مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات محكمة

شواهد ابن عقيل الحلقة الثانية

الحمد لله والصلاة والسلام على نبيه الكريم وعلى آله وصحبه ومن والاه.

وبعدُ، فنشرع في عرض شواهد ابن عقيل على النحو الذي قررناه في الحلقة الأولى، على أنه سَتَعِنُّ لنا أمور تدخل في منهج ابن عقيل نذكرها وننبه عليها في مواضعها متى عرضت، وهي مما يقوم عليه هذا البحث أجمع، ثم نُفردها آخرَ هذه الحلقات إذا تَمَّ لنا ما أردنا، وذلك في تعليقات ونتائج نجعلها ذَيلا لِمَا حرّرناه فيما تقدم إن شاء الله.

  • شواهد التنوين:

الشاهد الأول:

أَقِلِّي اللَّوْمَ عَاذِلَ وَالْعِتَابَنْ /// وَقُولِي إِنْ أَصَبْتُ لَقَدْ أَصَابَنْ

قوله: أقلي، يريد: اترُكي، وهو مستفيض في كلام العرب، يعبرون بالقليل عن العدم. وقوله: عاذلَ: منادى مرخم، أصله: يا عاذلة.

هذا الشاهد ذكره ابن عقيل عند قول ابن مالك في ألفيته:

بِالْجَرِّ وَالتَّنْوِينِ وَالنِّدَا وَأَلْ /// وَمُسْنَدٍ لِلِاسْمِ تَمْيِيزٌ حَصَلْ

وذلك في مبحث تنوين التّرنم الذي يلحق القوافي المطلقة بحرف علة، وهو من أقسام التنوين الذي عدّه النحاة من علامات الاسم إلى جانب الجر والنداء وأَلْ التعريفية والإسناد. وأصل المِصراعين: والعِتابَا، أصابَا. وإنما نطقوا النون في آخر الكلمة لأجل الترنم في حال إنشاد البيت.

والمُلاحظ أن ابن عقيل لم يذكر قائل البيت كعادته في سائر الشرح، إما لاشتهاره أو لعدم عنايته بذلك.

أما سيبويه فقد ذكره في موضعين من كتابه منسوبا لجرير:

الموضع الأول: أورد الشطر الثاني خِلْوًا من النون على أنهم ينوّنونه وهو على النصب من غير تنوين، وذلك لأجل الترنم في الإنشاد(1).

الموضع الثاني: ذكر الشطر الثاني ساكن الباء، على أنهم سمعوا مَن يُنشده كذا، إجراءً منهم للقافية مجراها لو كانت في الكلام ولم تكن قوافيَ شعر(2).

وهو أيضا في الخزانة الشاهدُ الرابع على ما أورده ابن عقيل وغيرُه من وجه استشهادهم به على تنوين الترنم(3).

والشاهد من بحر الوافر، وهو كما تقدم معك لجرير بن عطية الخطفي، تميمي من بني كليب بن يربوع، توفي سنة عشر ومائة، وقيل: إحدى عشرة ومائة، ومات الفرزدق قبله فبلغ جريرا موتُه فهجاه، فقيل له في ذلك فندم وعاد عنه ورثاه. وهو أحد الشعراء الثلاثة في بني أمية الذين أجمعوا على أنهم أشهر أهل عصرهم، وهم: جرير والفرزدق والأخطل.

والجرير في اللغة الحبلُ، سمي به لرؤيا رأتها أمه. وانظر خبر البيت في الخزانة والأغاني وغيرها من المراجع، وهو من قصيدة طويلة في هجاء الراعي النميري وقبيلته بني نمير لتقديمه للفرزدق عليه والحكم له(4).

الشاهد الثاني:

أَزِفَ التّـرَحَّلُ غَيَرَ أَنَّ رِكَابَنَا /// لَمَّا تَزُلْ بِرِحَالِنَا وَكَأَنْ قَدِنْ

ذكره ابن عقيل في تنوين الترنم أيضا، وأنه يلحق القوافي المطلقة بحرف علة، سواء كانت اسما كالشاهد الأول، أو حرفا كهذا الشاهد، ولم يذكر قائله أيضا، وهو النابغة الذبياني، زياد بن معاوية، أبو أمامة(5)، وهو في ديوانه وفي مراجع الشواهد(6)، من قصيدته الدالية على بحر الكامل في المتجردة، مطلعها:

أَمِنَ آلِ مَيّـةَ رَائِحٌ أَوْ مُغْتَدِ /// عَجْلَانَ ذَا زَادٍ وَغَيْرَ مُزَوَّدِ؟

وفي أبياتٍ منها وقع الخبر المشهور للنابغة في الإقواء حين دخل المدينة وسمع جارية تنشد البيت(7).

قوله: أزف، أي: دنا واقترب، ويُروى: أَفِدَ، وهو مثله وزنا ومعنى. والركاب: الإبل التي يُسار عليها، واحدتها: راحلة، ولا واحد لها من لفظها.

وقد أعاده ابن عقيل في باب «إن وأخواتها» برواية: أَفِدَ، وذلك عند قول ابن مالك:

وَخُفِّفَتْ كَأَنَّ أَيْضًا فَنُوِي /// مَنْصُوبُهَا، وَثَابِتًا أَيْضًا رُوِي

على أنه إذا خُففت «كأنّ» نُوِيَ اسمُها وأُخبر عنها بجملة، وفيه بحث نقتصر عليه هنا عن إعادة الشاهد هناك:

إذا خُففت «كأنّ» لم تعمل، وأُضمر فيها اسمُها، وهو ضمير الشأن، والتقدير: كأنه، وخبرها هو الجملة المقدرة المحذوفة: قد زالتْ، بقرينة قوله: لمّا تزُل.

على أن في كلام ابن جني ما يقتضي تخريجا آخر، قال في الخصائص: «ويجوز أن يكون معناه: قَدْكَ، أي: حسبُك»(8).

وعلى قوله يكون التقدير: وكأنه قَدِي، أي: حسبي، ويكون خبرها حينئذ مفردا، وعليه قوله:

قَدْنِيَ مِنْ نَصْرِ الْخُبَيْبَيْنِ قَدِي(9)

وكذلك قولُ طَرفة بن العَبد في معلقته:

أَخِي ثِقَةٍ لَا يَنْثَنِي عَنْ ضَرِيبَةٍ

إِذَا قِيلَ: مَهْلًا، قَالَ حَاجِزُهُ: قَدِ(10)

وقد حرروا فيها إذا خُففت أنها إن كانت في نفي، جِيء بحرف النفي «لَمْ»، كقوله تعالى: {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ}، [يونس: 24]، وإن كانت في إثباتٍ جِيءَ بالحرف «قَدْ»، كبيت الشاهد.

الشاهد الثالث:

وَقَاتِمِ الْأَعْمَاقِ خَاوِي الْمُخْتَرَقْنْ

قوله: المُخترق، هو الممر الواسع الذي تتخلَّلُه الرياح، ومنه قول جرير:

إِنَّ السَّوَارِيَ وَالْغَوَادِيَ غَادَرَتْ /// لِلرِّيحِ مُخْتَرَقًا بِهِ وَمَجَالَا(11)

والشاهد أتى به ابنُ عقيل على أنه مما دخله التنوينُ الغالي، وهو الذي يلحق القوافي المقيدة، ولم يُعين اسم قائله أيضا، وهو رُؤبة بن العجاج السعدي التميمي، كما في ديوانه(12)، وبعده:

مُشْتَبِهِ الْأَعْلَامِ لَمَّاعِ الخَفَقْ

ودخول هذا التنوين على الاسم المُعرف لا يقتضي تخصيصه بالأسماء، وقد ذكر ابن عقيل أن الأخفش أثبت هذا التنوين، وهو في كتاب القوافي، قال: «والغلو: حركة قافِ:

وَقَاتِمِ الْأَعْمَاقِ خَاوِي الْمُخْتَرَقِنْ

والنون هي الغالي»(13).

وسُمي غاليا لتجاوزه حد الوزن، وفائدته الفرق بين الوقف والوصل، ومنهم من يَعُده من نوع تنوين الترنم لكون النونين واحدة(14).

أما حركة القاف التي سماها الأخفش غلوا، فلم يُشر إليها ابنُ عقيل، ووقعت في طبعات الكتاب بسكون القاف، ولا يتفق ذلك مع ما ذكره الأخفش. وأما النون فإنما تثبت لأجل التنوين الذي يُؤذِنُ بحال الوقف، والبيت رويه القاف، لذلك أشار إليه سيبويه في كتابه على أن القاف حرفُ روي لا يسقط(15).

  • مما يؤخذ من عرض هذه الشواهد أن ابن عقيل لا يهتم بنسبة الشاهد إلى قائله، على اعتبار أنه مشهور قد تداوله النحاة قبله في المسألة.
  • ثم إنه في الشاهد الثاني أورده على رواية أولا، ثم على أخرى ثانيا، وهذا ينبهنا على أن اختلاف رواية البيت الواحد كان معمولا به قبلُ، لا سيما إن كان هذا الاختلاف واقعا في كلمة ليس عليها مدار الاستشهاد بالبيت.
  • الشعراء الذين استشهد بهم ابنُ عقيل كلهم ممن يُحتج به، فالنابغة جاهلي من بني ذبيان، وجرير ورؤبة أمويان من بني تميم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

كتاب سيبويه: 1- 4/

كتاب سيبويه: 2-4/

3- خزانة الأدب للبغدادي: 1/69 وما بعدها.

4- وانظر ترجمته في الخزانة: 1/69، والأغاني أول الجزء الثامن من طبعة صادر، والمقاصد النحوية لبدر الدين العيني: 1/162 عند الشاهد السادس.

انظر ترجمته في طبقات ابن سلام 1/51، والشعر والشعراء لابن قتيبة 1/156، والخزانة 5- 7/

6- انظر ديوانه بطبعة المعارف: ص 89، والمقاصد النحوية للعيني عند الشاهد الخامس.

انظر مراجع ترجمته المتقدمة والموشح للمرزباني: ص 7- 38.

الخصائص لابن جني: 8- 2/

9- هو الشاهد الحادي والعشرون لحُميد بن مالك الأرقط، وسيأتي في موضعه إن شاء الله.

انظر ديوانه: ص 10- 54.

11- ديوان جرير، طبعة الصاوي: ص 448، من قصيدة ينقض بها قصيدة للأخطل التغلبي.

12- انظر ديوانه ضمن مجموع أشعار العرب بتحقيق وليم بن الورد: ص 104، وهو مطلع أرجوزة له طويلة. وكانت وفاته سنة خمس وأربعين ومائة للهجرة كما في وفيات الأعيان لابن خلكان 2/303، طبعة صادر.

قوافي الأخفش، طبعة أحمد راتب النفاخ: ص 13- 42.

14- يُنظر: مغني اللبيب لابن هشام، عند حديثه عن الشاهد الرابع والأربعين بعد الستمائة في مبحث النون المفردة.

كتاب سيبويه: 15- 4/

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق