مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةأعلام

سيرة أبي عمرو الداني

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد وآله ومن والاه، أما بعد، فهذه نبذة يسيرة عن حياة الحافظ أبي عمرو الداني- رحمه الله تعالى-.

اسمه ونسبه:

هو عثمان بن سعيد بن عثمان بن سعيد بن عمر أبو عمرو الأموي، القرطبي ثم الداني، المعروف في زمنه بابن الصيرفي، المالكي.

الإمام العلامة الحافظ، أستاذ الأستاذين وشيخ مشايخ المقرئين.

قال التجيـبي: ولم يكن -رحمه الله- من دانية، ولكن نزلها وأقرأ بها فشهر بذلك، وكان قرطبيا.

ولادته ونشأته ورحلاته:

اختلف في سنة ولادة الإمام أبي عمرو؛  فذكر ابن بشكوال أنه ولد سنة 371هـ، وذكر ياقوت الحموي -فيما رواه عن أبي داود سليمان بن نجاح- أنه ولد سنة 372هـ، واقتصر على الأول الذهبي وابن الجزري.

ونُصدّر هذه السيرة المباركة بما روي عن صاحبها؛ لأنه أعلم بحاله من غيره.

قال رحمه الله: أخبرني أبي أني ولدت في سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة، وابتدأت في طلب العلم سنة ست وثمانين، وتوفي أبي في سنة ثلاث وتسعين في جمادى الأولى.

 فرحلت إلى المشرق في اليوم الثاني من المحرم يوم الأحد، في سنة سبع وتسعين، ومكثت بالقيروان أربعة أشهر، ولقيت جماعة وكتبت عنهم.

 ثم توجهت إلى مصر ودخلتها اليوم الثاني من الفطر من العام المؤرخ، ومكثت بها باقي العام، والعام الثاني وهو عام ثمانية إلى حين خروج الناس إلى مكة، وقرأت بها القرآن، وكتبت الحديث، والفقه، والقراءات، وغير ذلك عن جماعة من المصريين، والبغداديين، والشاميين، وغيرهم.

 ثم توجهت إلى مكة وحججت، وكتبت بها عن أبي العباس أحمد البخاري، وعن أبي الحسن بن فراس، ثم انصرفت إلى مصر ومكثت بها شهرا، ثم انصرفت إلى المغرب ومكثت بالقيروان أشهرا.

 ووصلت إلى الأندلس أول الفتنة، بعد قيام البرابرة على ابن عبد الجبار بستة أيام في ذي القعدة سنة تسع وتسعين، ومكثت بقرطبة إلى سنة ثلاث وأربعمائة، وخرجت منها إلى الثغر فسكنت سرقسطة سبعة أعوام، ثم خرجت منها إلى الوطة، ودخلت دانية سنة تسع وأربعمائة، ومضيت منها إلى ميورقة في تلك السنة نفسها فسكنتها ثمانية أعوام، ثم انصرفت إلى دانية سنة سبعة عشر وأربعمائة.انتهى.

ورحلات الداني هذه جلها كان من أجل طلب العلم، كما أن بعضها كان طلبا للأمن والاستقرار.

شيوخه وتلامذته:

أخذ الداني القراءات عرضاً عن أبي القاسم خلف بن إبراهيم بن خاقان المصري الخاقاني (ت402) (وعليه اعتمد في رواية ورش في التيسير وغيره)، وعن أبي الحسن طاهر بن عبد المنعم بن غلبون الحلبي، (مؤلف كتاب التذكرة) (ت399)، وعن أبي القاسم عبد العزيز بن جعفر بن خواستي الفارسي (ت412)، (لقيه بأبّدة، وقرأ عليه القرآن بجميع ما عنده)، وعن أبي الفتح فارس بن أحمد الحمصي (ت401) وأكثر عنه، قال الداني: لم ألق مثله في حفظه وضبطه، وعن أبي الفرج محمد بن عبد الله النجاد (توفي في حدود400)، وعن خاله أبي الفرج محمد بن يوسف المعروف بالنجاد (ت429)، وعن أبي مروان عبيد الله بن سلمة بن حزم (ت405)، قال الداني: وهو الذي علمني عامة القرآن.

 

وروى كتاب السبعة لابن مجاهد سماعاً عن أبي مسلم محمد بن أحمد الكاتب بسماعه منه،

وروى الحروف عن أحمد بن عمر بن محفوظ، ومحمد بن عبد الواحد البغدادي، والحسن بن سليمان الأنطاكي، والحسن بن محمد بن إبراهيم البغدادي، فهؤلاء هم أشهر شيوخه في القراءات.

 كما أنه سمع الحديث من جماعة من المسندين، وبرّز فيه وفي أسماء رجاله، ويروي عن أئمة الحديث أمثال: البخاري، ومسلم، ويحيى بن معين، والنسائي وغيرهم بأسانيد عالية، ومن أبرز شيوخه في الحديث: عبد الرحمن بن عثمان القشيري، ومحمد بن خليفة بن عبد الجبار.. وكتابه في الفتن يدل على تبحره في علم الحديث.

قال رحمه الله في المنبهة:

وجملة الذين قد كتـبت             عنهم  من الشيوخ إذ طلبت

من مقرئ وعالم فقـيه               ومـعرب محـدث نبـيـه

سبعون شيخا كلهم سني              مـوقـر مبـجل مرضـي

 

قرأ عليه خلق كثير منهم: ولده أحمد بن عثمان بن سعيد، والحسين بن علي بن مبشر، وخلف بن إبراهيم الطليطلي، وخلف بن محمد الأنصاري، وأبو داود سليمان بن نجاح (وهو أجل تلاميذه قدرا)، وعبد الملك بن عبد القدوس وغيرهم..

وروى عنه التيسير سماعاً: عبد الحق بن أبي مروان بن الثلجي الأندلسي، وأبو القاسم شيخ بن نمارة. وروى عنه بالإجازة: أبو عبد الله أحمد بن محمد بن عبد الله الخولاني، وأحمد بن عبد الملك بن حمزة المرسي، وهو آخر من روى عنه مطلقاً، فإنه بقي بعد الثلاثين وخمسمائة.

عقيدته ومذهبه الفقهي:

كان الحافظ أبو عمرو رحمه الله من أهل السنة والجماعة، سنيا، شهد له بذلك جل من ترجم له، قال رحمه الله في منظومته الموسومة بالمنبهة:

واطـرح الأهــواء والآراء        وكـل قـول ولَّـد المــراءَ

من دان بالسنــة فاستمعـه       وكـل ما قـد صـح فاتبـعه

إذا رأيـت المـرء قد أحبـا        أئـمـة الديـن وعنهـم ذبـا

كمـالك والليث والثـوري        وابن عيـينـة الفـتى التـقـي

والفاضل المعروف بالأوزاعي         ومثـلهم من أهــل الاتـباع

إلى أن قال:

وفضـل الصحـابة الأبـرارا        وقـدم الأصهـار والأنصـارا

وأبغض البـدعي والمخالفـا         ومـن تـراه لهـما محـالفـا

فاعلم بأنـه من أهل السنـه         فالزمه واستمسك بما قد سنَّه

أما مذهبه الفقهي، فإنه كان على مذهب إمام دار الهجرة، الإمام مالك –رحمه الله- قال ابن بشكوال: كان دينا، فاضلا، ورعا، سنيا، مجاب الدعوة، مالكي المذهب.

قال رحمه الله في المنبهة:

واعتمدن على الإمام مـالك      إذ قد حوى على جميع ذلك

في الفقه والفتوى إليه المنتهى       وصحة النقل وعلم من مضى

مكانته العلمية وثناء العلماء عليه:

اهتم الداني بعلوم القرآن، وعلوم الحديث، واللغة، والفقه؛ إلا أنه أبدع كثيرا في علوم القرآن، مع تبحره في النحو ومذاهبه.

وكان رحمه الله سريع الحفظ، مكثرا للرواية عن الشيوخ، لم يكن في عصره ولا بعد عصره أحدٌ يضاهيه في حفظه وتحقيقه، وكان يُسأل عن المسألة مما يتعلّق بالآثار وكلام السلف، فيوردها بجميع ما فيها مسندةً من شيوخه إلى قائلها، حتى أصبح أعجوبة العصر في سعة الرواية وكثرتها.

قال رحمه الله: “ما رأيت شيئا إلا كتبته، ولا كتبته إلا حفظته، ولا حفظته فنسيته”.

قال ابن الجزري: ومن نظر كتبه علم مقدار الرجل، وما وهبه الله تعالى فيه، فسبحان الفتاح العليم، ولا سيما كتاب جامع البيان فيما رواه في القراءات السبع.

وكان رحمه الله ثقة، ضابطا، مميزا للصحيح من الضعيف فيما ينقله، قال رحمه الله: “وأئمة القرآن لا تعتمد في شيء من حروفه على الأفشى في اللغة والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل، والرواية إذا ثبتت عندهم لا يردها قياس عربية، ولا فشو لغة؛ لأن القراءة سنة متبعة، يلزم قبولها والمصير إليها”.

وكان مع هذا لا يهمل جانب الدراية.

قال رحمه الله: “وقرّاء القرءان متفاضلون في العلم بالتجويد والمعرفة بالتحقيق، فمنهم من يعلم ذلك قياسا وتمييزا، وهو الحاذق النبيه، ومنهم من يعلمه سماعا وتقليدا، وهو الغبيّ الفهيه، والعلم فطنة ودراية، آكد منه سماعا ورواية. وللدراية ضبطها وعلمها، وللرواية نقلها وتعلّمها، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم”.  

وكان رحمه الله متبحرا في اللغة، واسع الاطلاع على النحو، محيطا بمذاهب النحويين واختلافهم، وله عناية خاصة بكتاب سيبويه، فإنه أحسن الاستشهاد به في مواضع من كتبه.

قال ابن بَشكوال: كان أبو عمرو أحد الأئمة في علم القرآن ورواياته، وتفسيره، ومعانيه، وطرقه، وإعرابه، وجمع في ذلك كله تواليف حساناً مفيدةً يطول تعدادها، وله معرفة بالحديث وطرقه، ورجاله ونقلته، وكان حسن الخط جيد الضبط، من أهل الحفظ والذكاء والتفنن، دينا فاضلا، ورعا سنيا.

وقال المغامي: كان أبو عمرو مجاب الدعوة، مالكي المذهب.

وقال الحميدي  :هو محدث مكثر، ومقرئ متقدم، سمع بالأندلس والمشرق.

وقال ابن خلدون: بلغ الغاية فيها -أي في القراءات-، ووقَفَت عليه معرفتها، وانتهت إلى روايته أسانيدها، وتعددت تآليفه فيها، وعول الناس عليها وعدلوا عن غيرها.

وقال الضبي: إمام وقته في الإقراء. 

وقال الذهبي: برع في القراءات، والحديث ورجاله، والعربية وغير ذلك وصنف التصانيف البديعة.

وقال: إلى أبي عمرو المنتهى في إتقان القراءات، والقراء خاضعون لتصانيفه، واثقون بنقله في القراءات، والرسم، والتجويد، والوقف والابتداء، وغير ذلك.

بعض مصنفاته: 

خلف الداني رحمه الله عددا كبيرا من المصنفات، في علوم شتى، نقتصر على ذكر بعض منها:

التيسير في القراءات السبع.

جامع البيان في القراءات السبع.

التحديد في الإتقان والتجويد.

مفردات القراء السبعة.

المقنع في معرفة مصاحف الأمصار.

البيان في عد آي القرآن.

السنن الواردة في الفتن.

الأرجوزة المنبهة على أسماء القراء والرواة، وأصول القراءات وعقد الديانات، بالتجويد والدلالات.

وغيرها من المصنفات المفيدة…

وفاته:

توفي الحافظ أبو عمرو الداني بدانية يوم الاثنين منتصف شوال، سنة أربع وأربعين وأربعمائة، ودفن من يومه بعد العصر، ومشى صاحب دانية أمام نعشه، وشيعه خلق عظيم رحمه الله تعالى.

المصادر:

الصلة لابن بشكوال.

طبقات القراء، وسير أعلام النبلاء، كلاهما للذهبي.

غاية النهاية لابن الجزري. 

 

 

 

ذ.سمير بلعشية

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق