وحدة المملكة المغربية علم وعمرانمعالم

سقايات مدينة تارودانت

  ظهرت السقايات بمدينة تارودانت منذ العهد المرابطي قبل أن تتسع في ظل السعديين والعلويين، واهتموا باستغلال مياه وادي سوس عن طريق ربطه بشبكة من القنوات والسواقي، تقوم باستقبال وجمع وتخزين وإعادة توزيع المياه التي تأتيها من المجاري المائية الطبيعية.

وتعتبر مدينة تارودانت من الحواضر التي لها ذكر ووجود فعال في أغلب مراحل التاريخ المغربي، فهي تقع في طريق التجارة مع السودان الغربي ودول الصحراء الكبرى، وبها يقيم نواب الحكومات المركزية من الأمراء والخلفاء والقواد، مما جعلتها تكون حاضرة بلاد السوس الأقصى وعاصمتها التقليدية[1].
ومع بزوغ فجر الدولة السعدية ظهرت المدينة مرة أخرى على ساحة الأحداث، فكانت مهد الدعوة، ومنطلق الفتوحات، فنالها السعد بذلك، حيث جددت معالمها، وأسست بناياتها وحصونها، وشيدت منارات العلم والعبادة في جنباتها، فاستبدلت البلى والخرائب بحسن العمارة ونضارة الجنان والحدائق، وورد إليها مهرة العمال وأرباب الصنائع، كما نفقت فيها سوق العلم بتوارد مشاهير العلماء والقراء، وامتلأت مساجدها ومدارسها بالطلبة الآفاقيين، فأصبحت منتدى الأدباء، ومقصد النجباء، فكان ذلك كله فاتحة عهد جديد في تاريخ هذه المدينة العريقة، حيث نشطت الحركة الفكرية والعلمية والاقتصادية …[2].

وقد اهتم السعديون بإقامة عدد من السقايات العمومية، قرب عدد من المرافق العمومية، كالمساجد الكبرى، وسجن المدينة وكانت السقايات عبارة عن بنايات كبيرة تتكون من واجهاتها من قوسين على الأقل، ينفتحان على صهريج كبير، تزوده السواقي، التي سبق ذكرها بالمياه العذبة، ويستعمله المارة وزوار المدينة من الغرباء ورواد المرافق المحاذية، للتزويد بمياه الشرب، وتلطيف أطراف الجسم إبان ارتفاع الحرارة، وللوضوء أيضا، ولم تندثر جل هذه السقايات، إلا منذ وقت قريب جدا، بفعل الإهمال، وبفعل جهل المسؤولين والسكان معا، بقيمتها الوظيفية، والحضارية والمعمارية والجمالية، ومن أشهر تلك السقايات: سقاية الجامع الكبير، وسقاية جامع الأحباب، وهي أجمل هذه السقايات وأكبرها، وسقاية مسجد سيدي أوسيدي، وسقايات سجن القصبة، التي لا تزال بقاياها شامخة، بالرغم من طول أمد الإهمال  ومن عبث العابثين بمعالمها[3]

واستفادت تارودانت منذ قرون خلت، من مياه أربع سواقي كبرى، كانت تخضع لنظام محكم في السقي، وفي تقسيم المياه بين ذوي الحقوق، اثنتان من هذه السواقي تخترقان المدينة من الشرق إلى الغرب، وتمران عبر حقولهما، وعبر أحيائها السكنية، بل إن بعض هذه الفروع السكنية ومصارفها تمر من تحت الدور السكنية في كثير من الأحيان، وهما ساقية تافلاكت وساقية تاملالت، بينما تمر ساقيتان أخريان، وهما تارغونت وتافوكت، بمحاذاة أسوار المدينة من الجهة الجنوبية، وتلعب هذه السواقي مجتمعة، أدوارا متعددة في الحياة اليومية للمدينة ولأهلها[4].

ساقية تافلاكت: ويعتقد أن الساقية من إنشاء المهندس عمر الفلاكي الذي سميت باسمه.

ساقية تاملالت : تنطلق شمال شرق تارودانت عند أولاد عرفة وتنساب مياهها موازاة مع ساقية تافلاكت من جهة الجنوب.

وتعد سقاية تارودانت بحومة القصبة جزء من التراث المعماري العريق لتارودانت، وبمقارنتها مع نظيراتها من خلال الصور التاريخية نلاحظ تطابق جميع السقايات الرودانية في هندستها المعمارية ومواد البناء، حيث تتكون من قوسين محدبين باتجاه الرأس قطرهما الأفقي متسع لتأمين الخدمة الجماعية بالدفعة وليس بالتوالي، تحيط بهما تشيلات هندسية عمودية وأفقية، والقرميد الأخضر العريض يعلو الكل، هو نمط العمارة الرودانية في بنيان اللبن الطيني الأصيل، على مستوى الأرض عند موقف الأرجل، يرتفع حاجز قصير بنفس مواد البناء أهمها آجور الفخار المسطح واللبن الجيري، لكن عامل الإندثار الذي كان من المترض حصوله بفعل تعاقب السنون والقرون، حصل على يد البشر مما نتج عنه طمس معالم سقاية المسجد الجامع العتيق، وهي التسمية الأصلية  للمسجد الكبير والمسجد الجامع الجديد بأم الأحباب[5].

فيما السقاية الثالثة بحومة القصبة ترامى عليها الأغيار، وترتب على الزايد السكاني المحلي، وتوافد القوافل المتبضعة الوافدة من النواحي القبلية المتاخمة لتارودانت، كهوارة ومنتاكة وأولاد يحيى وكطيوة، حفرت ثلاث سقايات جديدة في مواقع استراتيجية تقريبا للماء من الظمآن ليروى عطشه ويورد دابته، هذه الحفر تكون على هيئة فوهة بئر بعمق مترين أو ثلاث مفتوحة على حفرة كروية  الشكل تسمى  “المعدة” بسكون العين، وتجمع على “المعدات” وهي نقطة التقاء ماء جاري لأكثر من عين مائية، في اللغة العربية الفصحى تسمى النطفية، وثم تحوير النطق ليصبح “المطفية”، وارتبط الاسم بعدها في تارودانت بمكان جمع وتخزين قطر زيت الزيتون[6]

“المعدة” السقاية المستحدثة  الأولى كانت بساحة أسراك بجوار النخلة الحالية، والثانية بجنان جامع يسار الداخل إليه من جهة تالمقلات خلف المستوصف الحالي، والثالثة بسوق الخرازة أمام المدخل الغربي للمسجد، هذه الأخيرة حين ينعكس بداخلها بعض ضوء الشمس صيفا، يبدو للعيان جريان الماء، مما يجعل ماؤها بارد عذب زلال على  الدوام، بخلاف ” المعدة” ، الأولى والثانية فهما عبارة عن جيب مائي يتجدد صبيبه ببطئ كلما هبط مستوى الماء بفعل كثرة الجدب بالحبل والصطل، في وقت لاحق ثمرة سقاية معدة الخرازة، وشيدت مكانها سقاية عصرية قام المجلس البلدي بإغلاقها بعدما اتضح أنها تستغل في غير ما أعدت له أصلا، ومنه استغلال مائها في تجديد بناء المتاجر الحبسية بالإسمنت هناك. [7]

كانت هذه نبذة مختصرة عن سقايات مدينة تارودانت، بعضها لا تزال قائمة مكانها،غير أنها تراجعت مياهها بسبب زحف العمران، واستفحال الجفاف، ولطالما كانت هذه السقايات عنصرا هاما من عناصر تراث المدينة الطبيعي والحضاري  والعمراني… إلا أن أغلبها لحقها الخراب وطمست معالمها، ولم يعد لها وجود.

[1] –  دعوة الحق – الحركة العلمية في جامع الكبير بتارودانت – مصطفى بن عمر المسلوتي- عدد 325 /.

[2] –  دعوة الحق – الحركة العلمية في جامع الكبير بتارودانت – مصطفى بن عمر المسلوتي- عدد 325 /.

[3] –  مجلة المناهل – مدن وحواضر مغربية- مقال نور الدين صادق ص 183 العدد 98

[4] –  مجلة المناهل – مدن وحواضر مغربية- مقال نور الدين صادق ص 183 العدد 98

[5] –  الفضائل النفسية والاجتماعية والقيمية لبناء الأسبلة المائية الوقفية الخيرية ص 112 الطبعة الثانية  1436هـ، دار الهدى للطباعة.

[6] –  الفضائل النفسية والاجتماعية والقيمية لبناء الأسبلة المائية الوقفية الخيرية ص 112 الطبعة الثانية  1436هـ، دار الهدى للطباعة.

[7] –  الفضائل النفسية والاجتماعية والقيمية لبناء الأسبلة المائية الوقفية الخيرية ص 112 الطبعة الثانية  1436هـ، دار الهدى للطباعة.

ذة. رشيدة برياط

باحثة بمركز علم وعمران

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق