مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

شذرات من سير رجالات مراكش السبعة أبو العباس السبتي، أو حين ينفعل الوجود بالجود

هو أحمد بن جعفر الخزرجي، أتى إلى مراكش قادما إليها من سبتة طالبا للعلم وهو ابن ستّ عشـرة سنة، تتلمذ بمسقط رأسه على يد الشيخ أبي عبد الله الفخار الذي قضى معه فترة من شبابه، وكان قد تنبأ له بمستقبل ذي شأن، «فروي أن الشيخ (أي الفخار) أحس ببركة زادت عليه من ساعته […] فقال له يا بني: بارك الله فيك، إن عشت سيكون لك شأن عظيم، قال له: يا سيدي، ذلك بيد الله يفعل في ملكه ما يشاء […] وزادت من بركاته الخيرات وفاض الإحسان»[1]. وبعد فترة انقطاعه بجبل “جليز” بأحواز مراكش ينتظر «الإذن من الله تعالى في الدخول،  إذ على عادة الأكابر ألا يدخلوا في أمر إلا بإذن الله تعالى»[2]، سينزل بمراكش ويستوطنها إلى أن وافته المنية بها. اشتهر أبو العباس بمذهبه في الجود والعطاء والبذل، إلى حد أن ابن رشد الحفيد أرسل للاستخبار في شأنه شخصا عالما يعرف بابن الفرس، الذي يقول: «بعثني أبو الوليد بن رشد من قرطبة وقال لي: إذا رأيت أبا العباس بمراكش فانظر مذهبه وأعلمني به، قال: فجلست مع السبتي كثيرا إلى أن حصلت مذهبه، فأعلمته بذلك، فقال لي أبو الوليد: هذا رجل مذهبه أن “الوجود ينفعل بالجود”»[3].

 وهذا ابن الزيات يصف لنا حال السبتي فيقول: «حضرت مجلسه مرات فرأيت مذهبه يدور على الصدقة، وكان يرد سائر أصول الشرع إليها […] وكان إذا أتاه أحد يطلب منه شيئا، يأمره بالصدقة ويقول له: تصدق ويتفق لك ما تريد»[4].

   توفي أبو العباس السبتي -رحمه الله- بمراكش عام 601هـ، ودفن خارج باب “تاغزوت” بحاضرة مراكش، وقبره سيصبح -بمرور الزمان- مزارا لعامة الناس وخاصتهم، كما أن سيرته وفصول حكايته ستبقى مفتوحة على توالي العصور؛ فهذا ابن الخطيب يزور قبر أبي العباس ليحدثنا عن اهتمام ذوي الحاجات بمزاره، وعن كيفية استفادة الفقراء من الصدقات المودعة بإزائه، يقول: «وروضته بباب تاغزوت، أحد أبواب مراكش […] زرتها، وربما شاهدت في داخلها أشياخا من أهل التعفف والتصوف، يسارقون خفية الناظر إلى مساقط رحمات الله تعالى عليها لكثرة زائريها، فيقتحم ذو الحاجة بابها خالعا نعله مستحضرا نيته، ويقعد بإزاء القبر، ويخاطب بحاجته، ويعين بين يدي النجوى صدقة على قبره، ويدسها في أواني في القبر معدة لذلك، ومن عجز عن النقدين تصدق بالطعام ونحوه، فإذا خف الزائرون آخر النهار، عمد القائم إلى التربة إلى ما أودع هناك في تلك الأواني، وفرّقه على المحاويج الحافّين بالروضة، ويحصون كل عشية، ويعمهم الرزق المودع فيها، وإن قصر عنهم كملوه فــي غــده […] فروضة هذا الولي ديوان الله تعالى في المغرب لا يحصى دخله ولا تحصر جبايته؛ فالتبر يسيل، واللجين يفيض، وذوو الحاجة كالطير تغدو خماصا وترجع بطانا، ﴿يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم﴾ (البقرة، الآية: 105).
قال: وأنا ممن جرب المنقول عن القبر، فاطّرد القياس، وتزيفت الشبهة، وتعرفت من بدء زيارته ما تحقّقت من بركته، وشهد على برهان دعوته»[5].

الهوامش

[1] الإعلام، عباس بن إبراهيم التعارجي المراكشي، (1/ 279-280).

[2] المصدر السابق، (1/ 281).

[3] نفسه، (1/ 237).

[4] التشوف، التادلي، (453-454).

[5] نفح الطيب، المقري التلمساني، 7/ 272.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق