الرابطة المحمدية للعلماء

سنة إدارة الوقت” من خلال سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم

د. عبد
الخالق حسين

منسق
فرع المجلس العلمي بكلميم

 
الحمد
لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد، عليه وعلى آله أزكى الصلاة والتسليم..

أيها الإخوة
المومنون.. إنه لمن دواعي الفرح والابتهاج والمنة والسرور أن نجتمع في بيت الله،
محتفلين بمولد سيدنا وسيد الخلق أجمعين محمد بن عبد الله البشير النذير والرحمة
للعالمين، معبرين عن حب عميق، وعشق جميل ورقيق لهذا النبي العظيم بأخلاقه وسنته
وسيرته وشمائله وأقواله وحكمه، وكذلك العظيم بنجاحاته وفتوحاته وإبداعاته، التي
صنعت “خير أمة أخرجت للناس”110
آل عمران، هذه الشمائل والنجاحات
التي شكلت ثروة عظيمة من الأقوال والأفعال والتقريرات، جمعت ورتبت وأطلق عليها اسم
السنة النبوية والسيرة النبوية..

أيها الإخوة
الأفاضل، إن هذا الدرس تحت عنوان “سنة إدارة الوقت من خلال سيرة المصطفى صلى
الله عليه وسلم” هو وقفة تأملية تحت ظلال هذه السنة النبوية العظيمة من أجل
الاستمداد منها، والاعتبار بدروسها، والتأسي بمنهجها، فقد قال سبحانه وتعالى:( لقد
كان لكم في رسول الله أسوة حسنة).

ويجدر
بنا من خلال “تصحيح المفاهيم” المؤسسة للرؤية النبوية في التعامل مع الوقت
والزمن، أن نلتفت ابتداء إلى “مفهوم التأسي” بالنبي صلى الله عليه وسلم..
فهل التأسي هو الإمساك على شكليات المظاهر وجزئيات السلوك التي تتغير مع صروف
الزمن وتتقلب مع أحوال الاجتماع والاقتصاد في المجتمعات؟ أم أن التأسي يتقصد النظر
العميق في أسس الشخصية النبوية المبنية على الإبداع والحكمة، والنظر للغد والقصد
في المشي – أي تحديد المقصد والهدف- والاستعانة بالنصيحة والاستشارة والعمل
بالفريق؟..

ثم لابد
من تصحيح المفهوم الثاني الذي هو “اتباع سنة رسول لله”، فهل “السنة”
هي تلك التفاصيل الكثيرة من عادات الأكل والشرب واللباس، المبنية على العرف
المتغير والتقاليد المتحولة ؟.. ثم ما هي الأدوار الحقيقية لهذه الأعراف في التدين
والتقوى؟..

إنه
لابد من الانتباه إلى الفرق الجوهري بين مصطلح “التأسي” الذي يقوم على
اكتشاف المنهج والاعتبار بالمضمون أي ” التعقل” وبين “التقليد”
الذي لم نؤمر به والذي يعني الإغراق في التفاصيل أي ” العاطفة
العمياء”..

إن
اتباع السنة حسب “المفهوم القرآني للسنة” هو الانتباه إلى القانون
والمنهج الداخلي الذي يلحم تركيبة الفعل الواقعي، والسنة هي الأساليب النفسية
والفكرية المنتجة للقرارات والإجراءات العملية، “ولن تجد لسنة الله تبديلا
ولن تجد لسنة الله تحويلا”..

إنه من
خلال تصحيح هذين المفهومين يمكن أن ندخل على السنة و السيرة النبوية دخولا جديدا،
ونفتح آفاقا فريدة وغير مسبوقة  للتفكير في
سلوك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي كان سلوكا تحكمه أواليات عقلانية، مفعمة
بالحكمة ودقة التخطيط وكمال التدبير وحداثة الإدارة.

وقد ارتأيت
أن أدخل على إحدى سنن النبي صلى الله عليه وسلم وهي “سنة إدارة الوقت”  لتكون تطبيقا لهذا المنهج في التعامل مع سيرة
نبي عظيم، نجح عابدا، ونجح زوجا،ونجح مشرفا على الشأن العام .. وترك لنا سيرة غنية
بمؤشرات النجاح، فهل ننجح نحن في اكتشاف هذه المؤشرات ؟

وسيكون التأمل
في هذا الدرس مصوبا إلى “سنة” تناستها الأمة طويلا، بل وأخرجها البعض من
“دائرة السنن” ليستبدلها بجزئيات من السلوك بعضها في الأصل عادات وبعضها
تقاليد، وأكثرها أعراف اجتماعية.. وأطلق على هذه الجزئيات من الأفعال والتصرفات
اسم السنة .. ومعروف عند العلماء المحققين أن الأعراف والعادات ليست من الأصول
الثابتة للتشريع، لأنها متحولة ومتغيرة مع الزمن، ولهذا قرر علماؤنا بالإجماع أن الأصل
والقاعدة في العبادات الإتباع (أي عدم الزيادة فيها أو النقصان)، وأن الأصل
والقاعدة في العادات الابتداع ( أي ضرورة تطويرها وتجديدها عبر التاريخ)

وسأعطي
مثالا واحدا في هذا السياق، يأمرنا القرآن الكريم بإعداد القوة والتأهب للدفاع ضد
العدوان، يقول سبحانه: “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل”..
فكل فهم حرفي سطحي اختزالي للآية، يذهب إلى أن المقصود  هو أن نتبع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
في الإعداد للحرب، والتي هي اعتماده عليه السلام على “الخيل والمشاة والرماة”
في المؤسسة العسكرية.. والحقيقة أن الآية بروحها، والتطبيق النبوي لها في عمقه، هو
اعتبار لما عليه مفهوم القوة وتقنياتها في عصر النبوة، أي الاعتماد على ما يسميه
ابن خلدون “ما هو متاح”، فيكون ما هو متاح لنا في العصر الحاضر تطبيقا للآية
وتأسيا بالسنة، هو إعداد “الطائرات الحربية والمدرعات والصواريخ والأساطيل
البحرية”، لأن الفهم الحقيقي للسنة متحرك ومتحول بتحول الواقع والأفكار
والعلوم ..

غير أنه
لابد من الإشارة هنا إلى أن “الفهم الحرفي الظاهري” للسنة، يشكل – بغض
النظر عن النوايا- يشكل تسميما حقيقيا لعقل الأمة، وخطورة بالغة على مستقبل
المسلمين، بل إنه تهديد مباشر لوجود الأمة وثوابتها..

أيها الإخوة
المومنون، يقصد “بسنة إدارة الوقت” أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يلتزم بتنظيم الوقت ومراعاة الزمن والحرص على عدم تضييع الدقائق، والخوف من إخلاف
المواعيد، والاهتمام بمراقبة الهلال ودخول الشهر، والالتزام بجدولة الاتفاقيات
والمعاهدات، وتقسيم مدة اليوم والليلة بين العبادة والعمل وشؤون الأهل، وواجبات
الدعوة إلى الله، وقضايا التنمية الاجتماعية من رعاية للأيتام والفقراء، واهتمام بالشأن
العام تقسيما دقيقا ومبرمجا.. إن هذه الالتزامات يحترمها النبي صلى الله عليه وسلم
كما يحترم المضمضة في الوضوء ثلاث مرات، والدخول إلى المسجد بالرجل اليمنى، وشراء أضحية
العيد..

ولهذه
الاعتبارات سميت “إدارة الوقت” سنة نبوية شريفة..

لقد نبه
الله تعالى إلى أهمية الوقت والزمن بقوله عز وجل: ( إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر
شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض، منها أربعة حرم، فلا تظلموا فيهن أنفسكم)..
وقال صلى الله عليه وسلم: “لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع
خصال، عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه،
وعن علمه ماذا عمل فيه ؟”

إن الوقت
هو الأطول لأنه قياس الخلود، وهو الأقصر لأنه ليس فينا من يملك الوقت اللازم لإنجاز
كل أعماله، وهو الأسرع بالنسبة للسعداء، وهو الأبطأ بالنسبة إلى التعساء، وتكمن
خطورة الوقت في أنه لا يمكن عمل أي شيء بدونه لأنه المسرح الوحيد الذي نعيش فيه، إنه
مادة الحياة يبتلع في طي النسيان كل تافه وينمي كل عظيم، والزمن هو الإنسان عندما
نترجم اللحم إلى دقائق، ولهذا قال الحسن البصري وهو احد أعلام التصوف السني في الإسلام:
“يا ابن آدم، إنما أنت أيام، كلما ذهب يوم ذهب بعضك”، وقد بين الله
تعالى في القرآن، كيف أن عمر الإنسان، بل عمر الإنسانية كلها قصير وقليل، حتى بمنظور
النسبية الفيزيائية، ولنقل بمنظور الزمن الكوني المطلق، قال تعالى:” قال كم لبثتم
في الأرض عدد سنين؟ قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين، قال إن لبثتم إلا قليلا لو كنتم تعلمون، أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون؟ “[ المومنون115].

لهذا
نجد النبي صلى الله عليه وسلم قد شدد على إدارة الوقت الخاص، وكذا وقت العمل وحث
على اغتنامه وعدم إضاعته، فالإنسان مسؤول يوم القيامة عن ساعات عمره وماذا عمل
فيها، وكم قدم فيها من الخير والعمل الصالح للناس..

فهل
فعلا كان النبي صلى الله عليه وسلم مهتما بإدارة الوقت؟

وهل تلزمنا
السنة النبوية، والتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، بإعادة
النظر في طريقة إدارتنا لأوقاتنا؟

أيها الإخوة
المومنون، إن اتباع سنة رسول الله والتأسي بمنهجه، والاحتفال بسيرته العطرة، ليست
فرحا سطحيا، ولا تفاؤلا عابرا، ولا ابتهاجا باردا، ولا حتى التزاما بشكليات السلوك
أو تمسكا بحرفيات الأحاديث، وإشغالا للناس بأمور جزئية لم يهتم بها النبي صلى اله
عليه وسلم، ولا سأله عنها الصحابة رضي الله عنهم.. ولو اشتغلوا بها ما نصروا عقيدة
التوحيد، ولا هزموا امبراطوريتي  فارس
والروم،  ولا بنوا حضارة إسلامية شامخة..

بيد أن
بعضا من “المحسوبين على العلوم الشرعية” وعلى “إرشاد الناس إلى
الحق” قد خانوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم خيانة فاضحة، واتخذوا المنهج

القرآني في الحكمة والتعقل مهجورا، وألهوا الشباب بباطل من القول وسخف من الجدل،
وغرقوا في غيبوبة من المباحث والقضايا والاهتمامات التي ما عرفها السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين .. وعندما
قام الأوروبيون بتصنيع النفط وتلوين مشتقاته والتفنن في علومه ودراساته، ثم صنعوا
الناقلات العملاقة فحملته إلى أرضهم، كان شطارنا هؤلاء غائبون عن ساحة الاجتهاد
والإبداع، مشغولون بالجدال حول: “هل أموال النفط تخرج فيها الزكاة أم لا
زكاة فيها ؟؟”

وقد طور
علماء الغرب تقنيات عالية الدقة في الاتصال وعلوم الفضاء والتصوير بأنواع مختلفة
من الأشعة، فصوروا كل متر نعيش فوقه من الأرض وأحصوا علينا ممتلكاتنا وتاريخنا
وجغرافيتنا، بل واخذوا “صورا دقيقة” من أقمارهم الاصطناعية للخيرات في
باطن الأرض.. ونحن ننظر مندهشين، وبعض فضلائنا الأجلاء لا يزال يفتي الناس
“بأن التصوير حرام؟؟”(محمد الغزالي)

إن هذه
مؤشرات فقط تبين كم هي فادحة النتائج المترتبة عن الأفهام الساذجة والتحريفية
للسنة..  فادحة على مستقبل التنمية العقلية
والفكرية والاقتصادية والحضارية لأمتنا.. هذه الأفهام التي يجتهد “البعض”
بحماس غريب في نشرها وإشاعتها بكل الوسائل في صفوف شبابنا وبناتنا للأسف الشديد..

أيها الإخوة
المؤمنون، إن الاحتفال بمولد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبهنا ويذكرنا 
بأننا أمام نبي عظيم، وشخصية تاريخية فذة “ملأت الدنيا وشغلت الناس
بل ولازالت  تشغلهم في “هولندا
والدانمارك”..  وقد ترك لنا هذا النبي
العظيم منهجا في التزكية والحكمة( رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم
الكتاب والحكمة)، وبالمصطلحات المعاصرة ترك لنا ” استراتيجية في التربية
والتكوين” فينبغي أن ننتبه إلى هذا الكنز العظيم الذي بين أيدينا، إنه كنز
يحتاج إلى عقول مستكشفة ومنقبة بين ثنايا السنة والسيرة النبوية (وتلك الأمثال
نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون).

والحقيقة
أن دراستنا للسنة ينبغي أن يطالها التغيير، فليس المهم أن نعلم أبناءنا بأن نبينا صلى
الله عليه وسلم قد انتصر في “غزوة بدر” في السنة الثانية للهجرة، وإنما
الأهم أن نكشف لهم أنه لا يوجد نصر في تاريخ البشرية – كما تعلمنا فلسفة التاريخ –
لا يوجد نصر، ليس وراءه ” إدارة استراتيجية “، تقوم على سبعة أركان وهي:

ـ تحديد
الأهداف.
ـ الخطط.

ـ الإجراءات.
ـ القواعد.
ـ البرامج.
ـ الموازنات
التقديرية.
ـ و
أخيرا “إدارة الوقت”..

إن ما لا
نقوله لأبنائنا للأسف، هو أن الانتصار
في “غزوة بدر” كانت وراءه خطة و استراتيجية، ووضع للأهداف وتحديد
للأولويات والميزانيات، وتوزيع للأدوار وإدارة نبوية للزمن والموارد البشرية..
ولهذا فالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم واتباع سنته، هما إدراك لأساليب الإدارة
النبوية الناجحة وتدبيره المندمج وقدرته على التخطيط، وإتقان التنفيذ وممارسة
التقييم والتغذية الراجعة feed
back .. فسنته صلى الله عليه وسلم هي منهج متكامل من العبقرية والحكمة
والأخلاق، والإدارة ومشاورة الصحابة ومراعاة الظروف، وعدم المغامرة بالقرارات
المتسرعة، ثم حساب دقيق للزمن.. ويبدو جليا كل هذا من خلال تصفح عميق للسيرة
النبوية العطرة حيث نكتشف كم كان نبينا عبقريا وصارما في تدبيره للزمن وفي رؤيته
المستقبلية..

فنجده صلى
الله عليه وسلم، قد ملأ وقته قبل البعثة، بالاختلاء في الغار ومداومة التأمل
واعتزال الناس من أجل تجميع أفكاره وتعميق رؤيته، فكان يخلو بنفسه في غار حراء من عشرة
أيام إلى شهر كامل، ينفرد بنفسه في لحظات وساعات من التأمل العميق للواقع من حوله بأشخاصه
وأحداثه وأفكاره..

فالتأمل
استغلال جيد للوقت، فهو جهد “جواني” – أي باطني –  للتعرف على الذات وعلى مكان الإنسان في العالم، والتأمل
يؤدي إلى الحكمة والكياسة والطمأنينة وتجميع الأفكار، وينتج التأمل نوعا من “التطهير
النفسي” الذي سماه الإغريق “كترسيس” catharsis ، ويسميه  الصوفية “الخلوة من أجل التخلية”..(قل
إنما أعدكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا)[ سبأ 46]،
والتخلية في المفهوم الصوفي هي: تنقية النفس من المساوئ والخواطر الضارة، إن التأمل
تكريس النفس للإسرار والاستغراق في الذات للوصول إلى حقيقة تركيبية للأشياء..

وقد كان
حكماء “لابوتا  lapota ” في آسيا يستغرقون في تأملاتهم
حتى أنهم لم يكونوا يلتفتون أو ينصتون إلى أولائك الذين كانوا يزعجونهم بكثرة الأسئلة..
وتذكر لنا الأسطورة أن “بوذا” قبل أن يخرج على الناس مصلحا كان يقف على
ضفة النهر ثلاثة أيام نهارا وليلا مستغرقا في التفكير والتأمل، وقد أمضى “تولستوي”
حياته يفكر في الإنسان وآلامه ومصيره.. وإبداعات الرجل تدل على العبقرية التي كانت
تسكنه(islam between east
and west  bekovetch ,) 

فالتأمل
هو تدبير آخر للوقت، لأنه يختصر علينا الكثير من الجهود التي قد نصرفها في
المحاولة والتجريب والخطأ والتعثر، إنه محاولة للوصول إلى الهدف بأقصر طريق وبأقل الأخطاء،
وباستثمار ذكي وجيد للوقت..

وعندما أمر
الله سبحانه النبي صلى الله عليه وسلم بالنزول إلى الدعوة في الميدان من أجل بداية
العمل الفعلي والتدبير الواقعي لإنجاح عقيدة التوحيد والتبشير بها ( فاصدع بما
تومر وأعرض عن المشركين)
[الحجر94]، كان عليه السلام يعي قيمة الزمن وأهمية الوقت في نجاح
المشاريع، حيث قضى سنوات في الدعوة السرية، ثم انتقل إلى الدعوة الجهرية، ثم إلى “الهجرة
إلى المدينة” في لحظة زمنية وتاريخية مدروسة بدقة وعناية..

إن الإدارة
الحقيقية للوقت تظهر من خلال قدرة الشخص على أن يحقق الأهداف التي رسمها في المدة
الزمنية التي قررها، مع مراعاة أن تكون الخطة متوافقة مع الزمن الممكن والمتاح..

فلا
يعقل أن يتعلم المسلم “التقنيات الأولية للإعلاميات” في أكثر من “شهرين”
مستعينا بالعمل الجاد والإدارة الذكية لوقته، وإلا كان مضيعا ممتازا للوقت، ومبذرا
للزمن غير مدرك لأهميته، والذي يتأمل حياة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد
بأنه قد حقق جميع الأهداف التي بعث من أجلها في مدة زمنية لم تتجاوز (23 سنة)..

  فقد بعث
صلى الله عليه وسلم بالرسالة وله من العمر 40 سنة، وتوفي وعمره 63 سنة، وكان قد نجح
في تحقيق جميع الأهداف التي أخبر بها الصحابة من قبل.. بيد أنه لا ينبغي أن نبالغ
في اعتبار تدخل “الغيب” في انتصارات النبي صلى الله عليه وسلم كما يحلو
للعقلية العجائبية والغرائبية أن تدعي، وذلك بالقول بأن النبي صلى الله عليه وسلم
قد اعتمد على الملائكة وعلى المعجزات وتدخل السماء في تحقيق أهدافه.. فسيرته صلى
الله عليه وسلم تفنذ هذه الادعاءات الخاطئة والقراءات التحريفية، إذ تعلمنا السيرة
النبوية بان رسولنا صلى الله عليه وسلم قد انتصر في حروب كما انهزم في أخرى، فقد
انهزم المسلمون بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم في “غزوة أحد” عندما لم
ينضبط الرماة لخطة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سجل القرآن الكريم هذا الحدث وأعطاه
التقييم الإداري الواقعي وحمل المسؤولية للمحاربين( قل هو من عند أنفسكم ) [آل عمران165]، أي أنها أخطاء ارتكبتموها فتحملوا مسؤولية عواقبها، – (
إنه لمن المدهش أن تبقى ساحة  معركة
أحد  لحد الساعة هي الساحة الأكثر بروزا
بمعالمها كلها: مكان وقوف الرماة، ساحة المعركة، جبل أحد، وقبر حمزة رضي الله عنه،
هذه المعالم التي لا زالت تزار من طرف الحجاج إلى اليوم، غير بعيد عن المسجد
النبوي بالمدينة المنورة، وكأن في الأمر تذكيرا للمسلمين إلى يوم القيامة، ودروسا في
الواقعية والحذر واحترام الاستراتيجيات وعدم تعليق الهزائم على القضاء والقدر) -..
وهذه إشارة إلى أن المعطيات الواقعية والبشرية هي التي تصنع النصر أو تصنع
الهزيمة.. ويدلنا على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعول على التخطيط البشري والإداري
في انجاح أعماله، كثرة مشاوراته لأصحابه، ففي غزوة بدر اتخذ النبي صلى الله عليه
وسلم قرارا بنزول الجيش في مكان معين، فتدخل “الحباب بن المنذر” يقترح
مكانا آخر، فتبع النبي رأي الصحابي  وتنازل
عن موقفه ” النزول عند آبار منطقة بدر”..

كما أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان أحيانا يختار اختيارات معينة، لكن العدو كان يفرض
تغيير هذه الاختيارات، كما وقع في الحديبية عندما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى
العمرة فمنعه المشركون من دخول مكة، ووقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين
اتفاقية الحديبية:” صلح الحديبية ” التي اغضبت  بنوذها بعض الصحابة ، فالتنازلات التي تنازلها
النبي صلى الله عليه وسلم في المعاهدة كانت قراءة ذكية للزمن، وتدخل في إطار
” خطوة إلى الوراء للقفز خطوتين إلى الأمام”..

إن هذه الأمثلة
تبين أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان يتصرف كرجل إدارة بامتياز، يدبر أمور الإدارة
بشكل واقعي، ومراعيا للتوازنات والإكراهات والظروف المحيطة “معتمدا على الله
سبحانه”، وعلى عدم ترك أي إجراء أو تدبير للصدفة.. وعدم الإقدام على
المغامرات الغير محسوبة النتائج، فكان صلى الله عليه وسلم يراعي الظروف الاجتماعية
والاقتصادية والقبلية والدولية آنذاك، بل و راعى صلى الله عليه وسلم موقف “الرأي
العام” كذلك، في الرد على الصحابة الذين طلبوا منه الإذن في أن “يقتلوا
المنافقين” الذين يعيشون في المدينة بين المسلمين، وينشرون الفتنة والبلبلة
وينسقون  مع المشركين في إضعاف المجتمع الإسلامي..
فقد كان جواب النبي صلى الله عليه وسلم حكيما ومراعيا للظروف والحيثيات :”
لا، أتريدون أن يقال أن محمدا يقتل أصحابه ؟؟”..

ولم يحطم
صلى الله عليه وسلم أي صنم من الأصنام (360) التي كانت حول الكعبة ” لأن
الوقت لم يحن بالمنظور الإداري والاستراتيجي، ولأنه صلى الله عليه وسلم كان يدرك
بأن الصنم قبل أن يكون قطعة “حجر أو طين” يمكن تكسيرها بضربة فأس، هو “فكرة
وسيكولوجية” ينبغي تغييرها بالمجادلة والحوار والحجاج والأدلة الفكرية
والمعرفية، وبمنهج تربوي طويل الأمد تشكل “إدارة الوقت” جزءا مهما من خطة
نجاحه، وعندما تتغير أفكار الناس فهم بأنفسهم سيكسرون أصنامهم بأيديهم ( هذا ما حصل
بالفعل بعد فتح مكة في السنة 8 للهجرة، لكن بعد 21 سنة من بداية الدعوة ..

ويجدر
التذكير بأن هذا المنهج، عميق في التغيير التربوي والارتقاء القيمي الذي نحتاجه كآباء
وأطر تعليم وقيمين دينيين وحتى فاعلين في المجتمع المدني، وينبغي أن نقنع شبابنا
المتحمس والمنفعل بالمظاهر، والذي يشرع في “ردود فعله” بدون صرف الوقت
الكافي لدراسة وتفهم جذور المشكلات والأفكار التي خلف الظواهر، فلا بد من الانتباه
إلى الخلفية الفكرية والمعرفية والسيكولوجية في تغيير التوجهات والاختيارات،
فكثيرا ما يستفز شبابنا بشعارات وأحداث يصنعها الآخرون.. من أجل ضرب “التماسك
الاجتماعي” أو “الوحدة الوطنية” أو “محاولة تفتيت إجماع الأمة
المغربية حول ثوابتها” فوجب أخذ الحذر والاستنان بسنة النبي صلى الله عليه
وسلم في هذا المجال..

إن الله
تعالى يأمرنا في القرآن الكريم بالتأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم، والأمر في
القرآن الكريم عند علماء الأصول إذا أطلق يدل على “الوجوب” عند غياب
القرائن الصارفة، يقول سبحانه (لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجو
الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا)[
الأحزاب21]، فليكن تأسينا بنبينا
بحرصنا على سنته في إدارته لوقته، وتدبيره لعمره، فقد بعث صلوات الله عليه وعمره
(40 سنة) وتوفي وعمره (63 سنة)، فكانت مدة (23 سنة) كافية ليحقق جميع أهدافه:  قسمها إلى (13 سنة) بمكة، منها (03 سنوات) في
الدعوة السرية، و(10 سنوات) في الدعوة الجهرية، أسس خلالها أول تجمع بشري يوحد
الله، ثم أمر أصحابه بالهجرة إلى المدينة ليبني في السنة الأولى للهجرة المسجد
ويضع الدستور ( وثيقة المدينة)، وينتصر في السنة الثانية في غزوة بدر، ثم بني
قينقاع وبني النضير وذات الرقاع وبني المصطلق.. وكلها مواجهات عدوانية صدها صلى
الله عليه وسلم بنجاح ما بين السنة الثالثة والخامسة للهجرة.. ثم توجها بصد أكبر
تحالف جمع بين المشركين واليهود والقبائل في “غزوة الأحزاب” سنة 5
للهجرة.. لينتصر ديبلوماسيا بعقد “اتفاقية الحديبية” التي أوقفت الحرب
لمدة “عشر سنوات”، وهذا ما كانت تحتاجه الدعوة الإسلامية، لأن عقيدة
التوحيد تنتعش في ظروف السلام والحوار خلافا لما يظنه البعض.. ثم انتصر النبي صلى
الله عليه وسلم في خيبر سنة 7 للهجرة بعد خرق المشركين للهدنة.. وكان الانتصار
الباهر هو “فتح مكة” واستسلام المشركين في سنة 8 للهجرة بدون إراقة قطرة
دم، ثم انتصر في حنين، وتوج انتصاراته بأكبر موسم للحج في تاريخ مكة سنة 10
للهجرة.. توفي بعده صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر بعد أن أرسى دعائم مجتمع
التوحيد ودولة العدل..

أليست
هذه الكرونولوجيا دليل ساطع على أننا أمام أرقى أساليب الإدارة المعاصرة وأعظم
شخصية في التخطيط والتدبير؟.. أليست سنة “إدارة الوقت” سنة نبوية يحاسب
عليها كل واحد منا يوم القيامة..

أيها الإخوة
المؤمنون، لقد قام “خبراء إدارة الوقت” والمهتمون بتنمية “القدرات الإبداعية”
بحساب دقيق للطريقة التي يصرف بها شخص عاش (60 سنة) أوقات عمره فوجدوها كالتالي:

عاش 60
سنة، قضى منها في النوم ليلا (20 سنة) بمعدل 8 ساعات في اليوم ( مع اعتبار أن هذا
حدا أدنى ، بدون احتساب وقت القيلولة ولحظات المرض)..

9 سنوات لكسب الرزق.
10 سنوات لمشاهدة التلفزيون.
9 سنوات لتناول الطعام.
2 سنتان في القراءة.
6 أشهر في الحمام.
5 أشهر في انتظار الحافلات للسفر
والتنقل.
3 أشهر في تنظيف الأسنان.
1 شهر واحد الضغط على أرقام الهاتف من
اجل إجراء المكالمات.
1 شهر واحد في الحلاقة.
8 أيام لربط الأحذية …
 (المرجع : كتاب “دليل التدريب القيادي
للدكتور هشام الطالب، ص 196)

إن 3/1
(ثلث) أعمارنا نقضيه في النوم ليلا، فينبغي أن نتصرف بحكمة في ما تبقى لنكون فعلا
متأسين بسنة رسول الله صلى
الله عليه وسلم في إدارته لوقته، بل إن
نبينا كان يستغل حتى أوقات الليل  بأمر من
ربه عز وجل :” يا أيها المزمل قم
الليل،
إلا قليلا نصفه أو انقص
منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا) .. فلنحذر من تضييع أعمارنا في توافه
المشاغل و الأعمال، فقد قال صلى
الله عليه وسلم:” نعمتان مغبون
فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ ” أي يجهلون قيمتهما..

لقد
اتضح لنا من خلال ما بسطنا بأن النبي صلى الله عليه وسلم، كان
نعم المدير للوقت، ونعم المحترم للزمن؛ ألم يعلمنا المحافظة على المواعيد ” آية
المنافق ثلاث… وإذا وعد أخلف.”؟ ألم يحترم التزاماته الزمنية في أدائه
لديونه وإرجاعه لرهونه ؟ ألم يكن دقيقا في حساب أذكاره وعدد تسبيحاته، وهو يقول
” إني لاستغفر الله في اليوم 100 مرة “، ألم يكن مهتما بحساب الأيام
ومدققا في دخول الشهر وظهور الهلال؟

 أليست محافظته على الصلوات عند سماع الأذان دليل
على اهتمامه النبي صلى الله عليه وسلم بحركة الشمس ومرور الزمن؟؟

لقد
حدثنا القرآن الكريم عن نبي الله يوسف عليه السلام، كيف أنقذ المجتمع المصري من
مجاعة محققة في سنوات “العطب المناخي” بفضل خطته الاقتصادية لحل أزمة
الجفاف وتفادي عجز الميزانية.. وهو المكلف حينها بمالية مصر في عهد الهكسوس، فقد
قدم عليه السلام جدولة دقيقة زمنية دقيقة لصرف الميزانية، واستهلاك الاحتياطي
القومي من الحبوب مع استحضار الرؤية المستقبلية .. قال تعالى 🙁 قال تزرعون سبع
سنين دأبا، فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تاكلون، ثم تأتي من بعد ذلك
سبع شداد، يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون، ثم يأتي بعد ذلك عام فيه يغاث
الناس وفيه يعصرون)[ يوسف47].

فلنحرص
على سنة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إدارته لوقته سواء في بيوتنا، أو
في دراستنا، أو في تجارتنا، أو في وظائفنا.. 
ولنكن أوفياء لمنهجه وسنته ومحجته.. وحسبي ما ذكرت من “سنة إدارة
الوقت” فهي معلم من معالم هذا المنهج النبوي المتكامل والناجح

 وينبغي أن نكون على وعي بالدلالة القرآنية
الحكيمة لمصطلح ” إسوة حسنة “، فالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم ليس هو “تقليد النبي”.. لأن التأسي ينبني على
“التعقل” واتباع المنهج Méthode.. أما
“التقليد”، فينبني على “العاطفة” وهو إغراق في الجزئيات
والتفاصيل..

 فالتأسي سنة.. والتقليد حرام..

أيها الإخوة المؤمنون:

فلنخصص وقتا للتفكير، فإنه مصدر القوة.

ولنخصص وقتا للقراءة، فإنها أساس
الحكمة.

ولنخصص وقتا للصلاة وذكر الله، فإنهما
مصدر الطمأنينة.

ولنخصص وقتا للعمل، فإنه ثمن النجاح.

ولنخصص وقتا لحب الناس وخدمتهم،
فالحياة قصيرة.

ولنخصص وقتا للترفيه، فإنه تجديد
للشباب.

ولنخصص وقتا للرياضة، فإن العقل
السليم في الجسم السليم.

ولنخصص وقتا للتفوق والإبداع : لنحفظ
ما تيسر من القرآن فإنه منبع الهداية..

ولنتعلم لغة أجنبية، فإن
الله تعالى خلقنا شعوبا وقبائل لنتعارف.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق