مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات محكمة

سلسلة فقه المقارئ(2) مآخذ علم الكلام: تثوير وتثمير ﴿مـلك يوم الدين﴾

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده

وبعد فقد مضى أن سبيلنا اللاحب هـهنا في مدارسة الأحرف القرائية يتمثل في تعيين حرف الخلاف مع تبيينه وعزوه إلى أئمته والقرأة به، ثم تحرير خلفه؛ تفصيلا وتصنيفا: رواية وسوادا، لغة ودلالة: قوة وضعفا، حتى إذا ما تمهد صير إلى مآخذ علماء الكلام  فيه؛ ابتغاء تثويره ومفاتشته؛ تثميرا وتأثيرا: وهو ما عليه المنتحى في قوله تعالى: ﴿مـلك يوم الدين﴾ من خلال المعاقد الآتية  :

المعقد الأول: تبيين حرف الخلاف

فقد اختلفت القرأة في قوله تعالى: ﴿ملك يوم الدين﴾: إذ قرأه الجمهور «ملك» على وزن «كتف». وقرأه عاصم والكسائي وخلف ويعقوب«مـلك» بألف محذوفة رسماً، على وزن «فاعل». ووافقهم الحسن والمطوعي. ([1])  

فهاتان قراءتان متواترتان. ثم قرئ في الشاذ على هذه الأنحاء:  «مَلْك» بسكون اللام على وزن «سهل». و«مِلْك» على وزن «عِجْل». و«ملكي يوم» بإشباع كسرة الكاف.  و«مليكِ» على وزن فعيل. و«مَلَّــكِ» بألف ولام مشددة، ثم كاف مكسورة على وزن « فَعَّال ».

 و«مَلِكَ»  و«مــلِكَ» بفتح الكاف فيهما.

 و«ملكُ» و«مــلكُ» و«مليكُ» و«مــلكٌ يومَ» بضم الكاف في الجميع

و«مَلَك يومَ» فعلا ماضيا. و«ملكاً يومَ» ([2])

المعقد الثاني: تفصيل حرف الخلاف

فهذا مجمل ما روي في هذا الحرف من الخلف شاذا ومتواترا، وأما تفصيله فعلى الشكل الآتي:

أ- أما «مَلْك» و «مِلْك» فقد رواهما أبو بكر بن مجاهد عن أبي عمرو. قال رحمه الله:

1- حدثني مدين بن شعيب عن محمد بن شعيب الجرمي عن أبي معمر عن عبد الوارث عن أبي عمرو أنه قرأ «مَلْك» ساكنة اللام.

2- وروى غيره عن عبد الوارث عن أبي عمرو «مِلْك» مكسورة الميم وساكنة اللام.([3])

وروى الداني قراءة «مَلْكِ» عن البصري والشامي معا، قال رحمه الله: «وكلهم كسر اللام، إلا ما رواه محمد بن شعيب الجرمي، عن أبي معمر عن عبد الوارث، عن أبي عمرو.  وما رواه الفضل بن محمد الأنطاكي، عن وليد بن عتبة عن الوليد بن مسلم عن يحيى بن الحارث عن ابن عامر: أنهما سكّنا اللام».([4])

وهي آيلة إلى قراءة «مَلِك» المتواترة؛ كما وألت قراءة «بارئكم ويأمركم» اختلاساً وإسكانا عن أبي عمرو إلى قراءة الجمهور بالإشباع؛ إذ كان ذلك دأب ابن العلاء تطلبا للاستخفاف، واستنكافا عن الاستثقال، وهو ما أومأ إليه الإمام ابن مجاهد بقوله: «وهذا من اختلاس أبي عمرو الذي ذُكر أنه كان يفعله كثيرا، وهو كقول العرب في «كَبِد» «كَبْد» يُسكنون وسط الاسم في الضم والكسر استثقالا»([5])؛ من أجل ذلك قال الفيروز آبادي:«وأصله مَلِك ككتف فسكن، وهى لغة بكر بن وائل»([6])، فجعله أصلا لا فرعا للتخفيف؛ خلافا لابن مجاهد، وإليهما أشار النحاس بقوله: «على قول من قال «مَلْك» لغة، وليس بمسكن من ملِك».([7])

على أن في تعقيب ابن مجاهد على الحرفين «مَلْك» و«مِلْك» إشكال اندراج الثاني في «مَلِك» المثقل؛ لاختلافهما في حركة الميم فتحا وكسرا، المفضي إلى التغاير في البنية والمعنى؛ إذ الأول فَعِل من المُلك بالضم، والثاني مِلْك كعجل مصدر لمالك، قال أبوجعفر النحاس وغيره: «والمُلك مصدر المَلِك، ومصدر المالك مِلْك بالكسر»([8]) فلا أدري أينسحب كلام ابن مجاهد على الحرفين، فيشكل، أم على «مَلْك» دون «مِلْك» فيتجه، إلا أن حقه البيان والله أعلم.

ب- وأما قراءة «مَلِكي» بالإشباع فقد أسندها  المهدوي وغيره عن أحمد بن صالح عن ورش عن نافع([9])، وهذه ترجمة فيها تجوّز، ولعل المروم من ذلك إشباع كسرة الكاف وإيفاؤها حقّها، وتفكيكها وتخليصها من فتحة الياء التي بعدها من غير اختلاس ولا تمطيط، فمرجعها إلى «مَلِك» المتواترة؛ إذ كانت هيئة تلاوة وأداء لا حرف رواية ونقل، قال أبو عبد الله محمد بن خيرون في كتابه عن أصحابه عن ورش: ﴿ملك يوم ﴾ «لا يمدّ الكاف عند الياء، غير أن الكسرة فيها تظهر الياء المنصوبة التي بعدها.. وكذلك كل حرف مكسور يلتقي  بالمنصوبة يظهر الكسرة؛ لإخراج الياء من الكسرة»([10])، وإنما غر من عدها قراءةً عبارات المتقدمين فيها؛ لما عُهد فيهم من الاتساع في الإطلاق، والتوسع في العبارة؛ ولذلك قال الداني: «والمتقدّمون قد يتسهلون في العبارات، ويتّسعون في التراجم؛ اعتمادا على ما يفهم من حقابها، ويعلم من جري عادتهم فيها»؛ فينبغي إذ كان ذلك كذلك ألا تعد في القراءة، ولا تُذكر في الرواية، وهو ما قطع به الداني في هذا النص الطويل: «وقد كان بعض متقدّمي المغاربة من أصحاب ورش يتأوّل الإشباع فيما تقدم وشبهه أنه المولّد للحروف الصحاح، فكان يبالغ في تمطيط الكسرات مع الياءات، والضمات مع الواوات، وهم الذين يقولون: «ياءُ شَكْلٍ لقيت ياءَ سواد»، و«واو شكل لقيت واو سواد»، وذلك خطأ من متأوّله، وغلط من متأمّله، وجهل من قائله ومسجله والآخذ به؛ إذ التمطيط المولّد للحروف زيادة محضة، وكتاب الله تعالى محظور منها، وسواء كانت لفظا أو رسما»([11])، وأنكره كذلك الشيخ مكي بقوله: « أجمعوا على كسر الكاف من «ملك» من غير بلوغ ياء.. وكذلك ما كان مثله إلا شيئا تفرد به عن ورش بعض قراء أهل المغرب، وشاذ من غيرهم، من الإشباع حتى يتولد بعد الحركة حرف، وليس بالقوي ولا المشهور عند الحفاظ من رواية نافع، ولا عليه العمل عند من قرأنا عليه، وله وُجَيه »([12]) قال الجعبري: « يشير به إلى رد التمطيط عن ورش الذي شذ به بعض المغاربة عنه، وهو زيادة ياء بين الكسرة والياء، وواو بين الضمة والواو »([13])، وقد أوعب القول في ردها في الكشف، ومنه قوله: «فأردت بذكري لذلك إنكار هذه الرواية، ومنعها لشذوذها، وقلة رواتها، وترك الناس لاستعمالها في صلاتهم ومساجدهم ومكاتبهم»([14])

جـ- وأما «مليكِ» على وزن «فعيل» فلا زمام له، وقد أهمل ذكره الجلة،  وأنكره ابن خالويه رحمه الله (ت 370هـ) بقوله: «ومليك لغة فصيحة، وإن لم يقرأ بها أحد»، وأنشد بيت ابن الزبعرى([15])

يا رسول المليك إن لساني**راتق ما فتقتُ إذ أنا بور

وذكره لغة لا قراءةً أبو جعفر النحاس (ت 338هـ) حيث قال: «وفيه أربع لغات: مالك ومَلِك ومَلْك ومليك كما  قال لبيد:

فاقنع بما قسم المليك فإنما ** قسم المعايش بيننا علامُها([16])

قلت: ونظيره في التنزيل قوله سبحانه: ﴿ عند مليك مقتدر﴾ [القمر:55]

على أن الشيخ مكي بن أبي طالب قد استحسنه معنى، فقال: «وهو معنى حسن؛ لأنه بناء للمبالغة، فهو أبلغ في الوصف والمدح من ملك ومن مالك»،([17]) وإن رده بكونه «مما يخالف خط المصحف فلا يقرأ به»([18]) وتعقبه الحافظ في النشر  بأن قراءته «موافقة للرسم أيضا كتقدير الموافقة في «جبريل وميكائيل» بالياء والهمزة، وكقراءة أبي عمرو (وأكــن من الصالحين) بالواو»([19])، والأوجه ألا يتوسع في الموافقة التقديرية، على فرض القول بها؛ لأنها ضرورة لا ينبغي أن تتعدى محالها أعني ما تواتر أو استفاض من الأحرف؛ رغبة عن رده بالسواد.

فالحاصل أن الحرف فصيح لغة، حسن معنى، ضعيف رواية ، مخالف سوادا، وهذا ما أشار إليه ابن خالويه رحمه الله بقوله: «واللغة الثالثة «مليك»، ولم يقرأ به أحد؛ لأنه يخالف المصحف، ولا إمام له».([20])

د- وأوهن منه «ملـَّـك»؛ لإعراض الجمهرة عنه، ولم يحفل به أحد غير ثلاثة:

أولهم: أبوحيان معزوا لمن زعمه، قال: «وذكر أيضا أنه قرىء في الشاذ «مَلَّـــكِ» بالألف والتشديد للام وكسر الكاف».

والثاني: مجد الدين الفيروز آبادي قال: « و﴿ملَّــك﴾ بتشديد اللام».

والثالث: الحافظ في النشر معزوا لقائله أيضا، قال: «وعن علي بن أبي طالب ﴿ملَّــكِ يوم الدين﴾ بتشديد اللام مع الخفض» ثم قال معللا: «وليس ذلك بمخالفة للرسم، بل يحتمله تقديرا، كما تحتمله قراءة «مـــلك»، وعلى ذلك قراءة حمزة والكسائي: ﴿علــــم الغيب﴾([21]) وقد مضى في مثلها أنها موافقة احتمالية، والتوسع في ذلك نقيض الترخص؛ على أن في﴿ملَّــكِ﴾ ما يصادم المتواتر في ﴿مــلكِ﴾ بألف بعد الميم، ويبعد ألفان مقدران في كلمة واحدة إلا على شديد تكلف، فالمتجه اتباع الشيخ مكي في الإعراض عن هذا الحرف، وإن حسن معناه، وفصحت لغته؛ لمخالفته سوادا، وضعفه رواية؛ إذ مخرجه حسب اطلاعي واحد: فقد نص الإمامان: أبو حيان وابن الجزري على مصدرهما في حكاية هذا الحرف، قال ابن الجزري:« وبقيت قراءات أخرى عن الأئمة المشهورين في الفاتحة توافق خط المصحف، وحكمها حكم ما ذكر، ذكرها الإمام الصالح الولي أبو الفضل الرازي في كتاب اللوامح له».([22]) وهو المراد بقول أبي حيان: «وذكر أيضا..»، بل جل ماحكاه من شاذ القراءة مأخوذ عنه، فهو عمدته في روايتها، ومأرزه في حكايتها.  رحم الله الجميع.

وبه يتبدى أن جذم الحرف وأرومته الحافظ الكبير الإمام المقرئ أبو الفضل عبد الرحمـن بن أحمد العجلي الرازي (ت:454هـ) في كتابه: «اللوامح في شواذ القراءات»، فوجب المصير إليه، والنظر في مرويه، إن وفق الله لموفق العثور عليه بتمامه، والعناية به.

على أنه تفرد يؤذن بغرابته، ويوشك أن يكون مما قرئ به؛ لصحته عربية؛ ابتغاء حفظ اللغة مع حفظ الكتاب الكريم الذي نزل بها؛ ولوقوعه واتساعه ادعى بعضهم كون كثير من خلف القرأة من هذه الحيثية اختيارا في غير مروي، ومن هنا برز الطعن فيه؛ لاختلاطه بغيره، وتوسع الناس في حكايته كله؛ قصدا إلى التدوين الموعب لكل ما ورد، فلا عجب أن نجد الإمام أبا إسحاق الزجاج (ت 311هـ) ينبه على ذلك مرارا في معانيه؛ درءا لما عهد في زمانه من التوسع في الاختيار، وتنبيها للخَلَف؛ كيما يختلط المقيس بالمروي له، وهذه نماذج تقفك على حميد جهده، وجميل صنيعته:

1- ففي قوله تعالى: ﴿قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون﴾ [البقرة:14] قال: والقراءة المجمع عليها فتح العين، وقد يجوز في الاضطرار إسكان العين، ولا يجوز أن يقرأ بها.([23])

2- وفي تفسير قوله تعالى: ﴿ما لهم من محيص﴾  [فصلت:48] قال: ما لهم من معدل، ولا من منجى، يقال: حاص عنه إذا تنحى، ويقال: حاض عنه في معنى «حاص»، ولا يجوز أن يقرأ «ما لهم من محيض»، وإن كان المعنى واحدا([24])

3-وفي الزلزلة [آية:6] قال: والقراءة ﴿ليُروا أعمالهم﴾ ويروى «ليَروا أعمالهم»، ولا أعلم أحدا قرأ بها. ولا يجوز أن يقرأ بما يجوز في العربية، إذا لم يقرأ به من أُخذت عنه القراءة.([25])

4-وألحف في التنبيه حتى ولو خولف السواد، ومن ذلك قوله: ﴿منفطر به﴾ [المزمل:18] .ولم يقل «منفطرة»، ومنفطرة جائز، وعليه جاء: ﴿إذا السماء انفطرت﴾ ولا يجوز أن يقرأ في هذا الموضع «السماء منفطرة»؛ لخلاف المصحف.([26])

هـ – وأما «مَلِكَ»  و«مــلِكَ» بفتح الكاف فيهما. فهي قراءة رواها مكي  وغيره([27]) قال: قرأ أبوصالح([28]) «مـلِكَ يوم الدين» بألف والنصب على النداء، وكذلك قرأ محمد بن السميفع اليماني([29])، وهي قراءة حسنة

وقرأ شريح بن يزيد الحضرمي أبوحيوة([30]) «مَـلِكَ يوم الدين» بالنصب على النداء من غير ألف..([31])

ثم قال: وهذا كله موافق لخط المصحف، والقراءة به من رواه عن الثقات جائزة؛ لصحة وجهه في العربية، وموافقته الخط، إذا صح نقله.([32])

 ولحسنه اختاره أبوعبيدة، مؤيدا بسياق نظم الكلام؛ إذ الأصل مراعاة مقتضى الحال غيبة وخطابا، إفرادا وجمعا، إظهارا وإضمارا  إلا على سبيل من التجوز؛ وإذ كان ذلك كذلك وجب حمل الكلام على ما تقتضيه الظواهر، فيتعين نصب كاف «ملكَ»؛ على النداء؛ لكونه الأوفق في النظم لخطاب «إياك»،  قال : «مــلك يوم الدين» نصب على النداء.. مجازه: يا مــلك يوم الدين؛ لأنه يخاطب شاهدا، ألا تراه يقول: «إياك نعبد..».([33])

 ولم يعده الزجاج في المروي، وإنما هو اختيار لغوي، لا تستسحن القراءة به، فقال: «القراءة الخفضُ على مجرى ﴿الحمد لله مـلكِ يوم الدين﴾. وإن نصب في الكلام.. جاز في الكلام، فأما في القراءة فلا أستحسنه فيها». ([34])

وذاك ما فصله الطبري ردا على أبي عبيدة ومن تقيله، مبينا أن الذي أجاء من نصب حيرتُه في توجيه قوله: ﴿إياك نعبد..﴾) وِجهتَه، مع جر ﴿مـلك..﴾ وخفضه. فظن أنه لا يصح معنى ذلك بعد جره ﴿مـلك..) ، فنصب: ﴿مـلك..﴾؛ ليكون ﴿إياك نعبد﴾ له خطابا. كأنه أراد: يا مــلك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين.

وإنما أورطه في ذلك غفلته عن أمرين:

الأول: تأويل أول السورة على الأرضى  من المأثور، والأوفق بمهيع اللغة؛ إذ كان قوله: ﴿الحمد لله﴾ لفظه على الخبر، ومعناه على الطلب؛ لأنه «أمر من الله عبده بقيل ذلك، وتأويله: قل يا محمد ﴿الحمد.. ﴾ وهو الوجه في قوله سبحانه: ﴿إياك نعبد﴾، أي: قل يا محمد ﴿إياك نعبد..﴾.. »([35])

والأمر الثاني: ذهوله عن أساليب لغة العرب في البيان؛ إذ كان من سمتها في الخطاب، وطرائقها في الإعراب أن تنتقل من أسلوب إلى آخر: من الغيبة إلى الخطاب.. ومن الواحد إلى الجمع؛ صيانة للسمع عن مستوحش الرتابة؛ وإظهارا للمكنة في الكلام، والاقتدار على البيان، وتنمية لملكة الافتنان فيه، وافتراع أساليبه، ولذا سمي« شجاعة العربية..؛ لأن الشجاعة هي الإقدام.. وكذلك هذا الالتفات في الكلام، فإن اللغة العربية تختص به دون غيرها من اللغات»، ([36]) ويتأكد ذلك فيما يتلو القول من حكاية أو أمر بها؛ «لما في الحكاية بالقول من معنى الغائب والمخاطب»([37])

وهذا الذي ذكر الإمام كأنه تفصيل لإجمال أبي مسعدة الأخفش في معانيه إذ يقول: «وقد قرأها قوم ﴿مـلك﴾ نصب على الدعاء، وذلك جائز، يجوز فيه النصب والجر. ﴿إياك نعبد﴾ فلأنه إذا قال: الحمد لمـلك يوم الدين؛ فإنه ينبغي أن يقول «إياه نعبد»؛ فإنما هذا على الوحي: وذلك أن الله تبارك وتعالى خاطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قل يا محمد: ﴿الحمد لله﴾ وقل: «الحمد لمـلك يوم الدين» وقل يا محمد: ﴿إياك نعبد..﴾..» ([38])

وهذا الذي أبانه الأخفش موجزا في رد النصب، واختيار الرفع، وترجيح الإنشاء في «الحمد..»، كاف في الفسر والبيان. ولو اقتصر عليه الإمام الطبري لكان في غنية عما اجترح في تفنيد اختيار أبي عبيدة من الكلم: من وصمه بالورطة، واتهامه بالحيرة، ووسمه بجهالة التأويل، وزنه بالغفلة عن مسالك العرب في بيانها، فقال:  «إنما أورطه.. حيرته في توجيه.. ولو كان علم تأويل أول السورة.. وكان عقل عن العرب.. لسهل عليه مخرج ما استصعب عليه وجهته.. » ([39])

وإنه لمستكثر في حق إمام من إمام، في شأن اختيار تعضده اللغة، ولا يأباه التأويل؛ إذ الأصل في «الحمد..» الإخبار، والطلب عارض، وبيان ذلك من وجوه:

الأول: ما ثبت عن أئمة أعلام من نفي ورود صيغة الخبر بمعنى الطلب، ناهيك عمن ينكر ورود المجاز  في التنزيل بإطلاق، قال ابن العربي: «قالوا: إن الخبر قد يكون بمعنى النهي، وما وجد ذلك قط، ولا يصح أن يوجد؛ فإنهما يختلفان حقيقة ويتضادان وصفا». ([40])

الثاني:سلمناه ـ وهو الشائع عن أهل اللغة والأصول، والفقه والتفسير، قال ابن جني: «وقد جاءت ألفاظ الأمر ويراد بها الخبر، كما جاءت ألفاظ الخبر ويراد بها الأمر» .([41]) ولفظ الإنشاء يشمل الأمر والنهي ـ إلا أن حمله على الإنشاء مجاز، وعلى الخبرية حقيقة؛ ولذلك قال في المحصول: «والسبب في جواز هذا المجاز أن الأمر يدل على وجود الفعل، كما أن الخبر يدل عليه أيضا، فبينهما مشابهة من هذا الوجه، فصح المجاز» .([42]) قال الإسنوي موجها كلام الرازي: «وأراد أن بين المعنيين مشابهة في المعنى وهي المدلولية؛ فلهذا يجوز إطلاق اسم أحدهما على الآخر»، ([43]) ومعلوم لدى الكافة عند المراجحة أنها الأولى بالأخذ، وهو ما ذهب إليه أبو عبيدة رحم الله الجميع.

الثالث: فإن قيل: يقدم المجاز على الحقيقة إذا قويت قرينته، وصحت وسلمت من الاعتراض دلالته،، فالجواب هو:

أ-أن حمل اللفظ على الحقيقة أوهن من احتمال حمله على المجاز؛ لما في الأصالة من قوة ترجح على غيرها، وبه قال غير واحد من علماء التفسير، قال ابن جزي: «اختلف هل أوّل الفاتحة على إضمار القول تعليما للعباد: أي: قولوا: الحمد لله، أو هو ابتداء كلام الله»، ([44]) وهو الذي مال إليه ابن العربي فقال مضعفا مذهب الإنشاء: «قال بعض الناس معناه: قولوا: الحمد لله». وهو الظاهر من كلام البغوي، يشعر به قوله «وفيه»؛ حملا له على الدلالة التبعية، وهو مراد ابن كثير بقوله: «وفي ضمنه أمر عباده» قال البغوي: « ﴿الحمد لله﴾ لفظه خبر، كأنه يخبر أن المستحق للحمد هو الله عز وجل، وفيه تعليم الخلق، تقديره: قولوا الحمد لله»([45])

ب- وعلى فرض الرجحان؛ فإن الخلف واقع في تقديم أحدهما على الآخر عند التعارض، وهو ما لخصه القرافي في التنقيح بقوله: «إذا دار اللفظ بين الحقيقة المرجوحة والمجاز الراجح.. فيحمل على الحقيقة عند أبي حنيفة؛ ترجيحاً للحقيقة على المجاز، وعلى المجاز الراجح عند أبي يوسف؛ نظراً للرجحان. وتوقف الإمام في ذلك كله للتعارض». ([46]) وتفصيله في المطولات.

جـ- وهو ليس بمفروض؛ لأن اللفظ دال بأصله على الخبر، محتمل بمعناه للطلب، وقد فرق الأصوليون بين الدلالة والاحتمال قوة وضعفا، قال ابن دقيق العيد: «قاعدة ينبني عليها غيرها، يجب أن يعلم الفرق بين دلالة اللفظ على المعنى وبين احتماله له؛ فاحتماله له أن يكون بحيث إذا عرض المعنى على اللفظ لم يأبه ولم ينافره. ودلالته عليه: بأن يتناوله بأحد الدلالات الثلاث». ([47])

د- ولو فرضناه من باب الدلالة دون احتمالها، كان من باب الإجمال عند أرباب الأصول، ومن أوكد أحكامه ألا يحمل على أحد المعنيين إلا بدلالة مرجحة: وذاك ما لخصه في شأن المشترك صاحب التنقيح بقوله: «إذا تجرد المشترك عن القرائن كان مجملاً لا يتصرف فيه إلا بدليل يعين أحد مسمياته».([48])

 هـ- ولو فرضنا قرينة ترجح المجاز على الحقيقة، وهو ما رواه الطبري عن ابن عباس،([49]) فينبغي إذن حمله على المجاز وحده دون حقيقتة؛ وليس يصح أن يكون اللفظ الواحد حقيقة ومجازا؛ كما لا يصح حمل المشترك على جميع معانيه؛ خلافا لما حكي ضعيفا عن الشافعي فيه. وهـهنا مسألة تفرد بها القرافي في التنقيح([50]) وهي ضرورة التمييز بين الوضع والاستعمال والحمل، فصيغة الخبر موضوعة للإخبار دون الإنشاء في الوضع الأول، لكنها استعملت في غير ما وضعت له لعلاقة مع قرينة: فالاستعمال حاصل في الصيغة للأمرين أعني الحقيقة والمجاز، لكن يتعين في حق الحامل عند الحمل حملها على أحدهما؛ إذ يبعد جدا أن يقصد المخاطِب المعنيين المختلفين بصيغة واحدة. والحاصل أن الوضع أصل سابق، والاستعمال تصرف في الصيغة لاحق، والحمل محاولة السامع أو الناظر فهم الاستعمال بقرائنه؛ مستعينا بالوضع؛ لأنه الأصل. والعلامة الطبري رحمه الله لم يقدم الوضع الذي هو الأصل، وليته إذ قدم الاستعمال حمله على أحد أفراده، لا عليهما معا أعني الخبر والإنشاء، وهو ما يحتمله قيله: «حمد نفسه وأثنى عليها بما هو له أهل، ثم علم ذلك عباده، وفرض عليهم تلاوته، اختبارا منه لهم وابتلاء، فقال لهم قولوا: ﴿الحمد لله رب العالمين﴾..».

و- على أن الظاهر من صنيع الطبري ما قد يدل على الدور الممنوع؛ لأنه استدل على تعين الإنشاء في «الحمد» على تعينه في «إياك»، وعلى تعينه في «إياك» على تعينه في «الحمد»، وهذا ما يبدو من خلال هذين النصين:

قال في تعين القول في الحمد: .. «.. ما حذف من قول الله تعالى ذكره: ﴿الحمد لله..﴾ لما علم بقوله جل وعز: ﴿إياك نعبد﴾ ما أراد بقوله: ﴿الحمد لله رب العالمين﴾..».

 وقال في تعين القول في إياك: «ولو كان علم تأويل أول السورة، وأن ﴿الحمد لله..﴾ أمر من الله عبده بقيل ذلك – كما ذكرنا قبل من الخبر عن ابن عباس.. لسهل عليه مخرج ما استصعب عليه وجهته من جر مالك يوم الدين»([51])  

ومحصل الحاصل في هذا لاستطراد أن من العلماء من نفى الورود، أعني ورود الخبر بمعنى الإنشاء، ولو سلم لكان مجازا، ولو رجح لتوقف في شأنه؛ لمخالفته الحقيقة؛ على أنه من باب الاحتمال دون الدلالة، ولو سلم لكان مجملا، ولو رجحت قرينته للزم حمله على أحد أفراده دون السائر، ولو سلم ففي استدلاله دور ممنوع.

فهذه إشكالات سبع ترد على قيل الطبري رحمه الله، وما كان أغناه عنها ولو ضعفت، وعما كال لمعمر بن المثنى من الإقذاع في القيل، والإغلاظ في الملامة.

هذا من جهة العلم بالتأويل، أما اتهامه بالغفلة عما عُهد في كلام العرب من الالتفات فمناقش من وجهين:

الأول: أن الرجل إمام في لغة العرب، مأرز في بيانها، ومثله لا يتهم بغفلة ولا جهالة في شأنها، سيما وقد ورد في كتابه «مجاز القرآن» ما يستشهد به أرباب البلاغة في الالتفات؛ إذ كان أبا عذره، وأول من افترع القول فيه، من خلال هذه النصوص المأثورة عنه، قال رحمه الله:

أ- ومن مجاز ما جاءت مخاطبته مخاطبة الغائب ومعناها للشاهد، قال: «الم ذلك الكتاب» مجازه: الم هذا القرآن.

بـ- ومن مجاز ما جاءت مخاطبته مخاطبة الشاهد، ثم تركت وحولت مخاطبته هذه إلى مخاطبة الغائب، قال الله: «حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم» أي: بكم.

جـ- ومن مجاز ما جاء خبره عن غائب ثم خوطب الشاهد، قال: «ثم ذهب إلى أهله يتمطى أولى لك فأولى»([52])

 والثاني: أن الالتفات خلاف مقتضى الظاهر، قال في الجوهر المكنون:

ومن خلاف المقتضى صرف مُراد**ذي نطق أو سؤل لغير ما أراد

والالتفات وهْو الانتقال مِن **بعض الأساليب إلى بعض قمن

قال شارحه: «من خلاف مقتضى الظاهر الالتفات.. »([53])، والأصل رعايته، ولا يعدل عنه إلا لنكتة، أما إذا أعرب الكلام دون خلافه فلا محيد عنه. وهو عين ما ارتامه أبوعبيدة في تأويله: فقد راغ عن مذهب الالتفات إلى اختياره قراءة النصب على النداء؛ ليكون التقدير: «يا مالك إياك» وبه يسلم من مجاز الطلب، ومحظور الإضمار، وخلاف مقتضى الحال، ولو اختار الجر لاضطر إما إلى مجاز الطلب في «الحمد.. »، أو الإضمار على الإنشاء أيضا في «إياك».

 وهذا ما لخصه أحد نبغة التلخيص والتهذيب بقوله: «اختلف هل أوّل الفاتحة على إضمار القول تعليما للعباد: أي قولوا: «الحمد لله » أو هو ابتداء كلام الله، ولا بدّ من إضمار القول في: «إياك نعبد» وما بعده».([54])

وحاصل القيل أن الحرف غزير معنى، فصيح أسلوبا، أصيل لغة؛ إذ كان على مقتضى الحال، عريا عن المجاز والإضمار، عريق الموافقة سوادا، وإنما مأتاه من النقل، ولو صح فيه لم يبق مطعنا ولا نكيرا.

وبعد فقد جمح القلم هـهنا بما ترى، والقصد الإبانة بما للشيخين وما عليهما؛ تشوفا لعظيم ثمار هذه الصحبة، وحميد غب هذه المذاكرة، وحسبي بعد ذلك سمي إحساس بأني أتعلم.                                                                  


([1]) ن إتحاف فضلاء البشر بالقراءات الأربعة عشر للشيخ أحمد البنا الدمياطي: 1/339.

([2]) ن  الإبانة لمكي: 117،  والتحصيل لفوائد كتاب التفصيل للمهدوي: 1/125، وزاد المسير لابن الجوزي:1/19، والبحر المحيط للزركشي: 1/36، والنشر في القراءات العشر لابن الجزري: 1/47. ومعجم القراءات لعبد اللطيف الخطيب:1/8.

([3]) كتاب السبعة لابن مجاهد: 105

([4])  جامع البيان للحافظ أبي عمرو الداني: 1/407.

([5]) كتاب السبعة لأبي بكر بن مجاهد: 105. ن روضة المعدل للإمام موسى بن الحسن المعدل:3/20.

([6]) بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز مجد الدين أبو طاهر الفيروزآبادى: 4/521.

([7])إعراب القرآن لأبي جعفر لنحاس: 1/ 19

([8]) معاني القرآن للإمام أبي جعفر النحاس: 1/24

([9]) ن التحصيل للمهدوي: 1/125.

([10]) نقلا عن جامع البيان:1/408.

([11]) ن جامع البيان للداني:1/408.

([12]) التبصرة: 250

([13]) كنز المعاني في شرح حرز الأماني: 2/371.

([14]) الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها للشيخ أبي محمد مكي:1/33

([15]) إعراب القراءات السبع وعللها لابن خالويه: 1/47.

([16]) إعراب القرآن:1/19.

([17]) وتبعه العكبري في إعراب القراءات الشواذ (1/92)فقال: «ومليك بالياء أبلغ من مالك، وكذلك كل فعيل يجوز فيه فاعل فعيل أبلغ».

([18]) الإبانة: 124.

([19]) النشر لابن الجزري: 1/64.

([20]) إعراب ثلاثين سورة: 23، ولذلك قال في مختصر الشواذ:9 « مليك: بعضهم».

([21]) ن البحر المحيط:1/37. بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز: 4/521. النشر: 1/64، وقول الآلوسي: «وذكر أنه قرأ ﴿ملاك﴾ بالألف وتشديد اللام وكسر الكاف» آيل إلى أبي حيان في البحر.

([22])  النشر: 1/64.

([23])  معاني القرآن:1/88

([24])  معاني القرآن: 4/400

([25])  معاني القرآن: 5/352

([26])  معاني القرآن: 5/243.

([27]) ن روضة المعدل: 3/19، ومختصر شواذ القراءات لابن خالويه:9، وشواذ القراءات للكرماني:41، ونسبه في الإتحاف للمطوعي.

([28]) محمد بن عمير بن الربيع أبو صالح الهمذاني الكوفي مقرئ عارف بحرف حمزة، طال عمره وبقي إلى حدود عشر وثلاثمائة.

([29]) محمد بن عبد الرحمـن كان من أفصح العرب، قرأ على أبي حيوة شريح بن يزيد، وقيل: إنه قرأ على نافع.

([30])  أبو حيوة الحمصي مقرئ الشام، روى القراءة عن الكسائي (ت 203هـ).

([31]) الإبانة لمكي: 120-121.

([32]) الإبانة: 123.

([33]) مجاز القرآن لأبي عبيدة: 1/ 22.

([34]) معاني القرآن وإعرابه للزجاج: 1/47.

([35]) ن جامع البيان للطبري: 1/153 وما بعدها

([36])المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر لضياء الدين بن الأثير:2/135، ون تقريره لالتفاتات الفاتحة:1/137 وما بعدها.

([37]) ن جامع البيان للطبري: 1/153.

([38]) معاني القرآن للأخفش: 1/15.

([39]) جامع البيان للطبري: 1/153.

([40]) أحكام القرآن لابن العربي: 1/189.

([41]) المنصف شرح كتاب التصريف لابن جني:1/317.

([42]) المحصول للرازي: 2/34.

([43]) نهاية السول شرح منهاج الوصول للإسنوي: 2/18

([44]) التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي:

([45]) ن معالم التنزيل للبغوي: 1/73، تفسير ابن كثير:1/128.

([46]) ن شرح التنقيح للقرافي: 113

([47])  ن الإلمام لابن دقيق العيد:3/30

([48]) شرح التنقيح للقرافي: 113.

([49]) قال في شأنه: وهذا الخبر ينبئ عن صحة ما قلنا في تأويل ذلك.

([50]) ن رفع النقاب عن تنقيح الشهاب للشوشاوي: 1/203، وفي المسألة ذيول في الاتحاد والتغاير، والإفراد والتعدد محلا وزمانا، خطابا ومخاطبا. ن شرح تنقيح الفصول للقرافي: 109، سيما نص الآمدي فيه.

([51]) ن جامع البيان للطبري:1/140-153

([52]) ن مجاز القرآن لأبي عبيدة:1/ 11.

([53]) ن حلية اللب المصون للدمنهوري بحاشية الشيخ مخلوف البدوي:99

([54]) التسهيل لعلوم التنزيل للإمام ابن جزي الغرناطي: 1/177.

د. عبد الهادي السلي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق