مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات محكمة

رمضان المعظم شهر السخاء والجود

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

  وبعد؛

فإن رمضان موسم الخير، وميدان التنافس في الجود والسخاء؛ فالنفوس في هذا الشهر تقترب من مولاها، وتنبعث إلى ما يزكيها ويطهرها من شحها، قال تعالى: (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)[1] .

ولأهمية هذا الموضوع ارتأيت أن أكتب فيه مقالا عن أهمية السخاء والجود بالصداقات وجميع أنواع أعمال الخير في رمضان، فأقول وبالله التوفيق:

إن السخاء والجود أمر مطلوب في هذا الشهر المبارك ومعناه: “إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي وبذل ما يقتنى بغير عوض، وهو من جملة محاسن الأخلاق، بل هو من أعظمها، وأما البخل فهو ضده، وليس من صفات الأنبياء ولا أجلة الفضلاء”[2].

وأما “الجود فهو: بذل المحبوب من مال أو عمل، والإنسان يجود بماله فيعطي الفقير ويهدي إلى الغني ويواسي المحتاج، ويجود كذلك بعمله، فيعين الإنسان في أموره في سيارته في دكانه في بيته فالجود هو بذل المال أو العمل”[3].

وإن السخاء والجود بالصدقة وغيرها من أنواع الخير في هذا الشهر الفضيل دليل على الرحمة، والشعور بالآخرين، وسبب لتيسير أمور المسلمين، وتفريج كرباتهم،  فالله في عون العبد، ما دام العبد في عون أخيه، ومدعاة لزيادة المال، ونزول الخيرات، وحلول البركات، والتأثير في دفع البلايا.

قال ابن القيم رحمه الله: ” وللصدقة تأثير عجيب في دفع أنواع البلاء، ولو كانت من فاجر أو من ظالم، بل من كافر، فإن الله تعالى يدفع بها عنه أنواعا من البلاء، وهذا أمر معلوم عند الناس خاصتهم وعامتهم، وأهل الأرض كلهم مقرون به لأنهم جربوه”[4] هـ.

وقال ابن القيم أيضا: “المتصدق كلما تصدق بصدقة انشرح لها قلبه، وانفسح بها صدره، وقوي فرحه، وعظم سروره. ولو لم يكن في الصدقة إلا هذه الفائدة لكان العبد حقيقا بالاستكثار منها، والمبادرة إليها”[5].

ومن فضائل الصدقة أنها سبب للخلَف من الله عز وجل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ما من يوم يصبح العباد فيه، إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا”[6].

كما أن للسخاء والجود أثر في صيانة الأعراض، وائتلاف القلوب، وتوطيد رابطة الأخوة، والقضاء على كثير من الرذائل كالحسد من الفقراء للأغنياء، والكبر من الأغنياء على الفقراء. ويستر العيوب، قال الإمام الشافعي رحمه الله:

وإن كثرت عيوبك في البرايا *** وسرك أن يكون لها غطاء

تستر بالسخاء فكل عيب *** يغطيه كما قيل السخاء.

ومفهوم السخاء والجود واسع يدخل فيه قضاء حوائج الناس، وتفريج كرباتهم، فعن الحسن رحمه الله قال: “والله لأن أقضي حاجة لذي مسلم أحب إلي من أن أعتكف كذا وكذا”[7].

وقيل لابن المنكدر رحمه الله: “أي الأعمال أحب إليك؟ قال: إدخال السرور على المؤمن، وقيل: أي الدنيا أحب إليك؟ قال: الإفضال على الإخوان”[8].

وقال الشافعي رحمه الله:

وأفضل الناس ما بين الورى رجل *** تقضى على يده للناس حاجات.

ومن صور السخاء والجود الخفية المحمودة في شهر رمضان وغيره: سخاء النفس بترفعها عن الحسد، وحب الاستئثار بخصال الحمد، وذلك بأن يحب المرء لإخوانه ما يحبه لنفسه، ويكره لهم ما يكرهه لنفسه، فيفتح لهم المجالات، ويعطيهم فرصة للإبداع، والحديث، والمشاركة، ونحو ذلك؛ فيفرح لنجاحهم، ويحزن لإخفاقهم.

وأرفع درجات السخاء والجود في هذا الشهر المعظم أن يكون الإنسان في حاجة ملحة إلى ما عنده؛ فيدع حاجته، ويصرف ما عنده في وجوه الخير؛ وذلك ما يسمى بالإيثار.

وكان سخاء وجود النبي صلى الله عليه وسلم يزداد ويضاعف في هذا الشهر المبارك العظيم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما: “كان النبي أجود الناس وأجود ما يكون في رمضان”[9].

ويرجع “أكثرية جوده في شهر رمضان المبارك، فلأنه شهر عظيم، وفيه الصوم، وفيه ليلة القدر، والصوم أشرف العبادات، فلذلك قال: “الصوم لي وأنا أجزي به”، فلا جرم أنه يتضاعف ثواب الصدقة والخير فيه، ولهذا قال الزهري: تسبيحة في رمضان خير من سبعين في غيره”[10].

وأختم بقول العلامة عبد الرحمن بن الجوزي: “وإنما كثر جوده عليه السلام في رمضان لخمسة أشياء:

أحدها: أنه شهر فاضل، وثواب الصدقة يتضاعف فيه، وكذلك العبادات قال الزهري: تسبيحة في رمضان خير من سبعين في غيره.

 والثاني: أنه شهر الصوم، فإعطاء الناس إعانة لهم على الفطر والسحور.

 والثالث: أن إنعام الحق يكثر فيه، فقد جاء في الحديث: أنه يزاد فيه رزق المؤمن، وأنه يعتق فيه كل يوم ألف عتيق من النار، فأحب الرسول أن يوافق ربه عز وجل في الكرم.

 والرابع: أن كثرة الجود كالشكر لترداد جبريل إليه في كل ليلة.

 والخامس: أنه لما كان يدارسه القرآن في كل ليلة من رمضان زادت معاينته الآخرة فأخرج ما في يديه من الدنيا”[11].

اللهم قنا شح أنفسنا، واجعلنا من المفلحين، وصل اللهم وسلم على خاتم المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

جريدة المصادر والمراجع:

اصطناع المعروف لأبي بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان بن قيس البغدادي الأموي ابن أبي الدنيا، تحقيق: محمد خير رمضان يوسف، دار ابن حزم، ط1، 1422هـ ـ 2002م.

شرح رياض الصالحين لمحمد بن صالح العثيمين، مدار الوطن للنشر  الرياض ط1،1427هـ.

صحيح البخاري  لمحمد بن إسماعيل أبي عبد الله البخاري الجعفي  تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة ، ط1، 1422هـ.

عمدة القاري شرح صحيح البخاري، لبدر الدين العيني الحنفي، ضبطه وصححه عبد الله محمود محمد عمر، دار الكتب العلمية.

فتح الباري شرح صحيح البخاري لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني، دار المعرفة ـ بيروت ، 1379م.

كشف المشكل من حديث الصحيحين، لأبي الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي، دار الوطن ـ الرياض ـ 1418هـ ـ 1997م.

الوابل الصيب من الكلم الطيب، لمحمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبي عبد الله، تحقيق : محمد عبد الرحمن عوض، دار الكتاب العربي ـ بيروت،ط1، 1405 ـ1985

[1]  الحشر من الآية: 9.

[2]  عمدة القاري (32 /216)، فتح الباري(10 /457)

[3]   شرح رياض الصالحين(5/ 275).

[4]  الوابل الصيب(ص: 49)

[5]  الوابل الصيب(ص: 49)

[6]  أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الزكاة، باب قول الله تعالى: (فأما من أعطى واتقى، وصدق بالحسنى، فسنيسره لليسرى، وأما من بخل واستغنى، وكذب بالحسنى، فسنيسره للعسرى) “اللهم أعط منفق مال خلفا”، رقم: (1442)(2 /115)

[7]  اصطناع المعروف(ص: 71)

[8]  عيون الأخبار(ص: 195)

[9]  أخرجه البخاري في صحيحه كتاب االصوم، باب أجود ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في رمضان رقم: (1902)(3 /26).

[10]  عمدة القاري (1 /134)

 [11] كشف المشكل من حديث الصحيحن(ص:495ـ496)

عبد الفتاح مغفور

  • أستاذ باحث مؤهل بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالرباط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق