مركز الدراسات القرآنيةشذور

شذرات من التفسير: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾

الحمد لله خالق الخلق كلهم من أصل واحد، وبرأهم من نفس واحدة، ولم يجعل بينهم ميزا ولا تفاضلا إلا بتقواه، والصلاة والسلام على من بُعث رحمة للناس كافة، عربهم وعجمهم، أبيضهم وأسودهم، المبلغ عن رب العالمين قوله تبارك وتعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ [سورة الحجرات، الآية: 13]، ومنه؛ فلنا قبسة من إشراقة هاته الآية القرآنية الكريمة من سورة الحجرات، نقف من خلالها على صروح نورانية متينة في أصل العلاقات الإنسانية ومحدداتها النموذجية.
وقد استهلت الآية الكريمة بأسلوب نداء في معرض الخطاب من الله سبحانه إلى الناس كافة، بكل أطيافهم وأعراقهم وألوانهم وأجناسهم…، معلنة تدشين مرحلة جديدة في تاريخ البشرية جمعاء.
فمعلوم أن شريعة الختم نسفت كل فكر تعصبي عنصري جاهلي، وأدمغت كل تصور مشوه معيب، وهدمت كل شُبه الضلال والزيغ حول أصل العلاقات الإنسانية بين شعوب أهل الأرض، وبين الإنسان وأخيه الإنسان، مسقطة جميع الفوارق والطبقية، ومبطلة مكاييلها الجائرة، فرفعت من شأن العدل والمساواة بين بني البشر.
وفي هذا السياق نجد قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كُلُّكُمْ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ، لَيَنْتَهِيَنَّ قَوْمٌ يَفْخَرُونَ بِآبَائِهِمْ أَوْ لَيَكُونَنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللهِ مِنَ الْجَعْلَانِ»[1]. وفي حديث آخر: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا، فَالنَّاسُ رَجُلَانِ: بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللهِ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَخَلَقَ اللهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ»[2].
وقوله جل جلاله: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾، تأكيد على أن ميزان التفاضل المتحاكم إليه هو التقوى، وبه تختل كل المكاييل العنصرية وتندحر، ولا يبقى إلا التقوى معيارا للرجحان، وصرفا تقاس به ميزات بني الإنسان.
ونسجل من خلال قوله سبحانه: ﴿لِتَعَارَفُوا﴾ على بُعد مفاهيمي راق، متمثلا في النموذج التعارفي الهادف إلى تحقيق التكامل النفعي بين شعوب أهل الأرض، وتعارفها التضامني التعاوني، وتعايشها الأخوي الإنساني السلمي، ونبذها للعنف والعنصرية والعرقية والطائفية..، في صياغة لمفهوم الوحدة البشرية، باعتبار المجتمع البشري له مشترك واحد، وتحدٍّ واحد، ويعيش فوق سطح كوكب واحد.
يقول محمد الطاهر ابن عاشور (المتوفى: 1393هـ) في معرض تفسيره لهذه الآية الكريمة: «..انتقال من واجبات المعاملات إلى ما يجب أن يراعيه المرء في نفسه، وأعيد النداء للاهتمام بهذا الغرض، إذ كان إعجاب كل قبيلة بفضائلها وتفضيل قومها على غيرهم فاشيا في الجاهلية كما ترى بقيته في شعر الفرزدق وجرير، وكانوا يحقرون بعض القبائل؛ مثل باهلة، وضبيعة، وبني عكل.
فجاءت هذه الآية لتأديب المؤمنين على اجتناب ما كان في الجاهلية؛ لاقتلاع جذوره الباقية في النفوس، بسبب اختلاط طبقات المؤمنين بعد سنة الوفود، إذ كثر الداخلون في الإسلام.
ونودوا بعنوان الناس دون المؤمنين رعيا للمناسبة بين هذا العنوان وبين ما صدر به الغرض من التذكير بأن أصلهم واحد؛ أي أنهم في الخلقة سواء، ليتوسل بذلك إلى أن التفاضل والتفاخر إنما يكون بالفضائل، وإلى أن التفاضل في الإسلام بزيادة التقوى.
والتعارف يحصل طبقة بعد طبقة متدرجا إلى الأعلى، فالعائلة الواحدة متعارفون، والعشيرة متعارفون من عائلات، إذ لا يخلون عن انتساب ومصاهرة، وهكذا تتعارف العشائر مع البطون، والبطون مع العمائر، والعمائر مع القبائل، والقبائل مع الشعوب؛ لأن كل درجة تأتلف من مجموع الدرجات التي دونها.
فكان هذا التقسيم الذي ألهمهم الله إياه نظاما محكما لربط أواصرهم دون مشقة ولا تعذر.
وقد جبر الله صدع العرب بالإسلام، كما قال تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ [آل عمران، الآية: 103]، فردهم إلى الفطرة التي فطرهم عليها، وكذلك تصاريف الدين الإسلامي ترجع بالناس إلى الفطرة السليمة.
ولما أمر الله تعالى المؤمنين بأن يكونوا إخوة وأن يصلحوا بين الطوائف المتقاتلة، ونهاهم عما يثلم الأخوة وما يغين على نورها في نفوسهم من السخرية، واللمز والتنابز، والظن السوء، والتجسس والغيبة، ذكرهم بأصل الأخوة في الأنساب التي أكدتها أخوة الإسلام، ووحدة الاعتقاد؛ ليكون ذلك التذكير عونا على تبصرهم في حالهم. ولما كانت السخرية واللمز والتنابز مما يحمل عليه التنافس بين الأفراد والقبائل جمع الله ذلك كله في هذه الموعظة الحكيمة التي تدل على النداء عليهم بأنهم عمدوا إلى هذا التشعيب الذي وضعته الحكمة الإلهية، فاستعملوه في فاسد لوازمه وأهملوا صالح ما جعل له بقوله: ﴿لِتَعَارَفُوا﴾.
وأتبعه بقوله: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾؛ أي فإن تنافستم فتنافسوا في التقوى، كما قال تعالى: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ [المطففين: 26].
والخبر في قوله: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى﴾ مستعمل كناية عن المساواة في أصل النوع الإنساني، ليتوصل من ذلك إلى إرادة اكتساب الفضائل والمزايا التي ترفع بعض الناس على بعض كناية بمرتبتين. والمعنى المقصود من ذلك هو مضمون جملة ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾، فتلك الجملة تتنزل من جملة إنا خلقناكم من ذكر وأنثى منزلة المقصد من المقدمة، والنتيجة من القياس، ولذلك فصلت؛ لأنها بمنزلة البيان»[3].
الهوامش:
[1] أخرجه البزار في مسنده، مسند حذيفة بن اليمان، حديث رقم: 2938 (المدينة المنورة: مكتبة العلوم والحكم، الطبعة: الأولى (بدأت 1988م، وانتهت 2009م)).
[2] أخرجه الترمذي في سننه من حديث ابن عمر، أبواب تفسير القرآن، باب: ومن سورة الحجرات، حديث رقم: 3270، تحقيق أحمد شاكر، ومحمد عبد الباقي (مصر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، الطبعة: الثانية، 1395هـ/ 1975 م).
[3] التحرير والتنوير، الشيخ محمد الطاهر بن عاشور (الدار التونسية للنشر، 1984م) (26/258 ـ 261).

ذ. طه الراضي

باحث بمركز الدراسات القرآنية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق