مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات محكمة

رمضان وخلق الصبر عند البلاء

الحمد لله القائل في كتابه: ﴿شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان([1])، وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين، الذي كان أجود من الريح المرسلة، وكان أجود ما يكون في رمضان.

 أما بعد: 

       فيعد شهر رمضان فرصة لتزكية النفوس والقلوب، وتطهيرها من الذنوب والآفات والعيوب، والتحلي بالقيم النبيلة والأخلاق الفاضلة، التي بُعث النبي صلى الله عليه وسلم لتنميتها، ومن القيم الفاضلة التي يغرسها الصيام في نفوس المسلمين: قيمة الصبر  بأنواعه، ذلكم الخلق العظيم الذي  ينالُ به العبد الإمامة في الدين، ويمكّن له في الأرض؛ كما مكّن الله تعالى للمؤمنين من بني إسرائيل لما صبروا على ظلم فرعون وجبروته، وثبتوا على دينهم، فأورثهم الله تعالى الأرض بسبب صبرهم، قال تعالى: ﴿ وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون([2]) ، وينال به الأجر العظيم، والثواب الجزيل، مصداقا لقول الله تعالى: ﴿إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب([3])، وقال: ﴿ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ([4])، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه : «ومن يتصبر يصبره الله وما أعطي أحد عطاءاً أعظم ولا أوسع من الصبر”([5])، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في العديد من أحاديثه  النص الصريح على تسمية رمضان بشهر الصبر ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “صوم شهر الصبر ، وثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر”([6])، وقال صلى الله عليه وسلم”الصوم نصف الصبر”([7]).

والصبر ثلاثة أنواع وهي: الصبر على الطاعة، والصبر على المعصية، والصبر على الشدائد:

فأما الصبر على الطاعة: فهو الصبر الذي يعين العبد على الاجتهاد في الطاعات والقربات، وأما الصبر على المعصية فهو الذي يعين العبد على ترك المعاصي والمنكرات، وأما الصبر على الشدائد: فهو الذي يعين على تحمّل الشدائد والملمّات. ولأهمية هذا الموضوع فقد اخترت الحديث في هذا المقال عن القسم الثالث منها باختصار  فأقول وبالله التوفيق:

 إن الإنسان في حياته معرض للشدائد والمحن، فإذا قابل هذه المصائب بالصبر وانتظار الفرج والأجر من الله تعالى ، صارت المصائب تكفيرا لسيئاته ورفعة في درجاته، وقد وردت الآيات والأحاديث الكثيرة في ذلك، فقال الله تعالى: ﴿ ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون﴾ ([8]) ، وعن أم العلاء – رضي الله عنها – قالت: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريضة، فقال: “أبشري يا أم العلاء؛ فإن مرض المسلم يذهب الله به خطاياه كما تذهب النار خبث الذهب والفضة” ([9]). وقال صلى الله عليه وسلم: “ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة”([10]). وقال صلى الله عليه وسلم: “عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير؛ وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له؛ وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له”([11])،  وقال في الرضا بأقدار الله قوله صلى الله عليه وسلم: “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف؛ وفي كل خير، احرص على ما ينفعك؛ واستعن بالله؛ ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا؛ ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان” ([12]).

فهذه التوجيهات  النبوية وما ورد بمعناها بشرى للمؤمن، حيث تجعله يحتسب كل ذلك عند الله؛ فيصبر  على المصائب التي تحل به ويحتسب ثوابها عند الله؛ لأنه يعلم أن ذلك من عند الله سبحانه؛ وأن سببها من نفسه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾([13])

فيالها من فرصة عظيمة، ومناسبة كريمة، للتنافس وكسب الأجور، ومحو السيئات وتطهير النفوس، فعدة رمضانَ ثلاثونَ يوماً، وأنت كل يوم تمسك من الفجر إلى الغروب، فلا تشربُ، ولا تأكلُ، ولا تجامعُ، ولا تسبُّ، ولا تفسقُ ..إلى غير ذلك من فرائض الصيام، وهذا بمتابة تدريب مستمر له أثر كبير على تربية النفسِ على الصبر.

نسأل الله تعالى أن  يجعلنا وإياكم من  الصابرين الشاكرين، وأن يسلك بنا دروب الأنبياء والصالحين، ويحمينا من سبل الهالكين إنه سميع مجيب.

لائحة المصادر المعتمدة:

الجامع الصحيح. أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، قام بشرحه وتصحيحه وتنقيحه: محب الدين الخطيب، ورقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، وراجعه وقام بإخراجه وأشرف على طبعه: قصي محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية القاهرة. ط 1/ 1400.

الجامع الكبير. محمد بن عيسى الترمذي. تحقيق: بشار عواد معروف. دار الغرب الإسلامي. ط1 /1996.

السنن.  أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني. دار الكتاب العربي ـ بيروت.

صحيح مسلم. وفي طليعته: غاية الابتهاج لمقتفي أسانيد كتاب مسلم بن الحجاج للزبيدي.دار طيبة. الرياض. ط1/ 1427-2006.

ط1/ 1416 -1995 .

المسند.  أحمد بن حنبل بن هلال بن أسد. تحقيق: أحمد محمد شاكر. دار الحديث ،القاهرة

([1]) سورة البقرة، الآية: (185).

([2]) سورة الأعراف، الآية: (137).

([3]) سورة الزمر، من الآية: (10).

([4]) سورة النحل، الآية: (96).

([5]) أخرجه البخاري في صحيحه (1 /455)، كتاب: الزكاة، باب: الاستعفاف عن المسألة، برقم: (1469)، ومسلم في صحيحه (1/465). كتاب: الزكاة، باب التعفف والصبر، برقم: (1053).

([6]) أخرجه أحمد في مسنده (7 /337)، برقم: (7567).

([7]) أخرجه الترمذي في سننه (5 /493-494)، كتاب الدعوات، برقم: (3519).

([8]) سورة البقرة الآيات: (155-157).

([9]) أخرجه أبو داود في سننه (3 /150)، كتاب: الجنائز، باب: عيادة النساء،برقم: (3094)

([10]) أخرجه مسلم في صحيحه (2 /1197)، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك، حتى الشوكة يشاكها، برقم: (2572).

([11])أخرجه مسلم في صحيحه (2 /1364-1365)، كتاب: الزهد والرقائق، باب: المؤمن أمره كله خير، برقم: (2999) .

([12])أخرجه مسلم في صحيحه (2/-1229)، كتاب:  العلم، باب: في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله، وتفويض المقادير لله، برقم: (2664).

([13]) سورة الشورى، الآية: (30).

دة. خديجة أبوري

  • أستاذة باحثة مؤهلة بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق