مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات وأبحاث

رِوَايةُ الأَكَابِرِ عَنِ الأَصاغِرِ «تعريفه – أقسامه– فائدته- أشهر المصنفات فيه»

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه

الحمد لله الذي شرف أصحاب الحديث في القديم والحديث، وجعلهم أمناء على شريعته كابرا عن كابر، فأصلوا مناهج الرواية، وآداب الطلب، فروى الكبير عن الصغير، والشريف عن الوضيع،  فلا زلنا نقف في دواوينهم على فنون في غاية الدقة في تحمل العلم، وآداب الرواية، وطرق التعليم.

ومن بين هذه الفنون الدقيقة ما يعرف في كتب مصطلح الحديث “برواية الأكابر عن الأصاغر“،  وهو بحق فن نفيس، حري بمن يشتغل بحديث النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعرف حدوده وماهيته، ففيه من الأدب الرفيع في التعليم ورواية العلم ، ما يدل  على تواضع العلماء، وأخْذِهِمُ العلم من أي شخص ، وإن كان دونهم في القَدْر والسن.

ولأهمية الموضوع خصصت له هذا المقال الذي أروم من خلاله التعريف بهذا الفن لغة واصطلاحا، وبيان أقسامه، وفائدته، وذكر أشهر المصنفات فيه.

فأقول وبالله التوفيق:

أولا: تعريف رِوَايةُ  الأَكَابِرِ عَنِ الأَصاغِرِ :

1- معنى الأكابر والأصاغر لغة:

جاء في لسان العرب لابن منظور:”والأكابر: أوفر الأسنان. والأصاغر: الأحداث، وقيل: الأكابر أصحاب رسول الله ﷺ، والأصاغر: من بعدهم من التابعين، وقيل: الأكابر أهل السنة والأصاغر أهل البدع”([1]).

2-  معنى رواية الأكابر والأصاغر اصطلاحا:

قال العراقي في التبصرة والتذكرة([2]):

وَقَدْ رَوَى الكَبِيرُ عَنْ ذِي الصُّغْرِ*** طَبَقَةً وَسِنّاً أوْ في القَدْرِ

أَوْ فيهِمَا وَمِنْهُ أَخْذُ الصَّحْبِ*** عنْ تابعٍ كَعِدَّةٍ عَنْ كَعْبِ

فرواية الأكابر عن الأصاغر معناها في اصطلاح المحدثين: رواية الشخص عمن هو دونه في السن، والطبقة، أو في العلم، والحفظ، أو فيهما معا.

بمعنى: أن يروي الراوي الحديث عمن هو: أصغر منه سناً وأدنى طبقة، والدُّنُوُّ في الطبقة كراوية الصحابة عن التابعين ونحو ذلك. أو يروي عمن هو أقل منه علماً وحفظاً ، كرواية عالم حافظ عن شيخ ولو كان ذاك الشيخ كبيراً في السن.

ثانيا: أدلة مشروعيته:

لقد استدل العلماء على مشروعية هذا الفن من خلال استقرائهم للأحاديث النبوية الشريفة، حيث ذكر الحافظ ابن كثير في الباعث الحثيث([3]) أدلة العلماء في جواز رواية الأكابر عن الأصاغر فقال: “ومن أَجَلِّ ما يُذكر في هذا الباب ما ذكره رسول الله ﷺ في خطبته عن تميم الداري مما أخبره به عن رؤية الدجال في تلك الجزيرة التي في البحر. والحديث في الصحيح([4]).

وكذلك في صحيح البخاري رواية معاوية بن أبي سفيان عن مالك ابن يُخامر عن معاذ، وهم بالشام، في حديث: “لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق([5])“.

ثالثا: أقسامه:

وقد بين أقسام هذا العلم بيانا شافيا الحافظ ابن الصلاح في مقدمته فقال: “ثم إن ذلك يعني رواية الأكابر عن الأصاغر على أضرب:

منهما: أن يكون الراوي أكبر سنّاً، وأقدم طبقة من المَروي عنه: كالزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري في روايتهما عن مالك.

ومنها : أن يكون الراوي أكبر قدراً من المَروي عنه: بأن يكون حافظاً عالماً، والمروي عنه شيخاً راوياً فحسب، كمالك في روايته عن عبد الله بن دينار، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه في روايتهما عن عبيد الله بن موسى.

ومنها: أن يكون الراوي أكبر من الوجهين جميعاً: وذلك كرواية كثير من العلماء والحفاظ عن أصحابهم وتلامذتهم، كالحافظ عبد الغني في روايته عن محمد بن علي الصوري، وكرواية أبي بكر البرقاني عن أبي بكر الخطيب، وكرواية الخطيب عن أبي نصر بن ماكولا. ونظائر ذلك كثيرة. ويندرج تحت هذا النوع ما يذكر من رواية الصحابي عن التابعي كرواية العبادلة وغيرهم من الصحابة عن كعب الأحبار.

وكذلك رواية التابعي عن تابع التابعي، كما قدمناه من رواية الزهري والأنصاري عن مالك، وكعمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص لم يكن من التابعين، وروى عنه أكثر من عشرين نفسا من التابعين، جمعهم عبد الغني بن سعيد الحافظ في كتيب له”([6]).

ونظم هذا كله في أبيات الشيخ عبد الله بن فودي رحمه الله (1245هـ) فقال: ([7])

أَكَابِرٌ فيِ السِّنِّ كَالزُّهْرِيِّ **** عَنْ مَالِكٍ وَيَحْيىَ اْلأَنْصَارِيِّ

أَوْ قَدْرٍكَماَلِكٍ عَنِ ابْنِ **** دِينَارِ أَوْكِلَيْهِمَا عَبْدُ الْغَنِيّ

رَوَى عَنِ الصُّورِيِّ وَالصَّحَابِي **** عَنْ تَابِعٍ وَذَا كَأَنَسٍ وَأَبِي

هُرَيْرَةٍ عَنْ كَعْبِ اْلأَحْبَارِ **** وَالتَّابِعُ عَنْ تَابِعِيهِ جَارِ

رابعا: فائدته:

لهذا النوع من علوم الحديث فوائد جمة منها الآتي:

1 – إحياء خلق التواضع في أخذ العلم وروايته:

فكما هو معلوم أن الأصل أن يروي الصغير عن الكبير- بمعنى: التلميذ يروي عن الشيخ – وليس العكس؛ لكن قد يكون عند التلميذ حديث لا يعرفه الشيخ فيرويه عنه؛ فإن طالب العلم خاصة، والإنسان عموماً لا ينبل ولا يكمل حتى يروي عمن فوقه، وعمن هو مثله، وعمن هو دونه، قال سفيان بن عيينة: “لا يكون الرجل من أهل الحديث حتى يأخذ عمن فوقه، وعمن هو دونه، وعمن هو مثله”([8]). وقال وكيع: “لا ينبُل الرجل من أصحاب الحديث حتى يكتب عمن هو فوقه، وعمن هو مثله، وعمن هو دونه”([9]). فإذا روى الراوي عن قرينه أو من هو دونه في العلم مما ليس عنده، دل ذلك  على تواضعه وعدم تكبره على الأقران والعلماء، مما يكسبه احترام الناس، فينبل في أعينهم، وهذا دليل على التواضع.

2 معرفة الرَّاوي من المَرْوِي وتنزيل أهل العلم منازلهم:

قال ابن الصلاح([10]): وفي التنبيه على ذلك من الفائدة معرفة الراوي من المروي عنه. قال: وقد صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: “أمرنا رسول الله ﷺ أن نُنزل الناس منازلهم “([11]).

3 أن لا يتوهم كون المروي عنه أكبر سنا أو أفضل لكونه هو الأغلب فتجهل منزلتهما.

قال ابن جماعة في “المنهل الروي في مختصر علوم الحديث النبوي :” وفائدة ذكره أن لا يتوهم كون المروي عنه أكبر سنا، أو أفضل لكونه هو الأغلب فتجهل منزلتهما” ([12]).

4 ألا يُظَنَّ أن في السند انقلاباً أو خطأ:  لأن الأصل أن يروي الابن عن أبيه ، وهذا النوع مع النوع الذي قبله يدل على تواضع العلماء ، وأخْذِهِمُ العلم من أي شخص ، وإن كان دونهم في القَدْر والسن([13]).

 خامسا: أشهر المؤلفات فيه:

ذكر العلامة محمد بن جعفر الكتاني في “الرسالة المستطرفة” بعض المؤلفات الموضوعة في بيان هذا النوع من علوم الحديث من ذلك:

 (جزء من روى عن أبيه عن جده) لابن أبي خيثمة (279هـ)، وكتاب: (ما رواه الكبار عن الصغار والآباء عن الأبناء) لأبي يعقوب الورَّاق البغدادي (304هـ)، وكتاب: (من روى عن أبيه من الصحابة والتابعين) لأبي حفص بن شَاهين (385هـ)، وكتاب: (رواية الأبناء عن آبائهم) لأبي نصر السجِّزي (444هـ)،  وكتاب: (رواية الصحابة عن التابعين)، وكتاب: (رواية الآباء عن الأبناء) كلاهما للخطيب البغدادي (463هـ)، وكتاب: (من روى عن أبيه من الصحابة والتابعين)، وكتاب (الوشي المعلم في من روى عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ) للحافظ العَلائي (761هـ)، وهو أجمع مصنف صنف في هذا – أعني من روى عن أبيه عن جده – وهو في مجلد كبير، قسمه أقساما، وخرج في كل ترجمة حديثا من مرويه، وقد لخصه الحافظ ابن جحر (852هـ) ، وزاد عليه تراجم كثيرة جدا([14]).

*******************

هوامش المقال:

([1]) لسان العرب(3 /224).

([2])التبصرة والتذكرة (ص: 168)

([3])  الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث (ص: 531).

([4]) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: قصة الجساسة(ص: 1346)(2942).

([5])  أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: المناقب، باب: سؤال المشركين أن يريهم النبي ﷺ آية فأراهم انشقاق القمر(ص: 1842)(7460). بلفظ: (لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك)،  قال عمير: فقال مالك بن يخامر: قال معاذ: وهم بالشأم، فقال معاوية: هذا مالك يزعم أنه سمع معاذا يقول: وهم بالشأم.

([6]) مقدمة ابن الصلاح (ص: 411-412).

([7])  منظومة مصباح الراوي في علم الحديث (ص: 103).

([8])  الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2 /218).

([9]) مقدمة ابن الصلاح (ص: 356).

([10])  انظر: الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث(ص: 535).

([11])  أخرجه أبو داود في سننه، كتاب: الأدب، باب: في تنزيل الناس منازلهم (7 /210)(رقم الحديث: 4842). بلفظ: قال رسول الله -ﷺ-: “أنزلوا الناس منازلهم “؛ لكن قال:”ميمون بن أبي شبيب لم يدرك عائشة” مما يدل على أنه أعله بالانقطاع وأنه ليس صحيحا عنده، وذكره مسلم  بلا إسناد بصيغة التمريض تعليقا في مقدمة صحيحه (1 /5)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع ( 1344 ).

([12])  المنهل الروي في مختصر علوم الحديث النبوي (ص: 77)

([13])  تيسير مصطلح الحديث: للطحان (ص: 148).

([14]) الرسالة المستطرفة لبيان مشهور كتب السنة المشرفة (483-484)، تصرفت في ترتيب المؤلفات وفق سن وفيات أصحابها.

******************

لائحة المصادر والمراجع:

الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث: لأبي الفداء عماد الدين ابن كثير الدمشقي، تحقيق: أحمد شاكر، تعليق: محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الرياض، ط1، 1417هـ/1996م.

التبصرة والتذكرة في علوم الحديث: لأبي الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي، ت: العربي الدائز الفرياطي،  مكتبة دار المنهاج، الرياض، ط2، 1428هـ.

تيسير مصطلح الحديث: لمحمود الطحان، مركز الهدى للدراسات، الإسكندرية، 1415هـ.

الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: للخطيب البغدادي، ت: محمود الطحان، مكتبة المعارف – الرياض ، 1403هـ.

الرسالة المستطرفة لبيان مشهور كتب السنة المشرفة : لأبي عبد الله محمد بن جعفر الكتاني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 2011م.

السنن: لأبي داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو الأزدي السِّجِسْتاني، ت: شعَيب الأرنؤوط، ومحَمَّد كامِل قره بللي، دار الرسالة العالمية، ط1، 1430 هـ/2009 م.

صحيح البخاري: لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، دار ابن كثير، ط1، 1423هـ/2002م.

صحيح مسلم: لأبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري، بعناية: أبي قتيبة نظر محمد الفاريابي، دار طيبة، الرياض، ط1، 1427هـ/2006م.

ضعيف الجامع الصغير وزيادته:لمحمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بدون تاريخ.

لسان العرب: لابن منظور الافريقي، دار صادر، بيروت، بدون تاريخ.

مقدمة ابن الصلاح المسماة: معرفة أنواع علم الحديث: لأبي عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهروزي، د. عبد اللطيف الهميم، ماهر ياسين الفحل، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1423هـ/2002م. 

منظومة مصباح الراوي في علم الحديث: لعبد الله بن فودي، ت: محمد المنصور إبراهيم النيجيري، دار العلم للطباعة والنشر، سكتو، نيجيريا، ط2، 1426هـ/2005م.

 المنهل الروي في مختصر علوم الحديث النبوي: لبدر الدين محمد بن إبراهيم بن جماعة، ت: د. محيي الدين عبد الرحمن رمضان، دار الفكر. بدون تاريخ.

*راجعت المقال الباحثة: خديجة أبوري

د. محمد بن علي اليــولو الجزولي

  • أستاذ باحث مؤهل بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالرباط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق