مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات محكمة

شَبكة الإسناد التركيبية في بعض الآيات القرآنية الطويلَة

يُسْتَوْفَى المَعْنى بكثرة القُيود والتفريعات التي يُؤتى بها في الكلام لاستيفاء المَعْنى:

علومُ الآلَة الأولى (نحو وصرف وإعراب وبلاغة ومَعانٍ ومُعجَم) روعِيَ في تأليفِ مُصنفاتِها مُلاءمَتُها لمَبْنى الطباعِ ومُناسبتُها لفطرة المتكلم العربي الفَصيحَة، وعلى الدَّرس اللغويّ المُعاصر في بلادِ العَرَب أن يَقصدَ إلى هذه الغايةِ الشريفَة فيبنيَ أصولَ العلمِ في النفوسِ حتّى تستقرَّ في القُلوب، فتعليمُ أصول العلم أولى من نَبْذِه وراءَ رُكام الفلسفة والتنظير والموازنات التي لا تُقيمُ في النفوسِ بناءً مَتيناً

ولا سبيلَ إلى فهم معاني القُرآن الكريم وأحكامه إلا بعلوم الآلَة ومنها النحو ومعرفة البنية التركيبية للعبارات

ما أروع وظيفة التقييد التي تحدثها حروف الجر والظروف والمبهمات وكل العناصر اللغوية الوظيفية التي تحدث معنى في غيرها. ولولا وظيفة التقييد ما تكاثرت جملٌ ولا تفرعت فروع تركيبية من أصول إسنادية….

وظيفة التقييد في أشباه الجُمَل:

فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [المؤمنون: 19]

وظيفةُ القُيود: الجَوارُّ والمَجروراتُ أو أشباه الجُمل، قُيودٌ على الإطلاقِ في الحَدَث الذي في الأفعال أو ما يُشبه الأفعالَ:

لكم به: حَرْفَا الجرِّ متعلقان بالفعل أنشأ ومُقيِّدانَ لَه، من نَخيلٍ: الجارُّ متعلق بصفةٍ للنخيل ومُقيِّدٌ لها.

لَكُمْ فيها: متعلقان بخبر مُقدَّم ومُقيِّدان لَه، والفواكهُ الموصوفَةُ مبتدأ مؤخَّر

منها: متعلِّق بالفعل المتأخّر تأكلون ومُقيِّد له.

وتأتي مُقيِّداتٌ أخرى على سبيل التخصيص كالعَطف: وأعناب، وكالنعت: كثيرة.

عندَما نقول: دخلَت الجوارُّ وغيرُها من المُخصِّصاتِ مُقيِّداتٍ للإطلاق والعُموم، فكأنّنا نُقدِّرُ تلك الأحداثَ المُطلقةَ قبل التَّقييد: “أنشأنا جناتٍ”، ثُمّ دَخَلَت وتَوالَت القُيود فازدادَ المعنى تَكاثُراً وبَياناً وتفصيلاً ورَفعاً لِلَبْسِ العُمومِ والإبهام

وظيفةُ تَقييد الإسناد:

كلَّما تَفرَّع المَعْنى وتعدَّدَت شُعَبُه ومسالكُه، احتيجَ لبيانِ ذلكَ إلى قُيودٍ تَركيبيةٍ على الإسنادِ تَكونُ مُطابِقةً للتفريع الدّلاليّ؛ فيتفرَّعُ الإسنادُ وتَتشعَّبُ العَواملُ والمعمولاتُ في التركيب، وقَد يَطولُ الكلامُ ويبتعدُ صدرُ الكلامِ عَن عَجُزه، فتتعدَّدُ وسائلُ ربط آخرِ الكلامِ بأولِه، وتُقاسُ قُدرةُ التركيبِ على التفريع والتَّمديد بقُدرة العاملِ الرئيسِ أو صدرِ التركيبِ على التأثيرِ في معمولاتِه، ومن الشواهدِ على طولِ الجُمَلِ والتراكيبِ، ممّا يَحتاجُ إلى عنايةٍ كبيرةٍ بالروابطِ ومُراقبةٍ لوصول العواملِ إلى مَعمولاتها قولُه تعالى:

«يا أيُّها الذينَ آمَنوا لا تَتَّخِذوا الذينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا ولَعِبًا مِنَ الذينَ أوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ والكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ» المائدة:57

تُعدُّ هذه الجُملةُ الطويلةُ ذاتُ الفروعِ الإسناديّةِ الكثيرةِ تفصيلاً واستئنافاً وتأكيداً لمَضمونِ مَعْنى آيةٍ سبَقَتها: «يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا اليهودَ والنَّصارى أولياءَ» المائدة:51.

ولمّا كانَ مَعْنى الآيَة تَحذيرَ المُسلمينَ مِن مُوَالاة أهلِ الكتاب والكُفارِ فقَد جاءَت مُفصَّلةً، واقتضَى تَعليلُ موجِبِ النهيِ أن يُعدَلَ عن اسمِ المحَذَّرِ منهم إلى ذكْرِ صفاتِهم وأفعالِهم (الّذينَ اتّخذوا دينَكم هُزؤاً ولَعباً) التي بسببِها حُذِّرَ المُسلمونَ من موالاتِهم وهي النَّيْل من دينِهم الذي هُو عصمَةُ أمرِهم، فَعدلَ عن أسلوبِ التصريحِ بهم إلى أسلوبِ الموصول والصلة.

نَعودُ إلى الآيةِ 57 من سورة المائدَة، للتعرف إلى مفاصلها التركيبية وعلاقات أجزائها بعضها ببعضٍ؛ فالآية عبارةٌ عن جملة مؤلَّفَة من فعل وفاعل (لا تَتَّخذوا) ومَفعول أول (اسم الموصول وصلته) ومفعول ثان (أولياءَ) وقد اجتمَعَت الكثافةُ الدلاليةُ في الموصول وصلته، ولم تمنعْه المفعوليةُ أن يَكونَ بؤرةً في الكلامِ مُفَصَّلاً فيه لأن فهمَ النهي يتوقَّفُ على معرفةِ المَنهيِّ وهو المفعولُ الأولُ المُفصَّلُ، ثُمَّ المنهيّ عنه وهو المفعول الثاني:

لا تتخذوا، الذينَ [اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا ولَعِبًا مِنَ الذينَ أوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ والكُفَّارَ] أَوْلِيَاءَ

ف + فا + مَف1 [ ج ص (ف+فا+مف1+مف2+ مُرَكب عَطفي+ مركَّب وَصفي+مركَّب ظَرفي)] مَف2

يُعدُّ المفعولُ الأولُ مَركزَ الثقل الدّلاليّ لأنّ عناصرَ المعنى اقتضَت تمديدَ بنية هذا “المَركز” وذِكْرَ التفاصيل؛ وهذا المركز (المفعول الأول) وإنْ كانَ في التركيبِ مُنزَّلاً منزلةَ أركانِ الجملَة وهي الفعلُ والفاعل والمفعولُ الثاني، يستأثرُ دونَ بقيةِ الأركانِ بالتفريع التركيبيّ المُفصَّل تبعاً لمطالبِ المعنى المُفصَّل.

ويوضحُ الرسمُ البيانيُّ الشجريُّ أدناه شبكَةَ بنيةِ الجملةِ ومنزلة كل مُؤلِّفٍ من مؤلِّفاتها في الهَيْكل العامِّ سواء أكانَ المؤلِّفُ رُكناً إسنادياً أو فرعاً على الركنِ الإسناديّ أو فرعاً على الفَرعِ أو دون ذلكَ. وهذه طريقةٌ في تصوّر بنيات الجمل والتراكيبِ وأبعادِها تختلفُ عن طريقةِ التصوُّرِ الخَطّيّ السطحيّ التي لا تُظهرُ الجُملةَ إلا متواليةً من الكَلِمِ.

رسمٌ بيانيّ شجريّ لآيةٍ طويلةٍ، يوضحُ مَفاصلَ التركيبِ

«يا أيُّها الذينَ آمَنوا لا تَتَّخِذوا الذينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُؤاً ولَعِبًا مِنَ الذينَ أوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ والكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ» المائدة:57

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق