الشام -رحمه الله تعالى-: “عليك بآثار من سلف، وإن رفضك الناس، وإياك ورأي الرجال، وإن زخرفوه لك بالقول، فإن الأمر ينجلي، وأنت منه على طريق مستقيم. واصبر نفسك على السنة وقف حيث وقف القوم واسلك سبيل سلفك الصالح فإنه يسعك ما وسعهم وقل بما قالوا وكف عما كفوا ولو كان هذا خيرا ما خصصتم به دون أسلافكم، فإنه لم يدخر عنهم خير خبئ لكم دونهم لفضل عندكم وهم أصحاب رسول الله اختارهم الله تعالى وبعثه فيهم ووصفهم، فقال محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم[42].”

وقد صدق الشافعي وبر حين قال في رسالته القديمة مشيدا بهم ذاكرا فضلهم: “أثنى الله تبارك وتعالى على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في القرآن والتوراة والإنجيل وسبق على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الفضل ما ليس لأحد بعدهم، فرحمهم الله وهنأهم بما آتاهم من ذلك ببلوغ أعلى منازل الصديقين والشهداء والصالحين، فهم أدوا لنا سنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وشاهدوه والوحي ينـزل عليه فعلموا ما أراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عاما وخاصا وعزما وإرشادا وعرفوا من سننه ما عرفنا وجهلنا وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر واستدرك به علم واستنبط به، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من آرائنا عندنا لأنفسنا والله أعلم[43].”

وقال عمر بن عبد العزيز: “قف حيث وقف القوم. وقل كما قالوا. واسكت كما سكتوا؛ فإنهم عن علم وقفوا. وببصر ناقد كفوا. وهم على كشفها كانوا أقوى. وبالفضل لو كان فيها أحرى. فإنهم السابقون ولئن كان الهدى ما أنتم عليه فلقد سبقتموهم إليه ولئن قلتم حدث بعدهم حدث فما أحدثه إلا من خالف سبيلهم ورغب بنفسه عنهم، ولقد تكلموا منه بما يكفي ووصفوا منه ما يشفى فما دونهم مَقصر ولا فوقهم  مجسر. ولقد قصر عنهم أقوام فجفوا، وطمح عنهم آخرون فغلوا. وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم. وقد سن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لولاة الأمر بعده سننا. الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعته، وقوة على دينه. ليس لأحد تغييرها، ولا تبديلها، ولا النظر في رأي من خالفها. فمن اقتدى بما سنوا اهتدى. ومن استنصر بها نصر. ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً[44].”

 ولا يكفي مجرد الاقتداء بالسلف في الفهم، بل لابد من الاقتداء بهم أيضا في العمل قال ابن الجوزي في صيد الخاطر: “رأيت الاشتغال بالفقه وسماع الحديث لا يكاد يكفي في صلاح القلب إلا أن يمزح بالرقائق والنظر في سير السلف الصالحين؛ لأنهم تناولوا مقصود النقل وخرجوا عن صور الأفعال المأمور بها إلى ذوق معانيها والمراد بها. وما أخبرتك بهذا إلا بعد معالجة وذوق لأني وجدت المحدثين وطلاب الحديث همة أحدهم في الحديث العالي و تكثير الأجزاء.و جمهور الفقهاء في علوم الجدل و ما يغالب به الخصم. وكيف يرق القلب مع هذه الأشياء؟ وقد كان جماعة من السلف يقصدون العبد الصالح للنظر إلى سمته وهديه لا لاقتباس علمه وذلك أن ثمرة علمه هديه وسمته فافهم هذا وامزج طلب الفقه والحديث بمطالعة سير السلف والزهاد في الدنيا ليكون سببا لرقة قلبك[45].”

وقال أبو حنيفة: “الحكاية عن العلماء ومحاسنهم أحب إلي من كثير الفقه؛ لأنها آداب القوم[46].” وقال أبو القاسم الجنيد: الحكايات جند من جنود الله يقوي الله بها أبدان المريدين[47]. وقال الإمام المواق في كتابه المسمى “سند المهتدين” عن شيخه المنتوري بسنده إلى أبي العباس بن العريف قال: كنت في مجلس أستاذي أبي علي الصدفي أقرأ عليه الحديث، فقرأ يوما الحديث ثم أغلق الكتاب وجعل يحكي حكايات الصالحين فوقع في نفسي: كيف يجيز الشيخ أن يقطع حديث رسول الله ويحكي الحكايات؟ قال: فما تم لي الخاطر حتى نظر إليَّ الشيخ شزرا وقال: يا أحمد، الحكايات جند من جنود الله يثبت الله بها قلوب العارفين من عباده. قال: فما بقي في جسدي شعرة إلاّ قطر منها العرق. فلما رآني دهشت قال لي: يا أحمد أين مصداق ذلك في كتاب الله؟ قلت: الشيخ أعلم قال: قوله تعالى: ﴿وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك[48].

وتحدث ابن القيم عن السلف فقال: “إن الرجل الواحد كان يحيي الله بكلامه الفئام من الناس، وذلك لشدة فهمه ونفاذ بصيرته وحرصه على العمل بما علم.

إذا سكن الغدير على صفاء   ***  وجنب أن يحركه النسيم

بدت فيه السماء بلا امتراء   ***   كذاك الشمس تبدو والنجوم

كذاك قلوب أرباب التجلي  ***    يرى في صفوها الله العظيم[49]

الضابط الخامس: امتلاك موهبة التمحيص وتمييز الأصيل من الدخيل

  إن امتلاك حاسة النقد سبيل إلى تصفية المعرفة الإسلامية مما علق بها من الحشو واللغو وحثالة الفكر الذي لا صلة له بالإسلام. فلا يسلم المشرب للعقل المسلم ولا يصح بناؤه أو إعادة تشكيله إلا بمنهج التصفية المستفاد من العلوم المنهجية في التراث وهو خلاصة مراس لأهل الصناعة من المحدثين والفقهاء والأصوليين حراس المعرفة الإسلامية من مكذوب الأثر وشبهات الفكر والنظر.

ويتجلى هذا المنهج في موازين نقد التراث وآراء الرجال التي تكون نسق المنطق الإسلامي الذي يعصم الفكر من الخطإ والزلل، واستمداده من أصول العقيدة وقواعد العربية وعلم أصول الفقه وقواعد المحدثين في الجرح والتعديل ونقد النصوص، ومناهج الأصوليين في التقعيد ومقاصد الشريعة وهي علوم من لم يتمرس بها لم يدرك المنهج السليم للاستفادة مما كتبه المسلمون، فلا يوثق بفهمه للإسلام بله أن يفكر أو ينظر للمسلمين؛ لأنه لن يأمن من الدخيل فكيف يدفعه؟

وإنما يقوم بذلك من علت همته من حملة العلم من أهل السنة وقفاة الأثر وأئمة الأصول ممن تتبعوا إبريز العلم وإكسير النظر وتمرسوا بنقد المعارف الحادثة في الملة، فتلقوها بأعين نافدة وعقول مبصرة نافذة وأحكموا نخلها وميزوا غثها من سمينها وصحيح القول من خشارها كما قال -صلى الله عليه وسلم-: “يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين[50].” فواظبوا على السنة والمذاكرة والتصنيف والمدارسة، حتى إن أحدهم لو سئل عن عدد الأحرف في السنن لكل سنة منها عدها عدا، ولو زيد فيها ألف أو واو لأخرجها طوعا ولأظهرها ديانة، ولولاهم لدرست الآثار واضمحلت الأخبار، وعلا أهل الضلالة والهوى[51].”

ومن تصفح مؤلفات أئمة الإسلام كمالك والبخاري ومسلم والذهبي وابن حجر والشاطبي وغيرهم كثير.. وجد صدق هذا وظهر له أن نخل المعرفة لا يكون إلا لمن كان على مثل نهج هؤلاء الأعلام وتمرس بصنائعهم ولم يسلم بأي شيء. فقد صنف الخطيب البغدادي كتابا في الرد على البخاري ومسلم في تواريخ الرجال أسماه “موضح أوهام الجمع والتفريق” ومما قال فيه: “ولعل بعض من ينظر فيما سطرناه ويقف على ما لكتابنا هذا ضمناه يلحق سيء الظن بنا ويرى أنا عمدنا للطعن على من تقدمنا وإظهار العيب لكبراء شيوخنا وعلماء سلفنا وأنى يكون ذلك وبهم ذكرنا وبشعاع ضيائهم تبصرنا وباقتفائنا واضح رسومهم تميزنا وبسلوك سبيلهم عن الهمج تحيزنا وما مثلهم ومثلنا إلا ما ذكر أبو عمرو بن العلاء فيما أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عمر المقرئ، أخبرنا أبو طاهر عبد الواحد بن عمر بن محمد بن أبي هاشم، حدثنا محمد بن العباس اليزيدي حدثنا الرياشي عن الأصمعي قال: قال أبو عمرو: “ما نحن فيمن مضى إلا كبقل في أصول نخل طوال ولما جعل الله تعالى في الخلق أعلاما، ونصب لكل قوم إماما لزم المهتدين بمبين أنوارهم والقائمين بالحق في اقتفاء آثارهم ممن رزق البحث والفهم وإنعام النظر في العلم بيان ما أهملوا وتسديد ما أغفلوا؛ إذ لم يكونوا معصومين من الزلل ولا آمنين من مقارفة الخطأ والخطل وذلك حق العالم على المتعلم وواجب على التالي للمتقدم[52].

وقال الذهبي: “وَمَا زَالَ العُلَمَاءُ قَدِيْماً وَحَدِيْثاً يَرُدُّ بَعْضُهُم عَلَى بَعْضٍ فِي البَحْثِ، وَفِي التَّوَالِيفِ، وَبمثلِ ذَلِكَ يتفَقَّهُ العَالِمُ، وَتتبرهَنُ لَهُ المشكلاَت[53].

وكثير من الناس يظن أن المعرفة الإسلامية أمشاج أفكار تتلقى من هنا وهناك من الصحف والمجلات، وأن هذه المعرفة مشرعة الأبواب يدخلها كل من هب ودب من الناس، فليس الأمر كذلك فما كل من كتب شيئا عن الإسلام يمكن أن يقحم في سلك المفكرين للإسلام والمنظرين للمعرفة الإسلامية ومناهجها فليس كل مائع ماء ولا كل سقف سماء، فالأمر له رجاله:

للحرب أقوام لها خلـقوا   ***   وللدواوين حساب وكتاب

وللحديث رجال يعرفون به  ***   وللتساويد نساخ وطلاب

ورحم الله الذهبي فقد تحدث عن نقاد الحديث فقال: “حقٌ على المحدّث أن يتورّع في ما يؤديه، وأن يسأل أهل المعرفة والورع ليعينوه على إيضاح مَروياته. ولا سبيل إلى أن يصير العارف الذي يُزكّي نقَلَة الأخبار ويجرحُهم جِهْبِذاً، إلا بإدمان الطلب والفحص عن هذا الشأن، وكثرة المذاكرة والسهر والتيقظ والفهم، مع التقوى والدين المتين والإنصاف والتردد إلى مجالس العلماء، والتحري والإتقان. وإلا تفعل:

فدَع عنك الكتابة، لستَ منها    ولو سوَّدت وجهك بالمِداد[54].

 الضابط السادس: الاهتمام بالعلوم الكونية

  أصيبت المعرفة الإسلامية في مجال العلم بالسنن الكونية وفقه فلسفة العلوم بضمور كبير في اهتمامات العقل الإسلامي، فكثير من المتعلمين لا يفقهون عن هذا المارد شيئا ذا بال حتى إنك لتلفي أكثر المشتغلين بالعلوم الشرعية والإنسانية غرباء بين أهل الأرض في معرفة أبجديات العلوم الكونية وتراهم ينظرون إلى الظواهر العلمية والمخترعات الحديثة نظر المشدوه الذي يغشى عليه من الموت. فكثيرا ما يتخرج الطالب من الجامعات في إحدى شعب العلوم الشرعية والإنسانية ولا يحسن إصلاح دائرة كهرباء أو صنبورا لا يمسك الماء أو رتاج لا يتحرك، بله أن يقوى على تحليل الظواهر العلمية في أبسط جهاز أو فهم وسائل الاتصال الإعلامي الحديث واقتحام ذلك الميدان، وقد علم أن فقه الكون والحياة من أولويات الفروض؛ لأن العلم بنواميس الله في الكون سبيل العيش في عالم تحكمه هذه السنن ولا ترحم أحدا. فالجهل بها خيانة مخزية لأهل الإسلام والاشتغال عنها بقضايا اللغو والثرثرة أشد خزيا وجرما يقول محمد الغزالي: “إن فقه الكون والحياة فريضة أسبق من فرائض أخرى صنعها أصحاب ثقافات مغشوشة زعموها دينا وهي أ بعد ما تكون عن الدين[55].”

  ومن نظر في سير سلف هذه الأمة وجدهم وازنوا بين العلوم الشرعية والعلوم الكونية؛ فالشافعي كان فارسا ماهرا، والبخاري كان راميا لا تخطيء له رمية، وابن حبان كان محدثا وفقيها وطبيبا ومنجما فلكيا، والفخر الرازي كان عالما بالتفسير مدركا للسنن الكونية في الأمطار ودورات المياه كان يصعد إلى قمم الجبال ليميز نـزول المطر أهو من السماء أم من السحاب؟ وعرف من علماء المسلمين في الطب والكيمياء والفيزياء والهندسة وغيرها من كانت لهم مشاركات في علوم الشريعة والأدب كابي بكر الرازي الطبيب، وابن زهر عالم البصريات، وابن سينا، وابن رشد الذي شغل علمه سمع الزمان وانتشر في الآفاق. ثم آل الأمر بعد انفصال العلوم بعضها عن بعض وعكوف المتعلمين على شعب في المعرفة دون أخرى أن عشش الجهل في ديار المسلمين في مجال علوم الكون وأصيبت بضمور في اهتمام المسلمين فانكمش أكثرهم على تلك الثمالة الباقية من علوم السلف في الحواشي وحواشي الحواشي، والمختصرات ومختصر المختصر، والمتون التي بلغت حد الألغاز، وعجزوا عن مسايرة الركب العلمي والحضاري بعقولهم وأفكارهم، أو استشراف ما يقع وراء البحار وأعماقها وفهمه أو ما يقع من سنن في الكون ودراسته أو التسليم بإمكان حدوثه ونجاحه.

أنظر إلى الإمام شهاب الدين الألوسي (توفي 1270ﻫ) في كتابه “روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني” يقول عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْاَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا، وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ﴾ قال: “ومن العجب أن أهل لندن قد اتعبوا أنفسهم منذ زمان بعمل سفينة تجري مرتفعة في الهواء إلى حيث شاءوا بواسطة أبخرة يحبسونها فيها اغتراراً بما ظهر منذ سنوات من عمر سفينة تجري في الماء بواسطة آلات تحركها أبخرة فيها، فلم يتم لها ذلك ولا أظنه يتم حسب إرادتهم على الوجه الأكمل، وأخبرني بعض المطلعين أنهم صنعوا سفينة تجري في الهواء لكن لا إلى حيث شاءوا، بل إلى حيث ألقت رحلها[56].”

وإلى جانب هذا وقفت طائفة عند قوله -صلى الله عليه وسلم- فيما أخرجه البخاري عن  سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ -رضى الله عنهما- عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: “إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لاَ نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسُبُ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا.” يَعْنِى مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، وَمَرَّةً ثَلاَثِينَ[57]. وتوهموا أن الأمية صفة لازمة للأمة إلى آخر الدهر، فرفضوا الحساب الفلكي والمعادلات الرياضية التي قام عليها إرسال المركبات الفضائية إلى الآفاق وبذلك بقيت الأمة على الهامش قرونا عديدة وتقدم غيرها ولا يكاد يسمع لها صوت في قضايا العلم وثوابت المعرفة، فسحب البساط من تحت الأمة واتسعت الهوة بينها وبين الأمم وصدق فيها قول جرير بن الخطفي:

ويقضي الأمر حين تغيب تيم  ***    ولا يستأمرون وهم شهود

وقد سلبت عصاك بنو تميـم  ***    فما تدري بأي عصا تذود[58]

 وقال الطغرائي:

ما كنت أؤثر أن يمتد بي زمني  ***    حتى أرى دولة الأوغاد والسفل

تقدمتني أناس كان شوطهــم   ***    وراء خطوي إذ أمشي على مهل

هذا جزاء امرئٍ لأقرانه درجوا   ***   من قبله فتمنى فســحة الأجل[59]

وعجيب أن بعض المسلمين اشتغلوا بنقاش قضايا لا هي من فروض الأعين ولا من فروض الكفايات طولوا بها الشروح والحواشي، وربما استغرق بعضهم في شرح مكروهات الصيام شهورا وربما مكث في فقه المياه والطهارات العام بأكمله، وكان الأولى تيسير ذلك وتبسيطه وإفراغ الجهود في غير ذلك، فإن الفروق بين العلم الديني والعلم المدني يتيح للناظرين في علوم الكون مجالا رحبا؛ لأن فقه الدين محدد خاصة في العبادات أساسه الاتباع، والعلم المدني مطلق أساسه الاختراع والإبداع والابتكار. والأثر الضعيف “اطلبوا العلم ولو بالصين[60].” فحتى لو صح، فالمراد به علوم الدنيا لا علوم الدين؛ لأن علوم الدين ليست الصين محلا لها.” فالعقل المسلم مدعو من منطلق الخلافة إلى تسخير الكون والكائنات لما فيه النفع: نفعه ونفع الكون والكائنات من حوله ومدعو إلى العمل والسير في دروب الكون ومناكبه، ومدعو إلى العلم بأسراره وتسخير هذا العلم لما فيه الخير. والعقل المسلم من منطلق الخلافة هو صاحب الشأن والكلمة في الكون ومطالب بالسعي والإبداع والإعمار، وبالعلم والإعمار، والتسخير يحقق الإنسان مهمته في هذه الأرض ويبلغ غايته، ولا سبيل بدافع الفطرة إلى طمأنينة النفس الإنسانية إلا بالعلم والعمل والسعي إلى الخير في الأرض، ولا مجال في العقل المسلم السوي ولا في الضمير المسلم الواعي للعجز والجهل والقعود عن علم الخير وعن فعل الخير وعن سعي الخير فذلك غاية وجود الإنسان، وتلك خلافته في الأرض وما عاقبته فيما وراء الحياة إلا محصلة هذا العمل وهذا العلم وهذا السعي[61].

وإلى جانب هذا لابد في منهج المعرفة أن نهتم بمستقبليات الإسلام ومتطلبات الأمة في هذا العصر حتى لا نغرد خارج الصرب ونجتهد بعيدا عن حاجات عصرنا وواجب المرحلة الراهنة، وهذا يتطلب فقها للواقع ومواكبة لمسار التقدم العلمي والحضاري لدى الأمم المجاورة مع الاستفادة مما كتبه الأسلاف بالقدر الذي ينفعنا في واقعنا المعاصر ويؤثر في الحياة المعاصرة برمتها. “ذلك أن بناء العلم والمعرفة والفكر والثقافة المسلمة يجب أن يحقق معرفة الواقع الحياتي للأفراد والجماعات ولشعوب الإسلام ولأمة الإسلام ولأمم الإنسانية قاطبة؛ وأن تكون تلك المعرفة معرفة صحيحة في حاجاتها وتطلعاتها وإمكاناتها وعلاقتها وتحدياتها؛ وأن البناء العلمي والمعرفي الذي لا يحقق تلك الأغراض لا يعتبر بناء ولا منهجا إسلاميا صحيحا ولا يعتد به في ميزان رسالة الإسلام وخلافة الإنسان.

كذلك، فإن أي بناء للعلم والمعرفة والفكر والثقافة المسلمة لا يوفر للعقل المسلم الإمكانات التي يتم بها تحقيق دقة الفهم وسلامة الإدراك وضبط الأداء على أفضل ما يكون الفهم والأداء فهو ليس بناء ولا منهجا إسلاميا للمعرفة والفكر والحياة الإسلامية[62].

فقد نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الأغلوطات وهي البحث في المسائل التي لم تقع مما هو ضياع جهد وتعب ونصب ليس وراءه فائدة، وقد كره أئمة السلف السؤال والفتوى عما ليس تحته عمل وذلك دليل على ارتباط المسلمين بفقه الواقع لئلا يلهث الناس وراء السراب ويضيعوا جهودا فيما لا ينفع  فقد جاء أعرابي إلى المدينة المنورة يسأل عن غرائب العلم زمن عمر بن الخطاب  -رضي الله عنه- وكان اسمه عبد الله بن صبيغ فلما سمع به عمر دعاه فجلده بالجريد حتى أوجعه وأمر أبا موسى الأشعري ألا يجالسه أحد من المسلمين، فلما خرجت الخوارج ودعوا إلى ضلالاتهم قالوا له: جاء دورك يا صبيغ فقال: أدبني العبد الصالح. وفي زمن هارون الرشيد: دخل عليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إنني أحسن صنعة لا يحسنها أحد قال وما هي؟ قال: أستطيع أن أرمي مائة إبرة فتدخل الثانية في خرم الأولى والثالثة في خرم الثانية وهكذا، فقال له: افعل. ففعل فرمى الثانية فوقعت في خرم الأولى ورمى الثالثة، فوقعت في خرم الثانية حتى أتم المائة فقال أمير المؤمنين أعطوه مائة جلدة ومائة دينار فقال: يا أمير المؤمنين جمعت لي بين النعمة والنقمة. قال: أما المائة دينار فلحسن صناعتك، وأما المائة جلدة فلأنك أضعت عملك فيما لا ينفع المسلمين.

الضابط السابع: البعد عن الاشتغال بتلاد الفرعيات عن المعضلات

  ابتليت المعرفة الإسلامية بقوم من أهل الترف الفكري المولوعين بالخلافيات لهم شديد في التنقيب عن مسائل الخلاف كلما انتهوا من مسالة نظروا في أخرى شعارهم “لا يشم رائحة العلم من لم يعرف الخلاف.” فتكون قضايا الخلاف دراستهم وقضايا الخلاف تدريسهم وقضايا الخلاف تأليفهم؛ فتراهم يقضون في المسألة الخلافية الواحدة شهورا وأعواما يجندون لها ما وسعهم من جهد وقوة ويضيعون نفائس الأوقات في معارك الجدل مع الخصوم، لا يسمعون بمجلس إلا وشمروا إليه للنـزال والانتصار، ويفرحون بخذلان المخالف إن انتصروا عليه ثاروا في وجهه بالجلبة والصياح. ورحم الله أبا حامد الغزالي فقد قال: “فانظر إلى مناظري زمانك اليوم كيف يسود وجه أحدهم إذا اتضح الحق على لسان خصمه، وكيف يخجل به، وكيف يجهد في مجاحدته بأقصى قدرته، وكيف يذم من أفحمه طول عمره[63].”

وقال الشيخ محمد الغزالي: لقد سألت نفسي هل المولعون بقضايا الخلاف صغيرها وكبيرها والذين يحشدون أفكارهم ومشاعرهم وأوقاتهم للانتصار فيها، هل هم مخلصون للقضايا المتفق عليها لماذا ننسى القواعد التي تجمعنا ونهش للدروب التي نتفرق فيها؟ الحق أن هذا الاهتمام بالأمور الخلافية لون من الطفولة الفجة والزيغ الفار بأهله من ميدان الحق؛ لأنه كثير التكاليف إلى ميدان آخر لا مشقة فيه ولا تزحمه واجبات ثقال[64]، بل إن كثيرا منهم يسألون عن مسائل خلافية لا لمعرفة الحق، بل لضرب الفتاوى بعضها ببعض، وإظهار العلماء على أنهم فريقان، فريق متشدد متنطع، وآخر سهل لين. وقد يغاط في اختيار وقت الفتوى، فيلقيها على المفتي وهو يعلم ما ستحدثه من ضغائن وأحقاد، ولا تتعجب فهؤلاء يخبئون فتواهم لهذه الأغراض، وقد رزئت هذه الأمة منذ القدم بأمثالهم، يقول مالك: “قال رجل للشعبي: إني خبأت لك مسائل فقال: خبئها لإبليس حتى تلقاه فتسأله عنها[65].”

 إنه ليشتد بالمرء الأسى وهو يلمح خلائق من حملة العلم يهدرون جهودهم وأوقاتهم في دروب من الخلاف الفقهي قد انتهى منه علماء الإسلام أو جدل كلامي قد أوسعه الأئمة بحثا وردا على المخالفين يشتغلون بها عن معضلات كان الأولى أن تبذل فيها الجهود، وتصرف لها نفائس الأوقات والأموال. وإذا أمعنا النظر فيما يتضاربون حوله من المسائل وجدنا أكثرها من مسائل الخلاف المعتبر الذي تواردت فيه الأدلة واتسعت له الأنظار كالهوي في السجود على الأيدي أو الركب، وقراءة الفاتحة خلف الإمام، وصلاة الجماعة الثانية في المسجد، والقبض والسدل في الصلاة، ورؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة الإسراء ربه ونحوها من المسائل التي لا يرتفع فيها الخلاف بين الأئمة.

  فالخلاف الفقهي في الفروع كان ويكون وسيبقى إلى آخر الدهر لأسباب طبيعية مقبولة ويجب ألا نتطير منه، وألا نحاول قتله أو تجاهله، فهناك خلافات لا يضر بقاؤها إلى قيام الساعة، كما أن ضياع الجهد لحمل الناس فيها على رأي واحد تعب ليس وراءه طائل، بل جناية على الإسلام وأهله ببث العداوة والشقاق بينهم وشغل للمسلمين بما لا يرتفع فيه خلاف، عن الاهتمام بالقضايا الكبرى كتقويم العقيدة والأخلاق والتورع عن الحرام والشبهات وإعداد العدة العلمية والمالية والأخلاقية لمواجهة الكفر والجهل والأمية بكل أشكالها والفقر والمرض وغيرها من الأوبئة التي تفتك بالخلق وتخرب ديار المسلمين.

ولربما نجد المشتغل بهذه الخلافيات لا يملك قوت يومه وقد ضيع حقوقا للمسلمين عليه، بل ضيع حقوق أقرب الناس إليه أهله وعشيرته، وهذا هو انقلاب سلم الأولويات في عقول أبناء الإسلام وكفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول فكيف أن يحقق  بعض فروض الكفايات للمسلمين.

 الضابط الثامن: يرجع في كل علم إلى أهله ورجاله

إن العبرة في ضبط المعرفة وتحقيق العلوم بما دلت عليه عبائر الراسخين وجرت به أقلام المحققين في العلوم المراد بحثها لا بآراء المتطفلين الرويبضة أو فهوم الوراقين الغمار ممن همتهم تكديس الصحف والأوراق دون مراجعة العلماء المحققين، فعلى طالب العلم النظر لنفسه والحذر من تعالم الصحيفة وترهات الصحفيين، فليس كل من نتش سطرا وحمل قلما وحبرا صار حبرا وبحرا يشار إليه بالبنان ولا يقعقع له بالشنان، فقد اشتهر بين السلف ألا يفتي الناس صحفي ولا يقرؤهم مصحفي فإن لكل علم رجال يرجع إليهم فيه.

فلا يطلب الحديث عند شاعر أو أديب ولا يستفتى واعظ في حكم معضلة حار فيها أولو الألباب كما لا يستشار مؤرخ أو نحوي في دقائق التفسير والأصول إلا أن يكون هؤلاء ممن جمعوا شتات الصنائع ورسخوا فيها.

أما المتنقلون في حدائق العلوم كبغاث الطير القافزون هنا وهناك على عجل، فالحذر الحذر من الأحداث، فإن الغالب منهم الإحداث. ومن عجائب حال الناس في هذا الزمان أنك تراهم يلهثون وراء كثير ممن قلت بضاعتهم في أصناف العلوم حتى سلموا إليهم الزمام، فتراهم يلوذون بهم في كل معضلة ويتهافتون على كلامهم في كل ميدان، بل تجد لمؤلفاتهم الطيران الحثيث، فبضائعهم نافقة وصنائع العلماء بإزاء جهالاتهم عند العوام كاسدة.

قال الحجوي الثعالبي: “وليست الفتوى بطول الأردان وإرخاء الذوائب كذنب الأتان والهذر باللسان إذا خلا الميدان:

ولو لبس الحمار ثياب خز   ***   لقال الناس يا لك من حمار

فهذا من الضرب الذين يستفتون بالشكل لا بالفضل، ويأكلون بالعمائم والأكمام لا بالعلوم والأحكام، تعج منهم الحقوق إلى الله تعالى عجيجا وتضج الأحكام من أقلامهم ضجيجا[66]. وقديما قال أبو علي الآمدي:

تصدر للتدريس كل مهوسٍ     ***    بليدٍ تسمى بالفقيه المدرس

 فحق لأهل العلم أن يتمثلوا    ***     ببيتٍ قديمٍ شاع في كل مجلس

 لقد هزلت حتى بدا من هزالها   ***    كلاها وحتى سامها كل مفلس[67]

قال الذهبي: ولا سبيل إلى أن يصير العارف الذي يزكى نقلة الأخبار ويجرحهم جهبذا إلا بإدمان الطلب والفحص عن هذا الشأن وكثرة المذاكرة والسهر والتيقظ والفهم مع التقوى والدين المتين والإنصاف والتردد إلى مجالس العلماء والتحري والإتقان وإلا تفعل:

فدع عنك الكتابة لست منها   ***   ولو سودت وجهك بالمداد

 قال الله تعالى: ﴿فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون﴾ (الأنبياء: 7)، فإن آنست يا هذا من نفسك فهما وصدقا ودينا وورعا وإلا فلا تتعن، وإن غلب عليك الهوى والعصبية لرأي ولمذهب فبالله لا تتعب، وإن عرفت أنك مخلط مخبط مهمل لحدود الله فأرحنا منك فبعد قليل ينكشف البهر وينكب الزغل ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله[68].”

الضابط التاسع: مراعاة أدب الخلاف وضوابط الحوار والمناظرة

 تقدم في الضابط الثالث وجوب التأسي بالسلف في الفهم والسلوك ومن جوانب الـتأسي بهم مراعاتهم لأدب الخلاف، واحترام بعضهم بعضا فيما استنبطوه من أحكام وما وقفوا عليه من دقائق المعرفة فقد كان كل واحد منهم يطلب الحق لذاته وهم كلهم مصابيح نور يهتدى بهم في الوصول إلى الحق واختلافهم رحمة فإذا ضاق الأمر في جانب اتسع في آخر وقد ورد في الأثر: “لا يزال الناس بخير ما تباينوا فإذا تساووا هلكوا[69] وروي عن القاسم بن محمد أنه قال: “كان اختلاف أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- (رحمة)[70]“، وقال عمر بن عبد العزير: “ما أحب أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يختلفوا؛ لأنه لو كانوا قولا واحدا كان الناس في ضيق وأنهم أئمة يقتدى بهم فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان في سعة[71].

وقال يحيى بن سعيد: “ما برح أولو الفتوى يفتون فيحل هذا ويحرم هذا فلا يرى المحرم أن المحل هلك لتحليله ولا يرى المحل أن المحرم هلك[72].”

 وقال القاسم بن محمد بن أبي بكر: “لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- في أعمالهم لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعة ورأى أنه خير منه قد عمله[73].” ورحم الله سراج هذه الأمة الإمام مالك فقد قال: “كل يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا القبر[74].” وأشار إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وكان شعارهم الدائم ما قاله الشافعي -رحمه الله-: رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب[75]. وقال أبو حنيفة: “هذا رأيي، وهذا أحسن ما رأيت، فمن جاء برأي خير منه قبلناه[76].”

ولم يكن الخلاف بينهم -رحمة الله عليهم- ليحملهم على انتقاص غيرهم أو التعرض لهم بالإذاية، بل كان الخلاف دافعا لهم لتقوية أواصر المودة والمحبة بينهم، بل كانوا كما قال أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى: “كناشد ضالة لا يُفرق بين أن تظهر الضالة على يده أو على يد من يعاونه، ويرى رفيقه معيناً لا خصماً، ويشكره إذا عرفه الخطأ أو أظهر له الحق[77].”

ومن ثم شهد بعضهم لبعض بالفضل والسابقة في خدمة الدين وأهله فقد أخذ الليث بن سعد على ربيعة بن أبي عبد الرحمان كثيرا من مسائله لكن كتب يقول فيه: ومع ذلك بحمد الله عند ربيعة خير كثير، وعقل أصيل، ولسان بليغ، وفضل مستبين، وطريقة حَسَنةٌ في الإسلام، ومودة صادقة لإخوانه عامة، ولنا خاصة، رحمه الله، وغفر له، وجزاه بأحسن ما عمله[78].”

ولعل من أفضل وأحسن ما يمثل به لأدب الاختلاف بين الأئمة الفضلاء ما كتب به الليث بن سعد للإمام مالك -رحمه الله- يعرض فيها وجهة نظره بأدب جم رفيع حول كثير مما كان الإمام مالك يذهب عليه ويخافه فيه قال -رحمه الله-: “سلامٌ عليك، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلاَّ هو.

أما بعد: عافانا الله وإياك، وأحسن لنا العاقبة في الدنيا والآخرة.

قد بلغني كتابُك تذكر فيه من صلاح حالكم الذي يسرني، فأدام الله ذلك لكم، وأتمَّه بالعون على شكره، والزيادة من إحسانه، وذكرت نظرك في الكتب التي بعثتُ بها إليك، وإقامتك إياها، وختمك عليها بخاتمك وقد أتتنا، فجزاك الله عما قدمت منها خيرًا، فإنها كتب انتهت إلينا عنك، فأحببت أن أبلغ حقيقتها بنظرك فيها. وذكرت أنه قد أنشَطك ما كتبتُ إليك فيه من تقويم ما أتاني عنك إلى ابتدائي بالنصيحة، ورجوت أن يكون لها عندي موضع وأنه لم يمنعك من ذلك فيما خلا إلا أن يكون رأيت فينا جميلاً، إلاَّ أني لم أذاكرك مثل هذا، وأنه بلغك أني أفتي بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندكم، وإني يحق علي الخوف على نفسي لاعتماد من قبلي على ما أفتيتهم به، وأَن الناس تبعٌ لأهل المدينة التي إليها كانت الهجرة، وبها نـزل القرآن. وقد أصبت بالذي كتبت به من ذلك إن شاء الله تعالى، ووقع مني بالموقع الذي تحب، وما أجد أحدًا يُنسب إليه العلم أكره لشَواذِّ الفتيا، ولا أشد تفضيلا لعلماء أهل المدينة الذين مَضَوْا، ولا آخذ لفُتْياهم فيما اتفقوا عليه مني، والحمد لله رب العالمين لا شريك له.

وأما ما ذكرت من مقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة، ونـزول القرآن بها عليه بين ظهراني أصحابه، وما علمهم الله منه، وأن الناس صاروا به تبعًا لهم فيه، فكما ذكرت. وأما ما ذكرت من قول الله تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الاَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالاَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الاَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً، ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة: 101). فإن كثيراً من أولئك السابقين الأوَّلين خرجوا إلى الجهاد في سبيل الله ابتغاءَ مرضاة الله، فجنَّدوا الأجناد، واجتمع إليهم الناس فأظهروا بين ظهرْانَيْهم كتاب الله وسنة نبيه، ولم يكتموهم شيئًا علموه… وكان من خلاف ربيعة لبعض ما مضى ما قد عرفت، وحضرت وسمعت قولك فيه، وقول ذوي الرأي من أهل المدينة: يحيى بن سعيد، وعبيد الله بن عمر، وكثير بن فَرقد، وغير كثير ممن هو أسَنُّ منه، حتى اضطرك ما كرهت من ذلك إلى فراق مجلسه.

وذاكرتُك أنت وعبد العزيز بن عبد الله بعض ما نعيب على ربيعة من ذلك، فكنتما من الموافقين فيما أنكرت؛ تكرهان منه ما أكرهه، ومع ذلك بحمد الله عند ربيعة خير كثير، وعقل أصيل، ولسان بليغ، وفضل مستبين، وطريقة حَسَنةٌ في الإسلام، ومودة صادقة لإخوانه عامة، ولنا خاصة، رحمه الله، وغفر له، وجزاه بأحسن ما عمله… [إلى أن قال في ختام رسالته]؛ “وأنا أحب توفيق الله إياك وطول بقائك لما أرجو للناس في ذلك من المنفعة، وما أخاف من الضيعة إذا ذهبَ مثلك مع استئناسي بمكانك، وإن نَأَتْ الدارُ، فهذه منـزلتك عندي، ورأيى فيك فاسْتيقِنْه، ولا تترك الكتابَ إليَّ بخبرك وحالك وحال ولدِك وأهلك، وحاجةٍ إن كانت لك، أو لأحدٍ يُوصَلُ بك، فإنِّي أسرُّ بذلك؛ كتبت إليك، ونحن صالحون، معافون، والحمد لله. نسأل الله أن يرزقنا وإياكم شكر ما أولانا، وتمام ما أنعم به علينا، والسلام عليك، ورحمة الله[79].”

وهذا منه -رحمه الله- من الأدب الرفيع والتواضع الجم والاعتراف بالجميل وحسن الإنصاف في الكيل وقد قيل: إن من الإنصاف أن يكتال المرء بالصاع الذي يكتال به لغيره فإن في كل شيء وفاء وتطفيفا.

قال الشافعي -رحمه الله-: “ما ناظرت أحدا إلا ورجوت أن يظهر الحق على لسانه[80].” وقال أيضا: “ما كلمت أحداً قطّ إلا أحببت أن يُوفّق ويُسدّد ويُعان، وتكون عليه رعاية الله وحفظه. وما ناظرني فبالَيْتُ! أَظَهَرَتِ الحجّةُ على لسانه أو لساني؟ وما ناظرت أحداً فقبل مني الحجَّة إلا عظم في عيني، ولا ردَّها إلا سقط في عيني[81].” وقال أيضا: “ما ناظرت أحداً إلا قلت اللهم أجر الحق على قلبه ولسانه، فإن كان الحق معي اتبعني، وإن كان الحق معه اتبعته[82].”

وقال في الإمام مالك: “مالك بن أنس معلمي وعنه أخذت العلم وإذا ذكر العلماء فمالك النجم. وما أحد آمن علي من مالك بن أنس[83].” وكان يقول: “إذا جاءك الحديث عن مالك فشد به يديك. كان مالك بن أنس إذا شك في الحديث طرحه كله[84].” وقال الإمام أحمد بن حنبل وقد  سئل عن مالك: “مالك أكبر في قلبي[85].” وذكر سفيان بن عيينة مرة حديثا، فقيل له إن مالكا يخالفك في هذا الحديث فقال: “أتقرنني بمالك ما أنا ومالك إلا كما قال جرير:

وابن اللبون إذا ما لز في قرن  ***    لم يستطع صولة البزل القناعيس[86]

 وقد نقلت عن عبد الله بن المبارك روايات كثيرة في الثناء على أبي حنيفة فقد كان يذكر عنه كل خير ويزكيه ويأخذ من قوله ويثني عليه ولا يسمح لأحد أن ينال منه في مسجده وحاول بعض جلسائه يوما أن يغمز أبا حنيفة، فقال له أسكت: والله لو رأيت أبا حنيفة لرأيت عقلا ونبلا.

يا ناطح الجبل العالي ليكلمه  ***   أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل[87]

وقال فيه الشافعي: “الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة[88].”

وعن عبد الله بن الإمام أحمد قال: “قلت لأبي أي رجل كان الشافعي فإني سمعتك تكثر الدعاء له؟ فقال: يا بني كان الشافعي -رحمه الله- كالشمس للدنيا والعافية للناس، فانظر هل لهذين من خلف عوض[89].”

وعن صالح بن الإمام أحمد قال: لقيني يحيى بن معين فقال: أما يستحيي أبوك مما يفعل؟ فقلت: وما يفعل؟ قال: رأيته مع الشافعي والشافعي راكب وهو راجل آخذ بزمام دابته. فقلت لأبي ذلك، فقال: إن لقيته فقل: يقول لك أبي: إذا أردت أن تتفقه فتعال فخذ بركابه من الجانب الآخر:

ومن يك علم الشافعي إمامه  ***  فمرتعه في واحة العلم واسع[90]

وكان الإمام أحمد يكثر زيارة الشافعي فسئل الشافعي عن ذلك فقال:

“قالوا يزورك أحمد وتزوره   ***  قلت الفضائل لا تفارق منـزله

  إن زارني فبفضله أو زرته ***  فلفضله فالفضل في الحالين له [91]

وقد أوصى عبد الله بن الحكم المالكي ولده بملازمة الشافعي فقال له: “الزم هذا الشيخ يعني الشافعي فما رأيت أحدا أبصر بأصول العلم منه.” وقد أخذ الولد بنصيحة أبيه فقال: “لولا الشافعي ما عرفت كيف أرد على أحد وبه عرفت ما عرفت وهو الذي علمني القياس -رحمه الله- فقد كان صاحب سنة وأثر وفضل وخير مع لسان فصيح وعقل صحيح رصين[92].”

هذه لمحات خاطفة توضح بعض ما كان عليه أسلافنا من أدب جم  رفيع وخلق عال لا ينال منه الاختلاف ولا يؤثر فيه تباين الاجتهادات، وتلك آداب الرجال الذين تخرجوا من المدرسة المحمدية فما عاد للهوى عليهم من سلطان وكتب التراجم والطبقات والمناقب والتاريخ حافلة بما لا يحصى من المواقف النبيلة والمناظرات الطريفة بين كبار الأئمة والتي كان الأدب سداها والخلق الإسلامي الرفيع لحمتها وحري بنا أن نعود إلى فيء تلك الدوحة المباركة ونلتقي على الآداب الكريمة التي خلفها لنا السلف الصالح سعيا لاستئناف حياة علمية جادة تنال بها الأمة مكانتها وخيريتها التي اختصت بها.

ومع الالتزام بالأدب لابد من اغتفار الأخطاء والتماس الأعذار في المواقف فهما وعملا وقد تقرر أن العلماء والدعاة والصالحين الذين ابلوا في الإسلام بلاء حسنا تنغمر أخطاؤهم في بحر حسناتهم.

أسوق فيما يلي نماذج رفيعة لأقوال السلف، ومواقفهم العادلة من أخطاء المخالفين وردودهم على بعضهم؛ تمثل المنهج العدل المتوازن الذي يجب على كل مسلم وبخاصة طلاب العلم والدعاة أن يأخذوا به ويتعاملوا مع بعضهم في ضوئه وهداه:

النموذج الأول: عن عبد الرحمن بن شُمَاسَة قال: دخلتُ على عائشة، فقالت: ممن أنت؟ قلتُ: من أهل مصر. قالت: كيف وجَدْتُم ابن حُديج في غزاتكم هذه؟ قلتُ: خَيْرَ أمير؛ ما يقفُ لرجل منَّا فرسٌ ولا بعيرٌ إلاَّ أبدلَ مكانَه بعيرًا، ولا غلامٌ إلاَّ أبدلَ مكانَهُ غُلامًا، قالت: إنه لا يمنعني قتلُه أخي أنْ أحدِّثكم ما سمعتُ مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إني سمعته يقول: “اللهُمَّ من ولي من أمر أُمتي شيئًا فَرفَقَ بهم فارفُقْ به، ومن شَقَّ عليهم فاشْقُقْ عليه[93].”

النموذج الثاني: “قال يونس الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي؛ ناظرته يومًا في مسألة، ثم افترقنا ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة[94].”

النموذج الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي الشافعي: “يا يونس إذا بلغك عن صديق لك ما تكرهه، فإياك أن تبادره العداوة وقطع الولاية فتكون ممن أزال يقينه بشك، ولكن ألقه وقُلْ له: بلغني عنك كذا وكذا، واحذر أن تسمي له المبلّغ؛ فإن أنكر ذلك فقل له: أنت أصدق وأبر. لا تزيدن على ذلك شيئًا، وإن اعترف بذلك فرأيت له في ذلك وجهًا لعذر فاقبل منه، وإن لم تر ذلك فقل له: ماذا أردت بما بلغني عنك؟ فإن ذكر ما له وجه من العذر فاقبل منه، وإن لم تر لذلك وجهًا لعذر وضاق عليك المسلك فحينئذ أثبتها عليه سيئة، ثم أنت في ذلك بالخيار؛ إن شئت كافأته بمثله من غير زيادة، وإن شئت عفوت عنه والعفو أقرب للتَّقوى وأبلغ في الكرم؛ لقول الله تعالى: ﴿وَجَزَآؤا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا، فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ (الشورى: 37)؛ فإن نازعتك نفسك بالمكافأة ففكر فيما سبق له لديك من الإحسان فعدها ثم أبدر له إحسانًا بهذه السيئة، ولا تبْخَسنّ باقي إحسانه السالف بهذه السيئة؛ فإن ذلك الظلم بعينه. يا يونس إذا كان لك صديق فشد يديك به، فإن اتخاذ الصديق صعب ومفارقته سهل[95].”

النموذج الرابع: قال الذهبي في ترجمته لصاحب الأندلس الناصر لدين الله: “وقد كنتُ ذكرتُ ترجمَتَه مع جدِّهم، فأعدتُها بزوائدَ وفوائد، وإذا كان الرأس عاليَ الهمَّة في الجهاد، احتُملت له هَنَات، وحسابُه على الله، أما إذا أمات الجهاد، وظلَمَ العباد، وللخزائن أباد، فإنَّ ربَّك لبالمرصاد[96].”

النموذج الخامس: قال الذهبي في ترجمته لمحمد بن نصر المروزي: “ولو أنَّا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفورًا له، قمنا عليه وبدعناه وهجرناه لما سلم معنا لا ابن نصر ولا ابن منده ولا من هو أكبر منهما. والله هو هادي الخلق إلى الحق، وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة[97].

النموذج السادس: كان إسحاق بن راهويه -رحمه الله تعالى- يشيد بعلم الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام ويقول: “الحق يحبه الله -عز وجل-: أبو عبيد القاسم بن سلام أفقه مني وأعلم مني[98].” وكان أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى- يقول في إسحاق: “لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق، وإن كان يخالفنا في أشياء؛ فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضًا[99].”

النموذج السابع: قال الذهبي في ترجمة قتادة -رحمه الله تعالى-: “وهو حجة بالإجماع إذا بين السماع؛ فإنه مدلس معروف بذلك، وكان يرى القدر نسأل الله العفو ومع هذا فما توقف أحد في صدقه وعدالته وحفظه ولعل الله يعذُرُ أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنـزيهه، وبذل وسعه، والله حكم عدل لطيف بعباده، ولا يسأل عما يفعل. ثم إنَّ الكبير من أئمة العلم إذا كَثُرَ صوابُه، وعُلمَ تحرِّيه للحق، واتَّسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعُرف صلاحُه وورعُه واتباعه، يُغفر له زلـله، ولا نضلله ونطرحه، وننسى محاسنه. نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك[100].”

النموذج الثامن: يقول ابن رجب -رحمه الله تعالى-: “أكثر الأئمة غلطوا في مسائل يسيرة مما لا يقدح في إمامتهم وعلمهم، فكان ماذا؟ لقد انغمر ذاك في محاسنهم، وكثرة صوابهم، وحسن مقاصدهم، ونصرهم للدين. والانتصاب للتنقيب عن زلاتهم ليس محمودًا ولا مشكورًا، لاسيما في فضول المسائل التي لا يضر فيها الخطأ ولا ينفع فيها كشف خطئهم وبيانه[101].”

وقال أيضًا: “.. فرحم الله من أساء الظن بنفسه علماً وعملاً وحالاً، وأحسن الظن بمن سلف، وعرف من نفسه نقصًا ومن السلف كمالاً، ولم يهجم على أئمة الدين… وإن أنت أبيت النصيحة… وصار شغلك الرد على أئمة المسلمين والتفتيش عن عيوب أئمة الدين فإنك لا تزداد لنفسك إلا عُجبًا، ولا لطلب العلو في الأرض إلا حبًا، وعن الحق إلا بعدًا، ومن الباطل إلا قربًا[102].”

النموذج التاسع: يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى-: “ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعًا أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح، وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان، قد تكون منه الهفوة والزلة، هو فيها معذور، بل ومأجور لاجتهاده، فلا يجوز أن يُتبع فيها، ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامته ومنـزلته من قلوب المسلمين[103].”

ويُطَبِّق هذا عمليًا في موقفه من آراء الهروي -رحمه الله تعالى- في منازل السائرين عندما شرحها ابن القيم في مدارج السالكين ورد عليها، فتراه بعد ذلك يعقب فيقول: “ولولا أن الحق لله ورسوله، وأن كل ما عدا الله ورسوله فمأخوذ من قوله ومتروك، وهو عرضة الوهم والخطأ، لما اعترضنا على من لا نلحق غبارهم، ولا نجري معهم في مضمارهم، ونراهم فوقنا في مقامات الإيمان، ومنازل السائرين، كالنجوم الدراري. ومن كان عنده علم فليرشدنا، ومن رأى في كلامنا زيغًا أو نقصًا وخللاً فليهد إلينا الصواب، نشكر له سعيه، ونقابله بالقبول والإذعان والانقياد والتسليم، والله أعلم وهو الموفق[104].”

ويقول -رحمه الله تعالى- بعد رده على الهروي في منـزلة التوبة بعض آرائه: “ولا توجب هذه الزلة من شيخ الإسلام إهدار محاسنه، وإساءة الظن به؛ فمحله من العلم والإمامة والمعرفة والتقدم في طريق السلوك المحل الذي لا يجهل. وكل أحد فمأخوذ من قوله ومترك إلا المعصوم صلوات الله وسلامه عليه. والكامل من عُدَّ خطؤه؛ ولاسيما في مثل هذا المجال الضنك، والمعترك الصعب؛ الذي زَلَّت فيه أقدام، وضلت فيه أفهام، وافترقت بالسالكين فيه الطرقات، وأشرفوا -إلا أقلهم- على أودية الهلكات[105].”

وفي ردِّه رحمه الله تعالى عليه في منـزلة (التلبيس) يعقب على ذلك فيقول: “شيخ الإسلام حبيبنا، ولكن الحق أحب إلينا منه. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: (عمله خير من علمه). وصدق رحمه الله؛ فسيرته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد أهل البدع لا يشق له فيها غبار، وله المقامات المشهورة في نصرة الله ورسوله. وأبى الله أن يكسو ثوب العصمة لغير الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى -صلى الله عليه وسلم- وقد أخطأ في هذا الباب لفظًا ومعنى[106].”

وقال ابن القيم -رحمه الله-: “وقد تقرر أن من قواعد الشرع وحكمة الإسلام أن من عظمت حسناته وكثرت فضائله وخيراته وكان له في الإسلام تأثير ظاهر، فإنه يحتمل له ما لا يحتمل من غيره، ويعفى منه ما لا يعفى عن غيره؛ فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث[107].

وقال ابن تيمية -رحمه الله-: “ومن سلك طريق الاعتدال، عظم من يستحق التعظيم، وأحبه وولاه، وأعطى الحق حقه، فيعظم الحق، ويرحم الخلق، ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات، فيحمد ويذم، ويثاب ويعاقب، ويحب من وجه ويبغض من وجه، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، خلافاً للخوارج، والمعتزلة، ومن وافقهم[108].”

وإذا الحبيب أتى بذنب واحد       جاءت محاسنه بألف شفيع

 وقال ابن رجب الحنبلي: “ويأبى الله العصمة لكتاب غير كتابه والمنصف من اغتفر قليل خطإ المرء في كثير صوابه[109].”

   الضابط العاشر: التعاون في المتفق عليه

  إن مشكلة الفكر الإسلامي اليوم ليست في ترجيح أحد الرأيين أو الآراء في القضايا المختلف فيها بناءً على اجتهاد أو تقليد. فالواقع أن الخطأ في هذه القضايا يدور بين الأجر والأجرين. ولكن المشكلة حقا في تضييع الأمور المتفق عليها، المشكلة ليست في الذي يؤول آيات الصفات وأحاديثها -وإن كان مذهب السلف أسلم وأرجح-، بل في الذي ينكر الذات والصفات جميعًا. المشكلة ليست فيمن يقول: استوى على العرش بمعنى (استولى) أو كناية عن عظمة سلطانه تعالى، بل فيمن يجحد العرش ورب العرش معا. المشكلة ليست فيمن يجهر بالبسملة أو يخفضها أو لا يقرؤها في الصلاة، ولا فيمن يرسل يديه في الصلاة أو يقبضهما، ومن يرفع يديه عند الركوع أو الرفع منه أو لا يرفعهما، إلى آخر هذه المسائل الخلافية الكثيرة المعروفة. إنما المشكلة فيمن لا ينحني يومًا لله راكعًا، ولا يخفض جبهته لله ساجدًا، ولا يعرف المسجد ولا يعرفه المسجد. المشكلة ليست فيمن يأخذ بأحد المذاهب المعتبرة في إثبات هلال رمضان أو شوال، بل فيمن يمر عليه رمضان كما مر عليه شعبان وكما يمر عليه شوال، لا يعرف صيامًا ولا قيامًا، بل يفطر عمدًا جهارًا ونهارًا، بلا خشية ولا حياء. المشكلة ليست في عدم تغطية الوجه بالنقاب، واليدين بالقفازين، كما هو رأي بعض العلماء، بل في تعري الرؤوس والنحور، والظهور، ولبس القصير الفاضح، والشفاف الوصاف، إلى آخر ما نعرف مما يندى له الجبين.

إن المشكلة حقًّا هي وهن العقيدة، وتعطيل الشريعة، وانهيار الأخلاق وإضاعة الصلوات، ومنع الزكوات، واتباع الشهوات، وشيوع الفاحشة وانتشار الرشوة وخراب الذمم، وسوء الإدارة، وترك الفرائض الأصلية وارتكاب المحرمات القطعية وموالاة أعداء الله ورسوله والمؤمنين. المشكلة الحقيقية في إضاعة أركان الإسلام، ودعائم الإيمان وقواعد الإحسان.

فالواجب على مفكري الإسلام أن ينبهوا على التركيز على مواطن الاتفاق قبل كل شيء، وأن يرفعوا شعار (لنتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه) فإن هذا التعاون فريضة وضرورة، فريضة يوجبها الدين وضرورة يحتمها الواقع.

خاتمة

 ستظل المعرفة الإسلامية بحول الله محفوظة الكيان وطيدة الأركان مستمرة الوجود في أوسع صفحات الخلود؛ لأنها ضبطت بأدق الضوابط ووثقت بأوثق العرى وغدت مكتوبة ولصحابها منسوبة ومن الزيف والخلل معصومة.

وإن الأمة الإسلامية وهي تتململ اليوم بقوة لنهوض جديد وتحاول الدخول في دورة حضارية مستأنفة لابد من تجديد المناهج، ولابد من ضبط الضوابط المعرفية الصحيحة؛ إذ هو أقوى عدة وأبلغ جهاد. ففي الأثر: يوزن يوم القيامة مداد العلماء ودم الشهداء فيرجح مداد العلماء على دم الشهداء؛ لأن معركة السيف جولة ومعركة القلم أعوام وقرون.

الهوامش:


1. العقيدة الطحاوية، 1/64.

2. صحيح البخاري 6/2737. وشرح العقيدة الطحاوية، 1/454.

3. العقيدة الطحاوية، 1/17.

4. المقدمة، 1 /270.

5. البحر المحيط، 8/196.

6. انظر: السفاريني، لوامع الأنوار،  ج1 ص99 و231.

7. ابن أبي العز، شرح العقيدة الطحاوية، 120.

8. عبد الحميد أحمد أبو سليمان، أزمة العقل المسلم، ص122-123.

9. المسند، 3/191.

10. أزمة العقل المسلم، ص127.

11. المرجع نفسه، ص128.

12. الطريق إلى الإسلام.

13. البيهقي، السنن الكبرى، 2/387.

14. صحيح البخاري، 4/186. وصحيح ابن حبان، 8/456.

15. ابن بطة، الإبانة الكبرى، 1/234.

16. فتح الباري، 5/178.

17. البغوي، شرح السنة، 7/243.

18. الرسالة، 1/103.

19. العقيدة الطحاوية، 1/64.

20. شرح العقيدة الطحاوية، 1/120.

21. صحيح ابن حبان، 1/185.

22. إعلام الموقعين، 2/282.

23. المرجع نفسه، 1/227.

24. تفسير جزء عم، ص180-181.

25. السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث.

26. حجية السنة، ص390-392.

27. المعجم الكبير للطبراني، 9/426.

28. البيهقي، السنن الكبرى، 3/18.

29. المرجع نفسه، 7/45.

30. الموافقات، 1/340.

31. المرجع نفسه، 4/258.

32. إعلام الموقعين، 3/149.

33. وسطية الإسلام صالح حبيب الله، 1/5.

34. أحكام القرآن، 6/144.

35. الاعتصام، 1/76.

36. المرجع نفسه، 1/90.

37. المرجع نفسه، 1/325.

38. التمهيد، 3/2.

39. إعلام الموقعين، 4/138.

40. المرجع نفسه، 4/139.

41. المرجع نفسه، 4/152.

42. إعلام الموقعين، 1/75.

43. المرجع نفسه، 4/157.

44. المرجع نفسه، 151.

45. صيد الخاطر، 1/214.

46. أزهار الرياض، 1/6.

47. المرجع نفسه. تاريخ بغداد، 3/75.

48. أزهار الرياض في أخبار عياض، 1/6.

49. مدارج السالكين، 3/339.

50. منبع الفوائد ومجمع الزوائد، 1/168.

51. المجروحين، 1/58.

52. موضح أوهام الجمع والتفريق، 1/6.

53. سير أعلام النبلاء، 12/500.

54. تذكرة الحفاظ، 1/4.

55. هذا ديننا.

56. روح المعاني، 12/380.

57. صحيح البخاري، 7/200.

58. البيان والتبيين، 1/505.

59. معجم الأدباء، 1/413.

60. الألباني، سلسلة الأحاديث الضعيفة، 1/8.

61. أزمة العقل المسلم، ص130.

62. المرجع نفسه، ص155.

63. إحياء علوم الدين، 1/44.

64. مشكلات في طريق الحياة الإسلامية.

65. الآداب الشرعية، 2 /56.

66. الفكر السامي.

67. معجم الأدباء، 1/403.

68. تذكرة الحفاظ، 1/4.

69. انظر: فتح الباري، 13/16.

70. ابن سعد، الطبقات الكبرى، 5/89.

71. المرجع نفسه، 5/381. وعمر بن عبد الله كامل، أدب الحوار وقواعد الاختلاف، 1/38.

72. حسام الدين عفانة، فتاوى يسألونك، 6/297.

73. الموسوعة الفقهية، 2/673.

74. سير أعلام النبلاء، 8/98.

75. عائض القرني، الخلاف أسبابه وآدابه، 1/24.

76. مجموع الفتاوى، 20/211.

77. إحياء علوم الدين، 1/86.

78. إعلام الموقعين:  3/110.

79. المرجع نفسه.

80. قواعد الأحكام، 2/305.

81. الرازي، مناقب الشافعي،  ص36. والفقيه والمتفقه، 2/26.

82. قواعد الأحكام، 2/305.

83. ترتيب المدارك، 1/36.

84. المرجع نفسه، 1/138.

85. المرجع نفسه، 1/37 تاريخ دمشق 35/179.

86. المرجع نفسه، 1/36.

87. طبقات الشافعية الكبرى، 2/5.

88. طبقات الحفاظ، 1/13.

89. سير أعلام النبلاء، 10/45.

90. ترتيب المدارك، 1/139.

91. وفيات الأعين، 7/167.

92. ترتيب المدارك1،/197.

93. البيهقي، السنن الكبرى، 9/43.

94. سير أعلام النبلاء، 10/16.  تاريخ دمشق، 14/403.

95. صفة الصفوة، 1/134.

96. سير أعلام النبلاء، 15/554.

97. المرجع نفسه،  14/40.

98. تاريخ بغداد،  12/411. سير أعلام النبلاء، 10/500.

99. سير أعلام النبلاء، 11/371.

100. المرجع نفسه، 5/271.

101. فقه الائتلاف، ص136.

102. المصدر نفسه، ص206.

103. إعلام الموقعين، (3/359).

104. مدارج السالكين، (2/394).

105. المرجع نفسه، (4/352).

106. إعلام الموقعين، (3/110)

107. مفتاح دار السعادة، 1/176.

108. منهاج السنة النبوية، (4/543).

109. القواعد في الفقه 1/1.

د. أحمد أمحرزي العلوي

كلية الآداب/مراكش

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق