مركز الدراسات القرآنيةشذور

شذرات من التفسير(3): (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ)

وفقا لما يعيشه العالم من أزمات واضطرابات ، ونظرا للظروف الاستثنائية التي يعيشها بلدنا الكريم ، بسبب جائحة وباء كورونا وما خلفته من آثار نفسية واجتماعية وضحايا إنسانية ، الأمر الذي يدعو إلى استنهاض الهمم والعزائم لخدمة الإنسانية، والمساهمة بالمعرفة والإنتاج العلمي انطلاقا من كتاب الله تعالى، استمدادا وعملا وتنزيلا.
فمذ خلق الله الإنسان وهو في تعب وكد وعناء، يكابد متاعب الدنيا، وشدائد الآخرة، ومن حكم الله تعالى أن جعل هذا الكد والتعب والمشقة حافزا ودافعا لهذا الإنسان بالنهوض والعمل وعدم الركون إلى الدنيا ، فبالسعي والكدح والمشقة يدرك الإنسان قيمة هذه الحياة الزائلة الفانية، وأن لا خلود إلا خلود الآخرة يقول تعالى : (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ) الانشقاق/ 6
فسر السعادة يكمن في العمل والكدح والسعي عبورا إلى السعادة الكبرى، السعادة الأخروية، وهي لقاء الله تعالى والركون إليه.
وفي هذا الصدد يقول الإمام القرطبي رحمه الله في سياق حديثه عن تفسير قوله تعالى : تعالى (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) البلد/ 4 وهي مدار حديثنا:
قال علماؤنا : أول ما يكابد قطع سرته، ثم إذا قمط قماطا، وشد رباطا، يكابد الضيق والتعب، ثم يكابد الارتضاع، ولو فاته لضاع، ثم يكابد نبت أسنانه، وتحرك لسانه، ثم يكابد الفطام، الذي هو أشد من اللطام، ثم يكابد الختان، والأوجاع والأحزان، ثم يكابد المعلم وصولته، والمؤدب وسياسته، والأستاذ وهيبته، ثم يكابد شغل التزويج والتعجيل فيه، ثم يكابد شغل الأولاد، والخدم والأجناد، ثم يكابد شغل الدور، وبناء القصو، ثم الكبر والهرم، وضعف الركبة والقدم، في مصائب يكثر تعدادها، ونوائب يطول إيرادها، من صداع الرأس ووجع الأضراس، ورمد العين وغم الدين، ووجع السن وألم الأذن، ويكابد محنا في المال والنفس، مثل الضرب والحبس، ولا يمضي عليه يوم لا يقاسي فيه شدة، ولا يكابد إلا مشقة ،ثم الموت بعد ذلك كله، ثم مسألة الملك، وضغطة القبر وظلمته، ثم البعث والعرض على الله، إلى أن يستقر به القرار، إما في الجنة وإما في النار، قال الله تعالى (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) البلد/ 4
لو كان الأمر إليه لما اختار هذه الشدائد، ودل هذا على أن له خالقا دبره، وقضى عليه بمثل هذه الأحوال ، فليمتثل أمره.
فنسأل الله تعالى أن تكون مكابدتنا في هذه الدنيا ومصاعبها، في سبيله و بما يرضيه ويوافق سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

الجامع لأحكام القرآن ، لمحمد بن أحمد الأنصاري أبو عبد الله الملقب بالإمام القرطبي ،تحقيق : كامل محمد الخراط/ ماهر حبوش، (الطبعة 1/مؤسسة الرسالة،1428ه/2006م)، (293/22)

Science

ذة. مريم الدويك

باحثة بمركز الدراسات القرآنية

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق