مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراثقراءة في كتاب

شرح التلقين

يعد كتاب شرح التلقين للإمام العلامة أبي عبد الله محمد بن علي بن عمر التميمي المازَري المالكي(ت536هـ)، من أوسع وأشهر وأنفع الشروح التي وُضعت على كتاب التلقين لحافظ المذهب المالكي بالعراق القاضي عبد الوهاب بن نصر البغدادي(ت422هـ)، والشرح لا يقل أهمية عن الأصل المشروح بالنظر إلى كون صاحبه بلغ مرتبة عالية في الفقه وأصوله ومناهج الخلاف إلى جانب مشاركته في علوم أخرى كالحديث والعقائد وعلم الكلام، والطب والحكمة، والأدب، مما أهله لأن يكون إمامَ عصره بلا منازع وإليه المفزع في المشكلات.

بالرجوع إلى مقدمة الشرح نجد المؤلف يصرّح بأن هذا الشرح جاء استجابة لطلب ورد عليه، وفي ذلك يقول:«سألتَ أبان الله لكَ معالم التحقيق، وسلك بكَ أوضح طريق، وأيدكَ بالسعادة والتوفيق أن أُمليَ عليك جملا على كتاب التلقين، للقاضي أبي محمد عبد الوهاب رحمه الله، أظهر لك مضمونه وأُبيح مصونه، وأستخرج مكنونه، فأجبتك إلى ذلك راجيا من الله سبحانه جزيل المثوبة فيه بمنِّه وطَوله»، ولم يكن رحمه الله يقصد إلى تتبع جميع ألفاظ الكتاب ومعانيه، ولكن رام إظهار المضامين واستخراج الأسرار من متن التلقين، ويورد ما يراه وافيا بأغراض الباب مستقلا بأهم فروعه مبتدئا بما بدأ به صاحب الأصل؛ بكتاب الطهارة ثم الصلاة وهكذا…، سالكا طريقة بديعة تقوم على جملة من الأسئلة يثيرها في مستهل كل باب، محاولا الإجابة عليها، ويتفاوت عدد الأسئلة بحسب مسائل كل باب طولا وقصرا، تشعبا وسهولة، وتتراوح الأسئلة بين سؤالين كما في أول كتاب الصلاة، إلى عشرين سؤالا كما في الباب الذي تناول فيه النجاسات.

وتبعا لهذه الأسئلة تختلف الإجابات فيتوسع في الإجابة ـ أحيانا ـ قاصدا تمرين الناظر في كتابه على التفقه كما صرح به لما فصّل الكلام على من ذَكرَ صلاةً منسية ولا يدري ما هي حين أنهى الكلام بقوله:«وإنما ذكرنا هذه المسائل ليكد الطالب فيها فهمه، فيكتسب من كده بفهمه فيها انتباها وتيقظا فيما سواها من المعاني الفقهية وغيرها مما يطالعه»، ولا يقتصر في تبيين فقه المسألة على المذهب المالكي بل يحرر أولا وجهة نظر المالكية مما روي عن مالك وعن أئمة المذهب ويتبع ذلك بتحرير فقهها عند المذاهب الأخرى كالحنفية والشافعية غالبا، كما يلجأ إلى الجمع بين الأدلة التي ظاهرها التعارض والاختلاف، ويُخَرِّج بعضها على بعض بما أوتي من ملكة علمية كبيرة تجمع بين العلوم المختلفة ما أعطى لشرحه هذا مكانة عالية، مع التزام الأدب في الرد ودحض الأقوال والشبه.

ومن ميزات هذا الشرح أن المؤلف مزج فيه بين تحقيق الفقه في المسألة المعروضة في المذهب المالكي وفي بعض المذاهب الأخرى، وبين الربط بالدليل الخاص، وأضاف إلى ذلك أيضا الربط بين الأحكام ومقاصدها الشرعية في أسلوب سلس، بعيد عن التكلف والصنعة مع غزارة فوائده، وكثرة عوائده.

اعتمد المازري في بناء مادة هذا الشرح ـ إلى جانب المصادر الأولى للفقه المالكي ـ على كتب الخلاف كالسنن والأوسط والإشراف لابن المنذر(ت318هـ)، ومسائل الخلاف لأبي بكر ابن الجهم(ت329هـ)، ومسائل الخلاف لابن خُويز مَنداد(ت390هـ)، ومسائل الخلاف لابن القصار(ت397هـ)، والاستذكار لابن عبد البر(ت463هـ)، وغيرها، من المصادر داخل المذهب وخارجه، كل ذلك جعل له القبول الحسن والثناء العطر ممن عاصر صاحبه أو جاء بعده، فقد قال القاضي عياض عنه وعن كتبه:«لم يكن في عصره للمالكية في أقطار الأرض في وقته أفقه منه ولا أقوم لمذهبهم…وألف في الفقه والأصول وشرح كتاب مسلم، وكتاب التلقين للقاضي أبي محمد وليس للمالكية كتاب مثله»، ونقل هذا الكلام عنه صاحب الديباج وزاد عن شرح التقين«ولم يبلغنا أنه أكمله»، وإذا كان الإمام المازري بهذه المرتبة العلميّة العليّة فلا عجب أن يتواتر النقل عن كتبه ومنها شرح التلقين ممن جاء بعده، أبرزهم القرافي(ت684هـ) في الذخيرة، والفروق، وابن الحاجب(ت646) في مختصره، والمواق(ت897هـ) في التاج والإكليل، والإمام الحطاب في مواهب الجليل، بل حتى أصحاب الأصول اعتمدوا أقواله الأصولية في هذا الشرح كالزركشي(ت794هـ) في البحر المحيط، والشاطبي(ت790هـ) في الموافقات وغيرهم.

ومن أسف أن الشارح لم يكمل هذا الشرح كما سبق في قول ابن فرحون، ثم إن ما أنجزه لم يصل كاملا بل وصل جزء منه فقط، وهو الذي حققه الشيخ محمد المختار السلامي مفتي الجمهورية التونسية، ونشرته دار الغرب الإسلامي في ثمان مجلدات سنة 2008م، في طبعة ثانية، بعدما صدرت طبعته الأولى سنة 1997م، كما عثر مؤخرا على قطعة منه سجلها أحد الباحثين في رسالة دكتوراه.

هذا وكان الإمام المازري وكتبه موضوع دراسات جامعية منها: منهج الخلاف والنقد الفقهي عند الإمام المازري، للدكتور عبد الحميد عشاق، نشر في جزأين بدار البحوث للدراسات والإسلامية وإحياء التراث بدبي، سنة 1426هـ/2005م.

الكتاب شرح التلقين.
المؤلف عبد الله محمد بن علي بن عمر المازَري المالكي(ت536هـ).
مصادر ترجمته الغنية للقاضي عياض(ص65)، والديباج المذهب لابن فرحون(2/231)، وأزهار الرياض للمقري(3/165)، وشجرة النور(ص127).
دار النشر دار الغرب الإسلامي، تونس، تحقيق الشيخ محمد المختار السلامي، ط2/2008م.
الثناء على المؤلف قال القاضي عياض في الغنية(ص65):«وشَرَحَ كتاب مسلم، وكتاب التلقين للقاضي أبي محمد، وليس للمالكية كتاب مثله».

إعداد: ذ.جمال القديم.

Science

الدكتور جمال القديم

باحث مؤهل بمركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث بالرابطة المحمدية للعلماء،

ومساعد رئيس مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث بملحقة الدار البيضاء

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. أسأل عن النسخة المخطوطة من كتاب القضاء والشهادات، وكذا كتاب الصرف من شرح التلقين

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق