مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

صناعة الإنسان: من أجل تحقيق الأمان وتطوير الأوطان

مقدمة:

يعد موضوع صناعة الانسان من المواضيع التي تشغل بال الانسانية جمعاء، وهو موضوع قديم جديد، بحيث أن الكل يدرك أن الاستثمار في المصادر البشرية هو الوسيلة الأمثل والأنجع لكسب رهان التنمية، والكل يعي وعيا تاما لا مراء فيه، أن صناعة الانسان هي مطلب أساسي وجوهري في الرقي والازدهار، وأن تربع الأمة على عرش القمة والريادة الحضارية لا يكون إلا بالتحقيق الأمثل لهذا الرهان، ولن يتأتى ذلك إلا بصون الأمة لنموذجها المتكامل والمتوازن بين الروح والجسد بين الظاهر والباطن، لأن هذا الانسان ما هو إلا صناعة ربانية، خلق رباني، وجد لأداء رسالة ربانية وهي الاستخلاف في الارض وعمارتها، ولا يوجد من هو مؤهل لسر هذه الصناعة الراشدة إلا الوحي المتمثل في الكتاب المجيد والسنة النبوية من خلال الواقع العملي التربوي.

من خلال هذا نتساءل ما هو نموذجنا الذي نريد؟ وعلى أي أساس يصنع الانسان؟ وماذا سنقدم لهذه البشرية المتعطشة للسلم والسلام والأمن والأمان؟ النماذج الحضارية الآن قد أفلست لأنها صنعت الانسان صناعة مادية صرفة، بحيث يعيش جفافا روحيا مهولا، ولا يزيده هذا التقدم المزعوم إلا قلقا واضطرابا، والعجيب أن الأمم تلهث وراء هذا النموذج الزائف منبهرة به ومستلبة دون وعي، تاركين النموذج الأمثل والذي يمثل الوحدة القياسية في صناعة الانسان ألا وهو المنهج التربوي النبوي، وفي هذه الورقة سنحاول تقديم بعض الاطلالات حول منهج التربية النبوي في صناعة الانسان، وقد قسمت هذا الموضوع إلى محورين:

المحور الأول مفهوم الصناعة:

المحور الثاني: نماذج من منهج صناعة الانسان في التربية النبوية:

والله ولي التوفيق.

المحور الأول مفهوم الصناعة:

صنع: صنعه يصنعه صنعا فهو مصنوع وصُنع: عمله.

اصطنعه: اتخذه، وقوله تعالى: (واصطنعتك لنفسي) [طه/41] تأويله: اخترتك لإقامة حجتي وجعلتك بيني وبين خلقي حتى صرت في الخطاب عني والتبليغ بالمنزلة التي أكون أنا بها لو خاطبتهم واحتججت عليهم، وقال الأزهري: أي ربيتك لخاصة أمري” [1].

والاصطناع: افتعال من الصنيعة وهي العطية والكرامة والإحسان.

وقوله تعالى: (ولتصنع على عيني) [طه/39] قيل: معناه لتُغذّى، قال الأزهري: “معناه لتربى بمرأى مني. يقال: صنع فلان جاريته إذا رباها”،[2] وفلان صنيعة فلان وصنيع فلان إذا اصطنعه وأدبه وخرّجه وربّاه. ويقال صانعت فلانا أي رافقته [3].

فمن معاني “صنع” من خلال ما سبق: العمل، والعطية، والكرامة، والإحسان، والتربية، والتأديب، والمرافقة الدالة على المصاحبة، وهي كلها مصطلحات تدخل في باب التزكية والتربية.

يقول الطاهر بن عاشور في تفسيره: (والصنع: مستعار للتربية والتنمية، تشبيها لذلك بصنع شيء مصنوع، ومنه يقال لمن أنعم عليه أحد نعمة عظيمة: هو صنيعة فلان” [4].

وهذه المعاني إذا تأملناها في السياق القرآني تعطينا دلالة واضحة على معنى التربية والتزكية في أجل صورها وأكمل معانيها، يقول الراغب الأصفهاني في كتابه المفردات في غريب القرآن: “صنع: الصنع إجادة الفعل، فكل صنع فعل وليس كل فعل صنعا، (…) قال تعالى: (صنع الله الذي أتقن كل شيء) [النمل/88] (…) والاصطناع: المبالغة في إصلاح الشيء، وقوله تعالى: (واصطنعتك لنفسي) [طه/41] (ولتصنع على عيني) [طه/39] إشارة إلى نحو ما قال بعض الحكماء: إن الله تعالى إذا أحب عبدا تفقده كما يتفقد الصديق صديقه” [5].

فمن خلال هذه المعاني فإن الصناعة تقتضي الاتقان الدقيق، وإتمام الشيء على أكمل صورة وأحسن هيئة، ولا شيء أبدع من صناعة الإنسان، ليس الهيكل الخارجي فقط، لأنه من الأمور المعلومة بالضرورة، ولكن من حيث بناؤه الروحي والنفسي والعقلي، وهذا هو المقصود والمرغوب لأن قياس تقدم الأمم يبنى على مدى تكامل هذه العناصر الأساسية في الإنسان، وكما هو معلوم فعند صناعة أي منتج جديد ولاسيما إذا كان بالغ التعقيد، لابد للشركة المنتجة من مصاحبة هذا المنتج بكتاب للتعليمات يوضح خصائص هذا المنتج وأهم ميزاته وصلاحياته، والأمور التي يجب تجنبها لدوام بقائه سليما، كلها معلومات عامة وأساسيات لابد منها، وفي الوقت نفسه ترسل خبراء يعرفون التفاصيل الدقيقة، وكل المعطيات حول هذا المنتج وفي حالات توقفه عن العمل أو عدم فاعليته وكيفية رده إلى مساره الطبيعي إلى غيرها من الأمور، فكذلك الشأن بالنسبة للإنسان الذي هو هندسة معقدة، فقد أرسل الله تعالى الصانع الحكيم بكتابه الذي هو القرآن الكريم يوضح المنهج العام لسلوك الإنسان على وجه الأرض، وأرسل رسله الذين هم بمثابة خبراء تترى، وختمهم بخاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم، وحمل هذه الصنعة من بعده من الوراث الربانيين، ما يجعل هذه الصنعة مستمرة  ممتدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، كل ذلك من أجل مواكبة هذا الإنسان ومصاحبته والعمل على تأدية رسالته التي جاء لأجلها في هذا الوجود، فهو ليس جسدا ينموا وضميرا يخفوا، بل هو روح تعلو، وإلا كانت الصناعة المنشودة خرجت عن السيطرة، وخرقت منهج الصناعة القويمة، لأن العلم ليس وحده الكافي بتخريج إنسان سوي مطابق للنموذج الذي وضعه الصانع الحكيم المتمثل في الرسل الكرام و من بعدهم من الورّاث الربانيين.

وخلاصة هذا المحور أن مفهوم الصناعة هي مفهوم أصيل في الثقافة الإسلامية ويعني تربية الإنسان وتوجيهه والعمل على تزكيته وترقيته في مراقي الكمال والاستقامة على يد مرب مأذون ماهر خبير بتربية النفوس وتهذيبها.

المحور الثاني: نماذج من منهج صناعة الإنسان في التربية النبوية

هذا المحور يحتاج إلى دراسات وأبحاث تستخرج درره ومكنوناته، لأنه يكشف أسرار منهج الصناعة، وأفضل نموذج وأكمل مثال هو الصناعة النبوية لجيل من الصحابة الكرام، كل واحد منهم يعدل مدرسة قائمة بحد ذاتها.

وفي هذا المحور سنتحدث عن أربعة نماذج مستقاة من الهدي النبوي الشريف.

  • النموذج الأمثل: فالنبي صلى الله عليه وسلم يربط صحابته الكرام بذاته الشريفة، يربطهم بالنموذج الأمثل الذي يمثل وحدة القياس، يكون المرجع والأساس، فمن رحمة الله تعالى بنا أنه لم يترك سر هذه الصناعة في الكتاب فقط، وإنما جلاه لنا في في الجانب العملي التطبيقي فأشخص لنا الأنبياء والرسل الكرام، وأشخص لنا خاتمة الرسل الكرام سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم، ليكون هو الوحدة القياسية في المجال البشري، هؤلاء الذين يريدون أن يضطلعوا بوظيفة الصناعة لهم مرجع لهم وحدة قياسية في حالة السواء، يشبه تماما علم الطب، على اعتبار أن الطب هو العلم بالجسد حالة السواء، وبطريقة عمل أعضائه في حالة السواء، ثم بعد ذلك يقفون على حالات الاختلال ثم في الأخير يحاولون ارجاع حالات الاختلال إلى حالات السواء، فحين يفتقر الانسان إلى حالة السواء في المجال البشري يكون هناك خلل واضطراب، ولذلك فمن لطف الله تعالى أن حمى هذه الوحدة القياسية للبشر، (قُلْ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰٓ إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ) [فصلت/6]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا عبد أكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد) لكي يبقي هذا النفاذ للوحدة القياسية، وقد ورث العلماء الربانيون وشيوخ التربية الصوفية هذه الوحدة القياسية وتجلت فيهم لتستمر هذه الصناعة وتمتد في الأمة، ولتكون دائما مرجعا ونموذجا ترجع إليها الأمة.
  • اتقان العمل: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه)، وهو بذل الجهد واستفراغ الجهد في العمل وفي العلم وفي كل شيء فيه منفعة ورقي وازدهار، حتى يكون على أكمل صورة وأجود إتقان، لذلك نجد الصحابة الكرام عملوا بهذا المقتضى وضربوا لنا أروع الأمثلة في باب اتقان العمل، ولا أدل على ذلك ما فعله سيدنا أبو بكر من توفير الحماية للنبي صلى الله عليه وسلم في مراحل الهجرة النبوية، وكذا وفي المقابل هناك نموذج لعدم اتقان العمل وما سببه من عواقب وخيمة على الأمة من قبيل عدم ثبات بعض المحاربين في جبل أحد لما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم فكان سببا في انقضاض المشركين على المسلمين.
  • عدم التقليد: بنى النبي صلى الله عليه وسلم الإنسان ووجهه نحو البحث في جوهر الإنسان وفي مكنونه، كل وما يحمله من طموحات وقدرات ومؤهلات يستثمرها فيما ينفع نفسه أولا ثم أسرته ومجتمعه والرسالة الكونية جمعاء، ولم يكن منهج التربية مبنيا على إعداد نماذج مستنسخة أو بناء قوالب جامدة على نمط واحد محدد، بل أعطى المجال الأرحب والأوسع للإنسان حتى يبدع ويبتكر ما يجلب السعادة والرفاهية دون أن يقيده ما لم يصب إثما أو يجترئ على ما تم تحريمه ومنعه من قبل الشرع الحكيم.
  • تكامل الجوهر الانساني: بنى النبي صلى الله عليه وسلم الانسان بناء متكاملا من خلال توجيه النفس البشرية نحو البحث في جوهرها ومكنونها، لاستخراج ما يحمله الانسان من طموحات وقدرات ومؤهلات يستثمرها فيما ينفع نفسه أولا ثم أسرته ومجتمعه والرسالة الكونية جمعاء، ولم يكن منهج الصناعة مبنيا على إعداد نماذج مستنسخة أو بناء قوالب جاهزة جامدة على نمط واحد محدد، بل أعطى المجال الأرحب والأوسع للإنسان حتى يبدع ويبتكر ما يجلب السعادة والرفاهية دون أن يقيده مالم يصب إثما أو يجترئ على ما حرمه الشرع كما في قصة بعث سيدنا معاذ بن جبل، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم له عندما قال له: (أجتهد رأيي ولا آلو) في حالة عدم وجود الحكم في الكتاب ولا السنة، وهذا لا يعني عدم الاستفادة من تجارب الآخرين والتركمات المعرفية الرائدة، بل لابد من الانفتاح على التصميمات التي يصنع بحسبها الإنسان، أو بالتعبير القرآني (التعارف) (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) [الحجرات/13]، فهذا سلمان الفارسي رضي الله عنه إيمانا منه بهذه القضية وضع فكرة حفر الخندق في معركة الأحزاب، ولم تكن معروفة حينها عند العرب، لكنها صنعت مجرى آخر للمعركة انتهت بهزيمة الكفار.
  • التأمل للمستقبل: إن من مقتضيات البناء الإنساني هو التشوف إلى المستقبل، مستقبل الإنسانية مستقبل الدفع بهذه الدعوة إلى الكونية وعدم القصور والتقوقع في مجال معين وضيق، وإن كان عمر الإنسان لا يكفي لتحقيق هذه المرامي إلا أن العمل على مشروع حضاري متوازن ومتسق تجعل من الفكرة الإنسانية ممتدة الأفق متحررة من قيود الزمان والمكان تسري بسلاسة من جيل إلى جيل حتى تتسق مع الظروف المواتية لها فتتحقق تحققا لا مراء فيه بناء على أن الفكرة التي خرجت من رحم يشع ربانية ورحمة فياضة، ولا أدل على ذلك في غزوة الأحزاب حينما يحفر النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام الخندق في ظرف عصيب وهو: تحزب جموع الكفار واجتماعهم لوأد الدعوة المحمدية، والسياق سياق بحث عن خلاص، والتشوف إلى الانعتاق من المحنة العظيمة التي ألمت بالمسلمين من كل صوب (إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ) [الأحزاب/10-11] لكن في خضم هذا الكرب الشديد يضرب النبي صلى الله عليه وسلم الصخرة التي اعترضت المسلمين بفأسه فتنقدح شرارة من الصخرة، فيقول عليه الصلاة والسلام: (الله أكبر أُعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قُصورها الحُمْرَ من مكاني هذا، ثم يقول بعد الضربة الثانية: الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأُبصر قصر المدائن الأبيض الآن، ثم يقول بعد الضربة الثالثة: الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر باب صنعاء من مكاني هذا الساعة)[6]كل ذلك ليفتح باب الأمل الذي يحتاجه الصحابة ومن أتى بعدهم لهذا الأفق الرحب، ولتصنع أجيال تأمل تحقيق هذا الإنجاز العظيم.

خاتمة:

إن مفهوم الصناعة مفهوم أصيل ومتجذر في الحضارة الإسلامية، يشير الاستعمال اللغوي والسياق القرآني إلى معاني التربية والتزكية والاحسان والاتقان، مما يؤكد أهمية الجانب الروحي والتزكوي في صناعة الانسان خصوصا في حاضرنا اليوم.

إن الأمة الإسلامية اليوم بحاجة ماسة إلى إعادة صياغة نموذجها الحضاري الريادي المبني على التكامل والتوازن في الجانب الروحي بالأساس وعلى الجانب العقلي والنفسي، وأن لا تتهافت وراء نماذج حضارية مغرقة في المادة، وهذا ل يعني أبدا عدم الاستفادة من الخبرات والتجارب للحضارات القائمة.

إن صناعة الانسان يجب أن تكون وفق هاديات الوحي المتمثل في الكتاب والسنة النبوية المشخصة في النموذج الأكمل ألا وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ومن تبعه من الوُرَّات الربانيين الحاملين لسر الصنعة الربانية.

إن منهج الصناعة هو منهج دقيق ومتكامل يستهدف جوهر الانسان ومكامنه الروحية لتتسق مع النموذج الأكمل والوحدة القياسية ألا وهي النبي صلى الله عليه وسلم، كما أن هذا المنهج ينفذ إلى أعماق الانسان، بحيث يحفزه على تجويد عمله واتقانه اتقانا تاما كاملا، مستثمرا قدراته ومؤهلاته وإبداعاته المنضبطة بالشرع الحكيم وبالأخلاق الحسنة لما فيه خير للإنسانية جمعاء من أجل مستقبل مشرق يهدف إلى نشر الرحمة والتسامح والمحبة في الكون.

الهوامش :

[1] – لسان العرب، كتاب العين، فصل الصاد المهملة، 8/248

[2] – تهذيب اللغة، الأزهري، باب العين والصاد مع النون، 2/38.

[3]- لسان العرب، كتاب العين، فصل الصاد المهملة، 8/252، وتهذيب اللغة، الأزهري، باب العين والصاد مع النون، 2/38.

[4] – التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، المجلد: 7، ج:16/218.

[5] – المفردات في غريب القرآن، لأبي القاسم الحسين بن محمد الراغب الأصفهاني، مكتبة نزار مصطفى الباز، 2/376.

[6]- الروض الأنف، 3/445.

 

Science

د.مصطفى بوزغيبة

باحث بمركز الإمام الجنيد التابع للرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق