مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

روح المعاني مِن اعتماد سنّة التكبير (الله أكبر) في نظام قُرّاء الأمصار و وُعاتهم وما إليه

الحمد لله رب العالمين وبه نستعين، وصلوات ربنا وسلامه على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد؛

فهذه إفادات شوامل طريفة تتصل بعلم القراءات القرآنية وفنونه (بدءا وختما)، وتُحصِّل لدى التالي القارئ برْد اليقين باستجماع أدبيات شعبة (التكبير) وثلوج  الصدر بتلخيص تفصيلات مسائله وتجريد شمائل مباحثه، إذ تتّخذ منه (علم القراءات القرآنية) شعار المقدمات العلمية الممهدة وتتنزّل بين يدي أصول التلاوة ومنافذها المسعفة في تفهم مراد التنزيل وأوضاعه وما إليه.

وسياق الحديث – بعون الله – ومأمُّه إلى استثارة كوامن مغارس التكبير وما يتصل به، لمَّا كان تَرجمانَ الإمعان في تعظيم الله سبحانه، وبريد الاِستنزالِ لسحائب المغفرة وشآبيب الرحمة عند الإشراف على ختم آي التنزيل والتبرك به والسعاية له، مع التنبيه على ماهيَّة (التكبير) اللغوية وتخريج دلالته الصناعية السمعية، بتمييز الفرق بين صيغة (أفعل) من قولنا (الله أكبر) المتعلقة بذات الله سبحانه مغرز الكمال المطلق المتناهي وبين (أفعل) التي لها نوع تعلق بتمايز خِلال الخلْق وتفاضل بعضهم على بعض في المعاني والمراتب والمزايا وما يتصل بذلك، ثم نعُوج بعدُعلى ذكر من ورد عنه التكبير وثبت من القرأة المتقدمين من شيوخ الإتقان وأساتيذ أسانيد الفرقان، ثم تذييع لفظه ونبْذ المُخْلَص المستعمل من صيغته وبنائه، وتثقيف الجَنان بتبيين حكمه وما يلزم التالي أو القارئ (صناعة وأداءا)، مع العطْف بتعيين الإشارة إلى محل الإتيان به (إهلالا وانتهاءً) وما يتبع الكل، وما ذاك إلا لانتصاب التكبير في آخر القرآن المفصَّل سنةً نبوية مأثورة واستوائه خَصيصةً أدائية قُطْرية، اشتهرت عن أئمة مكّةَ المرفَّعةِ (بداءةً) قرائِهم وفقهائِهم ومن تلقّى عنهم شهرةً ذاعت وانتشرت حتى بلغت حد الاستفاضة والتواتر (عاقبةً ومنتهى)، لمّا عَمَّتْ عائدتها سائر الأمصار وغطَّت رعايتها يَفاعَ البقاع والأقطار على تبعّد المنزل الأوّل وتنائي حَومة الديار، إذ نجد أكابر القراء والجلَّة النظار كانوا قد مَرَنوا على الاسترشاد بهدايته ودأَبوا على التشوف لمعْلمه والأخذ به – دَهْرهم – عند الإشراف على ختم آي التنزيل أومقاربته في النوادي والمحافل والمجالس لا يعْدونه عرضا أو درسا أو صلاة، خاصةً تراويحَ شهر رمضان لا يرغبون عنه أو يستنكفون عن روضه وجواره؛ استشـرافا لتنزُّلاته وتخيُّرا للطائفه واستمطارا لفتوحه وإشراقاته وما إليه.

فلأجل ذلك وغيره جُرّدت العناية في استطالة لإفهام المتلقي المؤمِّل وتنويره بما يفترض ويلزم، ثم السير به نحو سبيل الهدى الفكري وتبليغه المأْمن الروحي، من خلال التقريب لماهية مطلب التكبير حال تلاوة القرآن الكريم والبسط لجلية حاله (لغة وصناعة وعُرفا) ثم المدخل إليه بالألفاظ القرآنية المروية والشواهد القرائية الأثرية [المقاصد الشافية للشاطبي (أفعل التفضيل 4/581)]، مع التعرض لموطنه وترتيبه عند مصنفي الحروف وأصحاب المضمَّنات القرائية المشتهرين بالأقطار، ورصد ما جرى به العمل في أشهر مدارس الإقراء (مغربا ومشرقا) (بستان الهداة 845)، (النشـر 2/388) … هذا ما يتصل بالطرح النظري أو التصوري لفن (الختم) وذيوله وتكملاته.

وأما ما يتصل بالجانب الوظيفي الفعلي لهذا الفن؛ فإن حبله سيُتسحَّب ممتدا رخيّا على إظهار الكفاية في تعيين محل الإتيان به (ابتداء وانتهاء) (القسطلاني 317)، (الغيث 1280) (الغيث 1293)، ثم تبيُّن حكمه وما يلزم التاليَ أو القارئَ (صناعة) في حمله وروايته وتأديته (الغيث 1285) ثم وصله وقطعه (قبل وبعد) (القسطلاني 321)، (الغيث 1300)، (الإقناع 2/816) الجوهر المصون لسلطان المزاحي، الفهرس الشامل ص 67، وحكاية أقوال أئمة هذا الشأن فيما يتعلق بمسألة التكبير أَ لأول السورة أو لآخرها (الغيث 1295)، ومن ورد عنه التكبير وثبت (القسطلاني 323)، (الغيث 1287)، ثم صيغته الوسطى ولفظه المختار (القسطلاني 325)، (الغيث 1290)، (بستان الهداة 2/849) وما يتعلق بالكل.

وعليه؛ ف‍ (التكبير) مصدر (كبَّر) عند قول التالي قبل التسمية: (الله أكبر) أي: (أكبر من كل كبير) و(أعظم من كل عظيم)، فصيغة (أفعل) لغرض التفضيل، لكن على تقدير معنى (من)، واقتضائه رفع شأن المفضَّل (حقيقةً لا مجازا) إلى غاية لم يبلغْها غيرُ المفضَّل بإطلاق (وهو الله سبحانه) ، ولذلك كما صح لهذا البناء (أفعل) التفضيل صح منه كذلك التعجب، لجريان أمرهما – عند العرب – على معنى واحد، ووقوع التنبيهبأحدهما على الآخر في مجاري أعرافهم الكلامية تعبيرا عن المعاني الهاجسة والخوالج الباطنة القائمة في النفس والقلب، إلا أن منطق الحكم هنا منفكٌّة جهته؛ لتعلقه بكبرياء الله جل جلاله واتصالِه بصفاته العلى، فتوهُّمُ مشاركةِ المخلوق للخالق في الكبرياء أو في غيره من صفات الرب سبحانه مُحالٌ، بل كل كبير بالإضافة إلى كبرياء الله لا نسبة له بل هو كلا شيء، زد على ذلك أن أبنية المفاضلة فيما يرجع إلى الله تعالى كقوله سبحانه: (وهو أهون عليه) [الروم – 27] وقوله: (هو أعلم بكم) [النجم – 22]، ونظائره لا يصح فيها معنى المفاضلة أو ما أشبه … ومن هذا الباب روايةٌ عن رؤبة بن العجاج المخضرِم لما استخبره رجل عن قول الفرزدق: (إن الذي سمك السماء)، قال: أطول من أي شيء ؟ فقال له: رويدا، إن العرب تجتزئ بهذا، قال: وقال المؤذن: الله أكبر ؟ فقال رؤبة: أما تسمع إلى قوله: الله أكبر، اجتزأ بها من أن يقول: من كل شيء.

فكل تلك الإطلاقات والإيرادات وأشباهها لا يصح فيها معنى المفاضلة والشفوف والزيادة أوما أشبه؛ لاتصالها بذات الله سبحانه وصفاته المشـرقة بالكمال الإلهي المطلق والكبرياء الرباني المتناهي، وإنما وقعت وجرت – في كلامهم – بالنسبة إلى عادة المخلوقين في محاوراتهم ومجاري مخاطباتهم ثم على وَفق توهمهم الخاطر أو على حسب ما اعتادوه في المفاضلة بين المخلوقينوإقامة الميز بينهم، وإن كان كبرياء الله تعالى لا نسبة لها إلى كبَر المخلوق، فقولنا: (الله أكبر) أي أكبر من كل شيء يتوهم له كبَر، فقوله سبحانه: (وهو أهون عليه) [الروم – 27]، يريد به على نحو الذي جرت به عادتكم في الخلق والتكوين، من أن إعادة ما سبق اختراعه أهون وأيسـر من اختراعه ابتداء وأول مَرَّة، وكذلك قوله جل وعلا: (هو أعلم بكم) [النجم – 22]، يريد به أعلم منكم، إذ تتوهمون أن لكم عِلْما ولله عز وجل علْما، أو إن شئتم فاعتبروه على حد قولكم: هذا أعلم من هذا على سنن العرب في محاوراتهم، فبمقتضـى كلامهم وتحاورهم نزل القرآن العظيم وعلى وَفق ما اعتادوه وأمضَوهفيما بينهم في أحكامهم وخطاباتهم، ومثل ذلك في لزوم نهج سبيل العرب ما جاء عن سيبويه عند حديثه عن (لعلَّ) من قوله تعالى: (لعله يتذكر أو يخشى) [طه – 44]، إذ صرف مقتضاها من الطمع إلى المخلوقين فقال: (فالعلم قد أتى من وراء ما يكون، ولكن اذهبا أنتما في رجائكما وطمعكما ومبلغكما من العلم، وليس لهما أكثرُ من ذا ما لم يعلما) [الكتاب 1/331 (هذاباب من النكرة يجري مجرى ما فيه الألف واللام من المصادر والأسماء)].

على أن الأصل في استعمال التكبير ما ثبت في صحيح الخبر (مرفوعا وموقوفا) من كونه سنة رغيبة جرى عليها أهل مكة في قراءتهم أثناء الدرس والصلاة وداوموا على بابها، احتذوا فيها حذو رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام والجلّة التابعين ومن أعقبهم من المتعبّدين السائرين، فقد صح عن الإمام ابن كثير الداري (ت‍ 120 ه‍) براوييه أحمد بن محمد البزّي (ت‍ 250 ه‍) و محمد بن عبد الرحمان قنبل (ت‍ 291 ه‍)، بإجماع من أهل الأداء، وإن كان الخلاف جارٍ مشتهر في ثبوته وصحته عن قنبل كما هو مبثوث عند مصنفي الحروف ووعاتهم، ذلك لأنَّ الجماء الغفير من المغاربة إلا ما استثني النشر 2/ 417 (ممن تابع جمهرة أهل العراق) لم ترْوِهِ عنه ولم ترْضَه له كما تصدع بذلك أوضاعهم ومضمناتهم مثل التيسير (ص 226) والعنوان (ص 215) والهادي (2/399) والتبصـرة لمكي (ص 734) والكافي (2/575) ثم من الذين أخذوا له بالوجهين جميعا أمثال أبو العباس أحمد بن عمار المهدوي (ت‍ 440 ه‍) في (الهداية)وأبو القاسم عبد الرحمان الصفراوي (ت‍ 636 ه‍) في (الإعلان بالمختار من روايات القرآن في القراءات السبع) وعلى هذا جرى عمل الشيوخ بالحواضر المغربية (فهي سنة مأثورة كما سلف وعرفٌ سائر لا يعتبرون رواية البزي ولا غيرَه) وذلك مشار الشاطبي في الحرز (…. ** وعن قنبل بعض بتكبيره تلا) فهذا من زيادات القصيد كما هو مقرر في موضعه، إذ إنَّ أبا عمرو الداني (رحمه الله) لم يذكر التكبير لقنبل في التيسير ولا التزمه، وإنما تعرّض لذلك في غير التيسير فجعله خاصَّة كتابه المفردات ص 300 فقال: (وقد قرأت أيضا لقنبل بالتكبير وحده من غير طريق ابن مجاهد، وبغير تكبير آخذ في مذهبه).

على أن حديث التكبير لم يشتهر برفعه غير البزي النشر 2/ 413، ولم يرْوه غيرُه إلا موقوفا عن ابن عباس، فقد روي من طرق عدة أن (البزي) قال (سمعت عكرمة بن سليمان يقول: قرأت على إسماعيل بن عبد الله المكي بن قسطنطين، فلما بلغت (والضحى) قال لي: كبّر عند خاتمة كل سورة حتى تختم، فإني قرأت على عبد الله بن كثير، فلما بلغت (والضحى) قال: كبّر عند خاتمة كل سورة حتى تختم، وأخبره أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك، وأخبره مجاهد أن ابن عباس أمره بذلك، وأخبره ابن عباس أنّ أبي بن كعب أمره بذلك، وأخبره أُبي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بذلك) … فهذه سياقة لأحد أوجه رفع حديث البزي وطرقه ولها مخارج وأسانيد عدة صالحة للقبول والاعتبار وما أشبه، ثم إن مما يقتضي تصحيح رفع حديث البزي ما روى الحافظ أبو عمرو بسنده عن موسى بن هارون أن البزي قال: (قال لي أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي؛ إن تركت التكبير فقد تركت سنة من سنن نبيك صلى الله عليه وسلم)، وكما صح التكبير عن ابن كثير فقد صح كذلك عن أبي عمرو البصري وكذا أبي جعفر المدني ووافقهما ابن محيصن، إذن؛ فالتكبير ولزومه سننه ذو أسانيد حسان متصلة إذ تتضمن أخْذَ كل شيخ تلميذَه به كذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقد وُجد في الرعيل الأول من رواة القراءة من وسّع نطاق التزام التكبير على غير مواطنه المخصوصة إذ أخذ به لسائر القراء كما عممه على جميع سور القرآن، كما الشأن لأبي الحسن الخبازي الجرجاني (ت‍ 449 ه‍) وأبو علي بن حبش الدِّينَوَري (ت‍ 373 ه‍) وطائفة، على الذي حصَّله وحكَاه أبو الفضل الرازي (ت‍ 454 ه‍) والهذلي (ت‍ 465 ه‍) وأبو العلاء (ت‍ 569 ه‍) والجزري (ت‍ 833 ه‍) وغيرهم رحمة الله على جماعتهم، فلولا أن القراءة سنة متبعة، لجارتْهم جمهرة الناس في ذلك والتزموه فلم يجاوزوا بطنه وساحته، إذ التكبير ليس من القرآن ولا من فروضه وإنما هو من خواص شريف الذكر وجليل أعمال القلب والمناجاة، ألقاه الشرع للتالي على سبيل الخِيَرَة بين سور آخر القرآن فأشبه بوضعه سنة الاستعاذة عند الشروع في التلاوة، ثم لما ينطوي عليه التكبير من مزيد التوقير والتقديس للباري سبحانه مع التلاوة لتنزيله وفرْط التبرك بعظيم وحيه والتنزيه له عن كل سوء أو ريْب، ولما فيه من مزية الاعتراف والشكر لله جل وعلا وتبدية دواعي الغبطة والسرور باستشعار حلاوة الختم وما أشبه، وذلك تعلَّة صَنَع مُصنفي أحرف الخلاف واختلاف أنظارهم في تعيين موطن مبحث التكبير وتبيين وضعه وترتيبه، إذ وجدنا من لم يذكر باب التكبير رأسا مثل ابن مجاهد في السبعة (ت‍ 324 ه‍) وكذا ابنمهران في الغاية (ت‍ 381 ه‍)، ومنهم من قدَّم ذكره فألحقه بباب البسملة مثل الهذلي (ت‍ 465 ه‍)  وغيره ومنهم من أخره لتعلقه بالأخر من سور القرآن ومنهم من رعى سببه وسياق تنزله فذكر في موضعه من سورتي (والضحى وألم نشرح) مثل أبي العز القلانـسي في الكفاية (ت‍ 521 ه‍) والحافظ أبي العلاء الهمذاني(ت‍ 569 ه‍)  والإمام ابن شريح (ت‍ 476 ه‍) ومنهم من ذكره بعد إتمام أحرف الخلاف إذ جعله ذيل كتابه، ولعله الأوفق الأنسب لتعلق التكبير بالختم والدعاء.

ثم إنه لَلْمقرّر الثابت بداهةً في حَدَث اسئناف تلقّي آي الوحي على فتْرة من التنزُّل (الذي يكنزه سبب ورود سورة والضحى) أن الصورة الأدائية الظاهرة القائمة في مقام الأخذ والتلقي بين جبريل عليه السلام والنبي صلى الله عليه وسلم؛ كمنةٌ ليَّاحةٌ في فعل التكبير من النبي صلى الله عليه وسلم بإثْر قراءة جبريل عليه السلام وبين يدي قراءته هوصلى الله عليه وسلم كما تشهد به الأخبار وتصدع؛ فلأجل ذلك انشعبت كلمة صيارفة الأئمة من أهل الأداء في تأويل ذلك وفي اعتبار مُنبَجَس التكبير و طروِّه ومناطِ بدئه، ألأول السورة سورة (ألم نشرح) أم لآخرها أي ل‍سورة  (والضحى)، فالذي عليه الحافظ الداني في التيسير خاصة؛ أن ابتداء التكبير يكون أول الضحى [وهو الذي قرأ به الداني على الفارسي عن النقاش عن أبي ربيعة عن البزي كما ذكره في جامع البيان إذ قال: (وهو اختيار أبي بكرٍ أحمدَ بنِ نصر الشذائي وغيره من المصريين)، إلا أنَّ الداني – رحمه الله – لم يخترْه بل اختار أن يكون التكبير من آخر الضحى] قال الشمس الجزري: ولذلك لما أشار إليه في التيسير آخِراً؛ ردَّه بقوله: والأحاديث الواردة عن المكيين بالتكبير دالة على ما ابتدأنا به (يريد أنه كان يكبر من آخر والضحى مع فراغه من كل سورة إلى آخر قل أعوذ برب الناس) [التيسير 226]) وكذلك (ممن اعتبر بالتكبير آخر الضحى) ابنا غلبون أبو الطيب في الإرشاد(ت‍ 389 ه‍) وأبو الحسن في التذكرة (ت‍ 399 ه‍)، وصاحبُ العنوان والهادي والهداية والكافي وابن بلّيمة (ت‍ 514 ه‍) ومكّي (ت‍ 437 ه‍) والطبري(ت‍ 478 ه‍) والهذلي وغيرُهم؛ فهؤلاء أجمعون على تعلق التكبير بآخر (والضحى) خلافا لصاحب المستنير والإرشادأبي العز والروضةأبي العلاء وكذا التجريد والحافظ العطّار وجماعة …، وأما قول الولي الصالح أبي القاسم الشاطبي (ت‍ 590 ه‍): [(وقال به البزيُّ من آخر الضحى/ وبعضٌ له من آخر الليل وَصَّلا)]؛ فعبارة (آخرِ الليل) (في البيت) لفظ لم يجاهر به غير الخزاعي(ت‍ 408 ه‍) في المنتهى والهذلي في الكامل والشاطبي هنا، حسب المعلوم المنتشـر، والمراد بآخر والليل على المختار هو أول الضحى، لانعدام القائل بمراد آخرِ والليل على الحقيقة، قال الجزري: وهو الصواب بلا شك [النشر2/419] وزاد العلامة أبو شامة [إبراز المعاني 4/ 289] فقال: هذا الوجه (أول الضحى) من زيادات القصيدعلى التيسير وهو من طريق الروضة فقد جاء فيها : (روى البزي التكبير من أول سورة والضحى إلى خاتمة الناس)، قال الجزري: وهذا الذي ذكروه من أن المراد بآخر الليل هو أول الضحى؛ متعيّن، إذ التكبير إنما هو ناشئ عن النصوص المتقدمة، والنصوص المتقدمة دائرة بين ذكر الضحى وأول ألم نشرح، لم يُذْكَر في شيء منها والليل؛ فعُلم أن المقصود بذكر آخر والليل هو أول الضحى، كما حمله شراح كلام الشاطبي. [النشـر 2/ 419]، وعليه فالذي عليه ابن كثير رحمه الله هو التكبير من خاتمة (والضحى) إلى آخر القرآن، ثم اختلف أهل الأداء بعدُ في صورة استعمال التكبير، إذ وجدنا منهم يصلُه بآخر السورة كما الشأن عند المغاربة وهو المرجّح المختار المستحب عند الحافظ الداني [التيسير 226]، فقارئ هذا المذهب المتفقّهُ بأدبياته يصل التكبير بآخر السورة ثم يسكت ويبدأ بالتسمية أو إنَّ له أن يصلَ التكبير بآخر السورة ثم يصلَ التسمية به ويصلَ التسمية بأول السورة الأخرى، إلا أنه لا ينبغي القطع على التسمية حال إيصالها بالتكبير ويجوز السكوت عند الفراغ من السورة سكتا منقطعا أو غير منقطع ثم يُكبَّر، فهذه صورة استعمال التكبير في المذهب الأول، وأما صورة استعمال التكبير في المذهب المقابل وكيفيته؛ فإنَّ القارئ وَفْقَهُ يقطع على آخر السورة على جهة الحتْم واللزوم ثم يكبر مع وصله بالتسمية، قال أبو جعفر في الإقناع: وعلى هذا أكثر الناس، وتلك رواية النقاش عن أبي ربيعة عن البزي، وبه العمل عند أهل بغداد [الإقناع 816]، وعليه؛ فإذا صار التالي القارئ إلى (الناس)؛ فإن التكبير يكون أولها على رواية النقاش، ويوصَلُ التكبير بآخرها على المذهب الأول كما نص عليه بكار عن ابن مجاهد، وإن كان أبو الحسن بن شريح (ت‍ 539 ه‍) قد خالف ما جاء عن بكار لكون ذلك من شوارد بكّار ومما تفرَّد به، وهو مخالف لما به الأخذ عند الحافظ الداني [الإقناع ص 817]، فعلى التكبير في خاتمة الناس جرى العمل في الحواضر المغربية وبه انتدحت سنة الإقراء واتسع لها المدى وتلقاها الرواة بعدُ على عين القبول والرضا، قال العلامة المقرئ أبو عبد الله الرحماني المراكشي (حيا بعد 1070 ه‍): فكبِّرنْ في أَخِرِ الناس وصِلْ *** فاتحةً والخمسَ بعدها تَصِلْ [الهدية المرضية البيت 260] وعليه؛ فإذا أفْضـى القارئ بتلاوته إلى خاتمة (الناس) أردف فاتحة الكتاب وخمسا من أول البقرة على العدد الكوفي أي إلى قوله سبحانه: (وأولئك هم المفلحون) ثم يدعو للختم راجيا مُخبتا ضارعا متوكلا.

انتهاء التكبير:

إذن؛ فقد بان من هذه التذكرة في البلاغ والإبانة في التأدية؛ جرْيُ عمل الجمهرة من المغاربة على لزوم سنة التكبير أثناء التلاوة إلى آخر سورة الناس، خلافا للجماء الغفير من المشارقة الذين أوقفوه قصرا وحصرا على أول السورة (الناس) إذ لا يكبرون آخرَها، وكلا المذهبين ثابتٌ مروي منقول ذو أثر، بل حكي عن أبي شامة مذهب ثالث مخرَّجٌ لازمٌ عن قول من قطعه عن السورتين أو وصله بهما، حتى يصير اعتماد التكبير بين كل سورتين شرَعٌ سواء مع لحظ ما فيه من البعد الروائي وانطماس الوجه الدرائي وكذا الجهة التقديرية وما إليه [النشر.421] ومردُّ هذا التردُّدِ في النظر والتعددِ في الحمْل إلى تعيين منزَع القول بالتكبير وموضعه ومناطه؛ أَلأول السورة أم لآخرها، كما مرّ، فالذي جعله لأول السورة ممن نص على التكبير أوقال وقوّل أنه من أول إحدى سورتي (والضحى)أو (ألم نشرح)؛ لم يكبر آخر الناس، وأما من اعتبر بالتكبير من آخر (والضحى)؛ فإنه قد كبر آخر الناس كما الحال للحافظ الداني، وعليه فمن تأوّل (الآخرِ) في قول الشاطبي (وقال به البزيُّ من آخر الضحى/ وبعضٌ له من آخر الليل وَصَّلا)؛ فجعله لأول سورتي (ألم نشرح) و (الضحى) يكون قد فاته إعمال رواية من نقله من آخر (الضحى)، وما ينبغي له للذي فيه من الإخلال بالرواية والتخليط على أهل الدراية، ثم لمعارضته ومخالفته المنصوصَ عليه في التيسير خاصة، إلا أن يكون مُقترفه متجوِّزا في الإطلاق أو متِّسعا في حمْل الأول على الآخِر على جهة التسوية الحكمية أو ما أشبه، وإلا فلا قائل بالتكبير من آخر (والليل) حقيقة، كما مرّ، فهذا القارئ محمدُ بنُ عبدِ العزيز بنِ الصباح وصنوُه القارئ أحمدُ بنُ هارون مكيان مشهوران من أصحاب قنبل وممَّن أخذ  التكبير من أول الضحى ورواه … زد على ذلك ما أشار إليه العلامة الجزري من كون التكبير ووجهه متعلق بالآثار المروية وناشئ عن معاهد التنصيص القديمة و الشواهد الخبرية المسموعة التي لم يُلف في شيء منها ذكرُ (والليل) وتعلقُ التكبير به ألبتة، فمن أطلق (آخرِ الليل) بعد ذلك فمنصـرفه لأوَّل الضحى [الغيث 1293] والله أعلم وأكرم.

ثم بعد ذلك نُزجي بسطة الخلاف في تعيين ابتداء محل التكبير ومنتهاه إلى قطاف الثمرة المحصّلة أو اجتناء الفائدة المرجوّة المترتبة عن كل ما سبق ذكره من التردد والاختلاف بين أئمة القراء ومصنفي الحروف في تعلق التكبير بأول السورة أو بآخرها وذلك حال وصل السورة بأخرى السور من القرآن العظيم، إذيترتب عن كل ذلك سبعةُ أوجه درائية تقديرية محتملة الجواز والإتيان على جهة التخيير والاستحسان واختيار الأَوْلى، إلا أن يقصد القارئ من روايته جمع الطرق وتحصيل الأوجه فيتعين عليه ضبط اختلاف الرواية – عندئذ – إذ لابد من التلاوة به وبموجَبه كلاًّ أو بعضا بعد معرفتها وأخذها عن شيخ القراءة معزوَّة محررة [النشر 2/436]، ووجه ثامن ممتنع مدفوع مردود اتفاقا وهو الوقف آخر السورة حال وصلها بالتكبير موصولا بالتسمية والقطع عليها بستان الهداة 2/850.  أو هو: وصل التكبير بآخر السورة والبسملة، مع القطع عليها. [الإتحاف 2/ 644] [النشر 2/432] [اللطائف ص 321]، [الإقناع 816].

ثم هذه قسمةُ أجزاء هذه الأوجه بين سور المفصل وتفرقةُ أنحائها مع تفصيل حكمها وتبيُّن منازع استعمالها، وذلك على النحو الآتي:

وعليه؛ فإنه يأتي على تقدير تعلُّق التكبير واتصاله بآخر السورة وجهان: الأول: وصلُ التكبير بآخر السورة والوقفُ عليه بنية الاستئناف ووصلُ البسملة بأول السورة [(فحدث) الله أكبر بسم الله الرحمن الرحيم (ألم نشرح)] (هذا نص عليه في التيسير ولم يذكر في مفرداته سواه وهو أحد اختياريه في جامع البيان ، واختيار طاهر بن غلبون وهو ظاهر كلام الشاطبي، وأحد الوجهين المنصوص عليهما في الكافي ونص عليه السخاوي وأبو شامة وسائر القراء) ، الثاني: وصل التكبير بآخر السورة والوقف عليه والوقف على البسملة أي قطعها عن أول السورة [(فحدث) الله أكبر بسم الله الرحمن الرحيم (ألم نشـرح)] (هذا نص عليه أبو معشـر في التلخيص والفاسي والجعبري وابن مؤمن في الكنز وجماعة)، فهذان وجهان سائغان على أصول من جعل التكبير ملحقا بآخر السورة، وإن كان ظاهر التبصرة لمكي مفيدا منعَهُما.

وأما على تقدير كون التكبير وتعلُّقه بأول السورة فيترتّب وجهان: الأول: قطع التكبير عن آخر السورة ووصله بالبسملة ووصل البسملة بأول السورة (نص عليه ابن سوار في المستنير ولم يذكر غيره، واختاره أبو العز القلانسـي وابن شيطا والهمذاني وحكاه الداني عن بعض أهل الأداء (في التيسير والجامع معا) وابن الفحام وغيره ولم يذكر في الكفاية سواه)، الثاني: قطع التكبير عن آخر السورة ووصله بالبسملة مع القطع أو السكت عليها والابتداء بأول السورة [(فحدث) الله أكبر بسم الله الرحمن الرحيم (ألم نشـرح)] (هذا ظاهر كلام الشاطبي ونص عليه الفاسي وابن مؤمن والجعبري على منعه)، قال الجزري: ولا وجه لمنعه، إلا على تقدير أن يكون التكبير لآخر السورة، وإلا فعلى أن يكون لأولها لا يظهر لمنعه وجه، إذ غايته أن يكون كالاستعاذة، ولا شك في جواز وصلها بالبسملة وقطع البسملة عن القراءة [النشر 2/434].

وأما الثلاثة أوجه المحتملة المنشقة عن التقديرين الآنفين، الأول: وصل الجميع أي وصل التكبير بآخر السورة وبالبسملة وبأول السورة (نص عليه الداني وصاحب الهداية وهو اختيار الشاطبي، وذكره في المبهج والتجريد) الثاني: القطع عن آخر السورة وعن البسملة ووصل البسملة بالسورة (نص عليه أبو معشـر في التلخيص واختاره طاهر بن غلبون وابن مؤمن وهو الظاهر من كلام الشاطبي كما نص عليه الفاسي والجعبري وجماعة) الثالث: قطع الجميع أي القطع عن آخر السورة وعن البسملة وقطع البسملة عن أول السورة (نص عليه الواسطي والفاسي والجعبري وهو ظاهر كلام الشاطبي ومنعه مكي في الكشف، إذ منع في وجه البسملة بين السورتين قطعها عن السابقة والقابلة، ولا وجه لمنعه على كلا التقديرين كما أفاد الجزري).

وعليه؛ فمدلول القطع وكذا السكت المستعمل في هذه الأوجه الآنفة؛ هو الوقف المعروف، كما يرى العلامة الجزري، لا القطع الذي هو الإعراض، ولا السكت الذي هو دون التنفس، وهذا هو الصواب عنده، خلافا لما ذهب إليه الجعبري من أنّ المقصود بالقطع في قولهم هو السكت المعروف كما في باب البسملة إذ قال في تشـريح قول الشاطبي: (فإن شئت فاقطع دونه) أي فاسكت ولو قالها لأحسن، إذ القطع عام فيه والوقف) [الكنز]، قال الجزري: (وهو شيء انفرد به لم يوافقه أحد عليه) اللطائف 323

الوجه الثامن: الممتنع باتفاق، وهو الوقف آخر السورة حال وصلها بالتكبير موصولا بالتسمية والقطع عليها بستان الهداة 2/850.  أو هو: وصل التكبير بآخر السورة والبسملة، مع القطع عليها. الإتحاف 2/644

إذن؛ فهذا محصول عدّة الأوجه الجائزة بين السور قد ألغز الشاطبي إشارتها في قوله:

[فإن شئت فاقطع دونه أو عليه أو *** صل الكلّ دون القطع مَعْهُ مبسملا]

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع

Science

د.مولاي مصطفى بوهلال

    • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق