مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

صور من وفاء النبي صلى الله عليه وسلم بالعهد في السيرة النبوية

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، محمد وآله وصحبه أجمعين.

وبعد:

تقديم:

      إن من الأخلاق الإسلامية السامية التي يجب على المسلم الاتصاف بها في جميع شؤونه: خلق الوفاء بالعهد، وقد أمر الله عز وجل في عدد من آياته بهذا الخلق الرفيع كقوله تعالى: ( وأوفو الكيل والميزان بالقسط لا تكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فأعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون) ([1])، وقوله تعالى: (وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون) ([2])، بل أشاد بالموفين بعهدهم إذا عاهدوا قال تعالى: (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) ([3]).

كما أشاد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخلق العظيم في عدة أحاديث، وعدَّ  الغدر من خصال المنافقين؛ فعن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا أؤتمن خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر”([4])، وعنه كذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا جمع الله بين الأولين والآخرين يوم القيامة، يرفع لكل غادر لواء، فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان”([5]).

ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة والقدوة الحسنة في الوفاء بالعهد، ومن يتصفح سيرته الطاهرة يجدها حافلة بهذا الخلق الرفيع،وفي هذا المقال أقف وإياكم على بعض الصور الدالة على ذلك، وقبل الشروع في الموضوع ارتأيت أن أعرف بالوفاء بالعهد لغة واصطلاحا، فأقول وبالله التوفيق والسداد:

التعريف اللغوي والاصطلاحي بالوفاء بالعهد:

لغة:

الوفاء ضد الغدر. يقال: وفى بعهده وأوفى بمعنى. ([6])ووفى الشيء وفيا، أي: تم وكثر ([7]).

والعهد لغة: العهد: الأمان، واليمين، والموثق، والذمة، والحفاظ، والوصية. وقد عهدت إليه، أي أوصيته. ومنه اشتق العهد الذي يكتب للولاة. وتقول: على عهد الله لأفعلن كذا([8]).

واصطلاحا:

الوفاء هو: “ملازمة طريق المواساة، ومحافظة عهود الخلطاء”([9]).
وقيل: “هو الصبر على ما يبذله الإنسان من نفسه، ويرهن به لسانه، والخروج مما يضمنه، وإن كان مجحفًا به، فليس يعد وفيا من لم يلحقه بوفائه أذية وإن قلت، وكلما أضر به الدخول تحت ما يحكم به على نفسه، كان أبلغ في الوفاء”([10]).

والعهد هو: حفظ الشيء ومراعاته حالا بعد حال هذا أصله ثم استعمل في الموثق الذي تلزم مراعاته وهو المراد([11])

بعض صور وفاء النبي صلى الله عليه وسلم بالعهد:

   لقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في الوفاء بالعهد؛ حيث إن من يتصفح سيرته الطاهرة يجدها حافلة بما يدل على ذلك؛ ومن صوره: ما فعله مع حذيفة ووالده اللذين جاءا إليه صلى الله عليه وسلم للمشاركة معه في غزوة بدر ،فلم يأذن لهما لعهد كان قد عاهدا به قريشا، فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال:”ما منعني أن أشهد بدراً إلا أني خرجت أنا وأبي حُسيل، فأخذنا كفار قريش، قالوا: إنكم تريدون محمداً، فقلنا: ما نريده، ما نريد إلا المدينة، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة، ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرناه الخبر، فقال: :انصرفا ، نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم” ([12]).

وما فعله كذلك مع أبي جندل بن سهيل، الذي رده إلى والده  بعد عقد صلح الحديبية التي كان من بنودها: أنه من جاء إلى المسلمين من قريش ليسلم رده المسلمون إليهم ؛ إذ جاءه أبو جندل في الحديد قد انفلت إليه صلى الله عليه وسلم قال:” وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا وهم لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع، وما تحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسه، دخل الناس من ذلك أمر عظيم، حتى كادوا أن يهلكوا، فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه، ثم قال: يا محمد قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا، قال: صدقت، فقام إليه فأخذ بتلبيبه، قال: وصرخ أبو جندل بأعلى صوته، يا معاشر المسلمين أتردونني إلى أهل الشرك فيفتنوني في ديني، قال: فزاد الناس شرا إلى ما بهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا جندل اصبر واحتسب فإن الله عز وجل جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا فأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عليه عهدا وإنا لن نغدر بهم” ([13]) 

كما ثبت عنه أنه قال لأبي رافع وقد أرسلته إليه قريش فأراد المقام عنده، وأنه لا يرجع إليهم فقال:  ” إني لا أخيس بالعهد، ولا أحبس البرد، ولكن ارجع إلى قومك، فإن كان في نفسك الذي فيها الآن فارجع([14])

بل كان صلى الله عليه وسلم يوصي أمراءه وقادة جيوشه في غزواتهم باجتناب الغدر فعن سليمان بن بريدة قال: كان رسول الله إذا بعث أميراً على جيش، أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً فقال: “اغزوا بسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلُّوا، ولا تَغدِروا، ولا تُمثِّلوا، ولا تقتلوا وليداً”([15])

    صفوة القول أن الوفاء بالعهد يعد من أعظم الأخلاق التي حث عليها الإسلام وأمر  بها ، وهو من صفات الأنبياء الكرام، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى والقدوة الحسنة في الالتزام به، وعليه فإن المسلم مطالب بالتحلي بهذة الصفة العظيمة، لأنها دليل ظاهر على صدق إيمانه ، وفلاحه في الدنيا والآخرة.   

***************

هوامش المقال:

([1]) سورة الأنعام من الآية: (152).

([2]) سورة البقرة من الآية: (40).

([3]) سورة البقرة من الآية (177).

([4]) أخرجه البخاري في صحيحه (1 /27-28) كتاب: الإيمان، باب: علامة المنافق برقم: (34)، ومسلم في صحيحه (1 /46)، كتاب: الإيمان، باب: بيان خصال المنافق، برقم: (58).

([5]) أخرجه  البخاري في صحيحه (2 /417) كتاب:  الجزية، باب: إثم الغادر للبر والفاجر ، برقم: (3184) ومسلم في صحيحه (2 /830)، كتاب: الجهاد والسير، باب: تحريم الغدر، برقم: (1735) واللفظ لمسلم.

([6]) لسان العرب (6 /625) مادة “وفى”.

([7]) الصحاح (6 /2526) مادة: “وفى”.

([8]) الصحاح (2/ 515) مادة: “عهد”.

([9]) التعريفات للجرجاني (ص: 248).

([10]) الرسالة الوجودية في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: “من عرف نفسه فقد عرف ربه ” لابن العربي (ص: 146).

([11]) التعريفات للجرجاني (ص: 161).

([12]) صحيح مسلم (2 /860)كتاب:الجهاد والسير، باب:  الوفاء بالعهد، برقم: (1787).

([13]) مسند أحمد (14/ 308) وهو جزء من الحديث الطويل في صلح الحديبية.

([14]) أخرجه أبو داود في سننه (4/ 387) كتاب: الجهاد، باب: في الإمام يستجن به في العهود برقم: (2758) والبيهقي في سننه (9 /145) وقال الألباني في السلسلة الصحيحة: صحيح الإسناد.  (2 /315-316 ) برقم: (702) .

([15]) صحيح مسلم (2 /828)، كتاب: الجهاد والسير ، باب: تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها برقم: (1731).

***************

لائحة المصادر والمراجع المعتمدة:

التعريفات. لعلي بن محمد بن علي الجرجاني. دار الكتب العلمية بيروت لبنان. ط1/ 2013م.

الجامع الصحيح. أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، قام بشرحه وتصحيحه وتنقيحه: محب الدين الخطيب، ورقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، وراجعه وقام بإخراجه وأشرف على طبعه: قصي محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية القاهرة. ط 1/ 1400م.

الرسالة الوجودية في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: “من عرف نفسه فقد عرف ربه” لمحيي الدين محمد علي ابن عربي الحاتمي. دار الكتب العلمية بيروت 2007م.

سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها. لمحمد ناصر الدين الألباني. مكتبة المعارف الرياض. 1415هـ-  1995م.

سنن أبي داود. لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني. حققه وضبط نصه وخرج أحاديثه وعلق عليه: شعيب الأرنؤوط- محمد كامل قروبللي. دار الرسالة العالمية دمشق. 1430هـ- 2009مـ.

السنن الكبير (م9). لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي. حقق هذا الجزء وعلق عليه: محمد عادل القدوسي- محمد طه الندوي- أحمد الله الندوي- هاشم الندوي- عبد الرحمن المعلمي اليماني. دار النوادر  الكويت ط1/1434هـ- 2013م.

الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية. لإسماعيل بن حماد الجوهري. تحقيق: أحمد عبد الغفور  عطار. دار العلم للملايين بيروت. ط3/ 1404هـ- 1984م.

صحيح مسلم. وفي طليعته: غاية الابتهاج لمقتفي أسانيد كتاب مسلم بن الحجاج للزبيدي. دار طيبة. الرياض. ط1/ 1427هـ-2006م.

لسان العرب. لجمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور. دار الفكر  بيروت. 2015م.

مسند أحمد. لأحمد بن محمد بن حنبل. شرحه وصنع فهارسه: حمزة أحمد الزين. دار الحديث القاهرة ط1/1416هـ- 1995م.

راجع المقال الباحث: يوسف ازهار

Science

دة. خديجة أبوري

  • أستاذة باحثة مؤهلة بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق