مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

صناعة الفتوى: الأهلية الأخلاقية للمفتي

تعتبر الفتوى أحد المناصب الدينية الأكثر خطورة وأهمية نظرا لكون المفتي موقعا عن الله تعالى ومبينا لأحكامه، فالمفتي -كما قال الإمام الشاطبي- قائم في الأمة مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو خليفته ووارثه “العلماء ورثة الأنبياء”، وهو نائب عنه في تبليغ الأحكام، وتعليم الأنام، وإنذارهم بها لعلهم يحذرون، وهو إلى جوار تبليغه في المنقول عن صاحب الشريعة.. قائم مقامه في إنشاء الأحكام في المستنبط منها بحسب نظره واجتهاده فهو من هذا الوجه – كما قال الشاطبي – شارع، واجب اتباعه، والعمل على وفق ما قاله، وهذه هي الخلافة على التحقيق.[1]

ويقول ابن القيم: “إذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله، ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات؟!”[2]

يقول الإمام النووي -رحمه الله- في مقدمة كتاب المجموع شرح المهذب: “اعلم أن الإفتاء عظيم الخطر،‏ كبير الموقع،‏ كثير الفضل؛‏ لأن المفتي وارث الأنبياء ‏‏-صلوات الله وسلامه عليهم‏-‏ وقائم بفرض الكفاية ولكنه معرض للخطأ‏؛ ولهذا قالوا:‏ المفتي موقع عن الله تعالى”.[3]

 ومما زاد الأمر تعقيدا هو التطور العلمي المذهل، وتعدد حاجات الناس المستمرة وكثرة الوقائع المستجدة مع شبه غياب لمؤسسات شرعية تؤطر هذا المجال الحساس وتراقبه من كل دخيل ومنتحل ومدعي وكل من لا خلاق له اتخذ من هذا المنصب حرفة يسترزق منها أو يبني أمجاد نفسه الخداعة، هؤلاء الذين اقتحموا هذا المجال فضلوا وأضلوا يجعلنا نتساءل عن المحددات الأخلاقية للفتوى والمفتين لضمان حماية هذا المجال من أي دخيل وفق رؤية شرعية صارمة وحازمة مع مراعاة المقاصد الشرعية.

وسنحاول في هذا الموضوع دراسة الأسس الأخلاقية للفتوى، عند الإمام مالك، والشروط الأخلاقية الواجب توافرها في المفتي باعتباره موقعا عن الله تعالى، تكمن أهمية دراسة صناعة الفتوى، في جانبها الأخلاقي أن العديد من العلماء المتقدمين وحتى المتأخرين أفردوا أبوابا وكتبا ومؤلفات خاصة تتناول أدب الإفتاء، والأهلية الأخلاقية الواجب توفرها في المفتي حتى يكون أهلا للإفتاء ومحلا للإقتداء، فمن أوائل الكتب: كتاب أدب المفتي والمستفتي للشيخ أبي القاسم عبد الواحد بن الحسين الصيمري الشافعي ت 386هـ وتأتي كتب الخطيب البغدادي ت 463هـ في هذا المجال منها كتاب الفقيه والمتفقه، وكتاب تقييد العلم، وكتاب الجامع وغير ذلك، ومن الكتب المهمة في هذا المجال كتاب ادب المفتي والمستفتي لابن الصلاح، ت643هـ وكتاب صفة الفتوى والمستفتي للإمام أحمد بن حمدان الحراني الحنبلي، ت695هـ وآداب الفتوى للشيخ محمد بن محمد المقدسي ت 808هـ وأدب الفتيا لجلال الدين السيوطي ت911هـ وغيرها كثير.

من المعلوم أن الفقيه لا يكون فقيها حتى تتوفر فيه الأهلية العلمية، من تمكن في العلم الذي يفتي فيه  على التمام والكمال، ويجيزه أهله المختصين به، حتى يستطيع أن يفتي، لكن لابد من توفر شرط آخر وهو شرط نبه عليه مجموعة من العلماء خصوصا الإمام مالك رحمه الله، ألا وهو الأهلية الأخلاقية، حيث يتم ربط الفتوى بالمسؤولية الأخلاقية للمفتي، حتى لا تكون الفتوى صادرة عن محض الشهوة والهوى وإرضاء الغير، أو الخوف من ذي منصب أو التقرب إلى البعض، إلى غيرها من الآفات، وفي ذلك يقول الإمام مالك: “إذا سألك إنسان عن مسألة فابدأ بنفسك فأحرزها”.[4] ويقول أيضا: “من أحب أن يجيب عن مسألة فليعرض نفسه قبل أن يجيب على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة ثم يجيب”.[5]

لذلك نجد العلماء الربانيين كثيرا ما يتأملون في المسائل الليالي الطوال، بل والسنوات عسى أن يهتدوا إلى الجواب الذي يطمئنون إليه، ويبحثون عن دليله، ويقلبون وجوه النظر حتى لا يفتوا عن غير علم ولا سلطان مبين، ولا يتسرعون في الجواب، ولا يضرهم أن يقال فيهم فلان تأخر في الجواب، عكس ما نجده اليوم في قنواتنا من فتاوى مباشرة في كل المسائل وبسرعة كبيرة، وربما يفتي البعض بفتاوى غريبة وشاذة حتى لا يقال في حقه إنه لا يدري أو يتأخر في جوابه وكأنها نقيصة.

قال ابن وهب: سمعت مالكا يقول: “العجلة نوع من الجهل والخرق، وكان يُقال: التأني من الله، والعجلة من الشيطان”.[6]

قال ابن عبد الحكم: كان مالك إذا سئل عن المسألة قال للسائل: “انصرف حتى أنظر فيها فينصرف ويتردد فيها، فقلنا له في ذلك فبكى وقال: إني أخاف أن يكون لي من المسائل يوم وأي يوم”.[7]

وقد “سأله آخر فلم يجبه، فقال له: يا أبا عبد الله أجبني!

فقال: ويحك! أتريد أن تجعلني حجة بينك وبين الله؟ فأحتاج أنا أولا أن أنظر كيف خلاصي، ثم أخلصك”.[8]

وقال عبد الرحمن العمري: “قال لي مالك: ربما وردت علي المسألة تمنعني من الطعام والشراب والنوم”.[9]

وقال سحنون: “قال مالك يوما: اليوم لي عشرون سنة أتفكر في هذه المسألة”.[10]

وكان العلماء شديدي الحرص على توريث هذه المعاني والأخلاق لتلامذتهم لما فيها من صلاح أمر دينهم والنجاة في آخرتهم، وكانوا دائما يرددون أقوال شيوخهم، حتى يتعودوا على أخلاقيات الفتوى، كما يستدلون بآثار السلف لتأكيد ذلك وغرسه في نفوس ووجدان تلامذتهم، والأمثلة على ذلك كثيرة، فعن نافع عن ابن عمر أنه سئل عن شيء فقال: لا أدري، فلما ولى الرجل قال: نعما قال عبد الله بن عمر سئل عما لا يعلم فقال: لا علم لي”.[11]

وعن عقبة بن مسلم قال: “صحبت ابن عمر أربعة وثلاثين شهرا فكثيرا ما كان يُسأل فيقول: لا أدري، ثم يلتفت إليَّ فيقول: تدري ما يريد هؤلاء؟ يريدون أن يجعلوا ظهورنا جسرا لهم إلى جهنم”.[12]

 وعن مجاهد قال: سُئل الشعبي عن شيء فقال: لا أدري فقيل له: أما تستحي من قولك لا أدري وأنت فقيه أهل العراقين؟! قال: لكن الملائكة لم تستحي حين قالت: {سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا} [البقرة/ ]”.[13]

وكان ابن عجلان يقول: “إذا أخطأ العالم لا أدري أصيبت مقاتله، وقد روى هذا الكلام عن ابن عباس رضي الله عنهما”.[14]

وقال مالك: “سمعت ابن هرمز يقول: ينبغي أن يورث العالم جلساءه قول لا أدري، حتى يكون ذلك أصلا في أيديهم يفزعون إليه، فإذا سئل أحد عما لا يدري، قال: لا أدري.[15]

وعن أبي بكر بن الأثرم قال: “سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يُستفتى فيكثر أن يقول: لا أدري”.[16]

كما أن الإمام مالك يربي تلامذته على عدم التسرع في الفتوى والحرص على الجواب، دون استحضار العديد من الأمور، لعل أخطرها الرقابة الإلهية، وهي حصن حصين وصمام الأمان لمن يريد النجاة، حتى أن العديد منهم يودوا لو يجدوا من يكفيهم أمر الفتوى، فعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول. وفي رواية ما منهم من يحدث بحديث، إلا ود أن أخاه كفاه إياه، ولا يستفتى عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا.[17]

 وروى ابن وهب أن رجلا جاء: “يسأل مالكا عن مسألة فبادر ابن القاسم فأفتاه، فأقبل عليه مالك كالمغضب وقال له: جسرت على أن تفتي يا عبد الرحمن؟ يكررها عليه، ما أفتيت حتى سألت هل أنا للفتيا موضع؟ فلما سكن غضبه قيل له من سألت؟ قال: الزهري وربيعة الرأي.[18]

وقد جاء رجل إلى مالك بعد صلاة الصبح، وكان مالك لا يتكلم حتى تطلع الشمس فجلس الرجل ما شاء الله ثم قام ليذهب فقال له ابن دينار: “ما شأنك؟ فأخبره. فأفتاه ابن دينار، فلما انفتل مالك، قال: “يا محمد! تفتي؟ قال: أصلحك الله لم يطمع الرجل فيك وقام ليذهب، فخشيت أن يذهب بجهالة فأفتيته بما أعلم من مذهبك. فقال له مالك: عجلت”.[19]

كما يشترط في المفتي أن تكون أفعاله مطابقة وموافقة لأقواله، حتى لا يكون من الذين قال عنهم الحق سبحانه {كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} [الصف/3] وقوله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} [البقرة/44] وتمكن أهمية هذا الشرط في أن المفتي محل للتأسي والاقتداء، لأنه كما أسلفنا قائم مقام النبي صلى الله عليه وسلم ونائب منابه، فهذه المكانة والمقام ليس فقط من أجل البيان والإعلام للغير، فذلك أمر ظاهر كما قال الشاطبي، وإنما يتعداه إلى غيره وذلك من وجهين: أحدهما: أنه وارث، وقد كان المُورِّث قدوة بقوله وفعله مطلقا، فكذلك الوارث وإلا لم يكن وارثا على الحقيقة، فلابد من أن تنتصب أفعاله مقتدى بها كما انتصبت أقواله. والثاني: أن التأسي بالأفعال بالنسبة إلى من يعظم في الناس سر مبثوث في طباع البشر، لا يقدرون على الانفكاك عنه بوجه ولا بحال لاسيما عند الاعتياد والتكرار وإذا صادف محبة وميلا إلى المتأسي به، ومتى وجدت التأسي بمن هذا شأنه مفقودا في بعض الناس فاعلم أنه إنما ترك لتأس آخر، وقد ظهر ذلك في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم.[20]

وهذه الحقيقة يغفل عنها الكثيرون خصوصا في هذا العصر، فتجد وسائل الإعلام باختلاف اتجاهاتها وألوانها ومذاهبها تتبع خطوات المشاهير بما فيهم رجال الدين وإن كانوا لا يشعرون، فكم من داعية ومفتي تربصوا به وتصيدوا مثالبه وهفواته وشهروه فسقط في أعين الناس، فليكن الداعي والمفتي أحرص على الاستقامة واجتناب كل ما من شأنه أن ينفر الناس عنه باعتباره قدوة ونموذجا يحتذى به، لذلك نجد الشاطبي يحث المفتي المنتصب للفتوى على ضرورة موافقة أفعاله لأقواله، وأن يحافظ على أفعاله حتى تجري على قانون الشرع ليتخذ فيها أسوة.[21]

[1] الموافقات، 867-868.

[2] إعلام الموقعين، 1/ 16-17.

[3] المجموع شرح المهذب، 1/ 467.

[4] ترتيب المدارك، 1/ 153.

[5] ترتيب المدارك، 1/ 151.

[6] الآداب الشرعية، لابن مفلح، 2/ 65.

[7] ترتيب المدارك، 1/ 151.

[8] ترتيب المدارك، 1/ 153.

[9] ترتيب المدارك، 1/ 151.

[10] ترتيب المدارك، 1/ 152.

[11] جامع بيان العلم، 2/ 834-835.

[12] جامع بيان العلم، 2/ 841.

[13] الفقيه والمتفقه، 2/ 370.

[14] الفقيه والمتفقه، 2/ 366-367، وجامع بيان العلم، 2/ 839-840.

[15] الفقيه والمتفقه، 2/ 367.

[16] الفقيه والمتفقه، 2/ 371.

[17] المجموع، 1/ 467-468.

[18] ترتيب المدارك، 1/ 142.

[19] ترتيب المدارك، 1/ 390.

[20] الموافقات، 869-870.

[21] الموافقات، 871.

Science

د.مصطفى بوزغيبة

باحث بمركز الإمام الجنيد التابع للرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق