مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

رفع إشكال حديث: «ما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في رجب قط»

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا  محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين

إن في شهر الله المحرم: رجب الفرد يكثر فيه الحديث على ألسنة الناس بعض أحكام العبادات وأفعال العادات، فمنها ما هو مؤكد بصحته، ومنها ما هو منهي عنه، ومنها ما هو مسكوت عنه، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يتتبعون أقوال وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم دقها وجلها، كبيرها وصغيرها، فيأتمرون بما أمر، وينتهون عما نهى عنه وزجر، ويتوقفون عما سكت عنه.

إن من الأفعال النبوية التي حرص بعض الصحابة عليها رضوان الله عليهم، هي: اعتمار النبي صلى الله عليه وسلم في رجب[1]، فقد كان يقول عبد الله بن عمر: «إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب»[2]، لما سأله عروة بن الزبير: «كم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أربعا، إحداهن في رجب»، وهو: «جالس إلى حجرة عائشة»، فلما سمعت عائشة بقول ابن عمر -رضي الله عن الجميع- اعترضت عليه، فقالت: «يغفر الله لأبي عبد الرحمن، لعمري، ما اعتمر في رجب، وما اعتمر من عمرة إلا وإنه لمعه»، وفي رواية: «يغفر الله لأبي عبد الرحمن نسي، ما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في رجب»، فسكت: «فما قال: لا، ولا نعم»، لقول عائشة: «ما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في رجب»، وفي رواية: «ما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في رجب قط».

فأما الرواية الأولى: «ما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في رجب»، أو: «ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجب»: فقد أخرجها من حديث: عروة بن الزبير: البخاري في: صحيحه؛ أبواب العمرة، باب: كم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم؟ رقم الحديث: 1777[3]، ومسلم في: صحيحه: كتاب: الحج، باب: بيان عدد عمر النبي صلى الله عليه وسلم وزمانهن، رقم الحديث: 1255[4]، والنسائي في: سننه الكبرى[5]؛ كتاب المناسك، العمرة في رجب، رقم الحديث: 4207، وأحمد في: مسنده[6]، رقم الحديث: 24279، ورقم: 25238، والبيهقي في: سننه الكبرى[7]: كتاب الحج، باب: من اختار القران، وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا، رقم الحديث: 9097.

وأما الرواية الثانية: «ما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في رجب قط»، أو «ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجب قط»، بزيادة لفظة: «قط»: فقد أخرجها من حديث: عروة بن الزبير: البخاري[8]، في: أبواب: العمرة، باب: كم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم؟، رقم الحديث: 1776، وكتاب: المغازي، باب: عمرة القضاء، رقم الحديث: 4254، ومسلم[9] في: كتاب: الحج، باب: بيان عدد عمر النبي صلى الله عليه وسلم وزمانهن، رقم الحديث: 1255، والترمذي[10]، في: أبواب: الحج، باب: ما جاء في عمرة رجب، رقم الحديث: 936، وابن ماجه[11]، في: كتاب المناسك، باب العمرة في رجب، رقم الحديث: 2998، وأحمد[12]، رقم الحديث: 5416، ورقم: 6430، وابن حبان[13]، في: كتاب: الحج، باب: ما جاء في حج النبي صلى الله عليه وسلم واعتماره: ذكر وصف اعتمار المصطفى صلى الله عليه وسلم، رقم الحديث: 3945، والطبراني[14]، رقم الحديث: 2705، والبيهقي[15]، في: كتاب الحج، باب: من اختار القران، وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا، رقم الحديث: 9096.

تحدث العلماء عن هذا الحديث، وما فيه من إشكال، وهذا أوان رفع إشكال اعتمار النبي صلى الله عليه وسلم، بين إثبات عبد الله بن عمر، ونفي عائشة، وسكوت ابن عمر، رضوان الله عنهم أجمعين، وزيادة لفظة: «قط»، وإليك أقوال العلماء في الباب:

فقد قال ابن الجوزي (المتوفى سنة: 597هـ): “اعلم أن سكوت ابن عمر، لا يخلو من حالين: إما أن يكون قد شك فسكت، أو أن يكون ذكر بعد النسيان فرجع بسكوته إلى قولها، وعائشة قد ضبطت هذا ضبطا جيدا، وقد تقدم في مسند أنس اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر، كلها في ذي القعدة، وهذا حديث يدل على حفظ عائشة، وحسن ضبطها، وكان لها مع الضبط، فهم غزير تقدم به على الرد على جماعة من الصحابة”[16].

وقال القرطبي (المتوفى سنة: 656 هـ): “أما قول ابن عمر أنه: اعتمر في رجب؛ فقد غلطته في ذلك عائشة، ولم ينكر عليها، ولم ينتصر، فظهر أنه كان على وهم، وأنه رجع عن ذلك”[17].

وقال النووي(المتوفى سنة: 676 هـ): ” أما قول بن عمر: إن إحداهن في رجب، فقد أنكرته عائشة، وسكت بن عمر حين أنكرته، قال العلماء: هذا يدل على أنه اشتبه عليه، أو نسي، أو شك، ولهذا سكت عن الإنكار على عائشة، ومراجعتها بالكلام، فهذا الذي ذكرته هو الصواب الذي يتعين المصير إليه”[18].

وقال ابن حجر (المتوفى سنة: 852هـ): “ذكرته بكنيته تعظيما له، ودعت له، إشارة إلى أنه نسي، وقولها: ما اعتمر، أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرة، إلا وهو، أي: ابن عمر، شاهده، أي: حاضر معه، وقالت ذلك مبالغة في نسبته إلى النسيان، ولم تنكر عائشة على ابن عمر، إلا قوله: إحداهن في رجب”[19].

وقال الزرقاني (المتوفى سنة: 1122 هـ): “أفلا يشكل بأن تقديم قول عائشة النافي، على قول ابن عمر المثبت خلاف القاعدة، وتعسف من قال: مراد ابن عمر بقوله: في رجب، قبل هجرته؛ لأنه وإن احتمل، لكن قولها: ما اعتمر في رجب، يلزم منه عدم مطابقة ردها عليه وسكوته، ولاسيما وقد بيَّنت الأربع، وأنها بعد الهجرة، فما الذي يمنعه أن يفصح بمراده، فيرتفع الإشكال، وقول هذا القائل: لأن قريشا كانوا يعتمرون في رجب، يحتاج إلى نقل، وعلى تقديره، فمن أين أنه وافقهم وهبه صلى الله عليه وسلم وافقهم، فكيف اقتصر على مرة”[20].

وقال محمد الأمين الأثيوبي (المتوفى سنة: 1441 هـ): “«ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجب قط»؛ أي: في زمن من الأزمنة الماضية، ولفظة: «قط»؛ ظرف مستغرق لما مضى من الزمان، ويلازم النفي”[21].

حقيق أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رجب، كما أكدت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، لكن اعتمر في شهر من الأشهر الحرم، وهو: ذو القعدة، فعن قتادة أن أنسا رضي الله عنه أخبره: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر، كلهن في ذي القعدة، إلا التي مع حجته»[22].

إن مما يلتقط من حديث عروة بن الزبير رضي الله عنه: «ما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في رجب قط» ، فائدة عظيمة، وهي: تعظيم الصحابة فيما بينهم، وتوقير بعضهم البعض، ذلك أن عائشة رضي الله عنها ذكرت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بكنيته، والدعاء له بالغفران، وعدم اعتراض عبد الله بن عمر على عائشة، لمكانتها، وفضلها، وعلمها، وضبطها، وفهمها.

*****************

هوامش المقال:

[1]) أخرجه الشيخان: البخاري في: صحيحه 3 /2-3؛ أبواب العمرة، باب: كم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم؟ رقم الحديث: 1776، و مسلم في: صحيحه 2/ 916-917؛ كتاب: الحج، باب: بيان عدد عمر النبي صلى الله عليه وسلم وزمانهن، رقم الحديث: 1255، وأحمد في: مسنده 40 /324، رقم الحديث: 24279 وسيأتي إيراد ألفاظه أعلاه.

[2]) أخرجه من حديث عطاء، عن ابن عمر: النسائي في: السنن الكبرى 4 /235؛ كتاب: المناسك، العمرة في رجب، رقم الحديث: 4207، والطبراني في: المعجم الكبير 4 /437، رقم الحديث: 13596.

[3]) صحيح البخاري 3 /3.

[4]) صحيح مسلم 2/ 916.

[5]) السنن الكبرى 4/ 235.

[6]) المسند 40/ 324، 42 /135.

[7]) السنن الكبرى 5/ 11.

[8]) صحيح البخاري 3 /3، 5/ 142.

[9]) صحيح مسلم 2/ 917.

[10]) السنن 3/ 265.

[11]) السنن 2/ 997.

[12]) المسند 9/ 307، 10/471.

[13]) الصحيح 9 /260.

[14]) المعجم الأوسط 3 /132.

[15]) السنن الكبرى 5 /10-11.

[16]) كشف المشكل من حديث الصحيحين 4 /347.

[17]) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 3 /368.

[18]) المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج 8/ 235.

[19]) فتح الباري شرح صحيح البخاري 3/ 478.

[20]) شرح الموطأ 2/ 392.

[21]) مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه والقول المكتفى على سنن المصطفى 17/ 349.

[22]) أخرجه الشيخان: البخاري في: صحيحه 3 /3؛ أبواب العمرة، باب: كم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم؟، رقم الحديث: 1780، و مسلم في: صحيحه 2/ 916؛ كتاب: الحج، باب: بيان عدد عمر النبي صلى الله عليه وسلم وزمانهن، رقم الحديث: 1255، واللفظ لمسلم.

***************

جريدة المراجع

الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان لمحمد بن حبان بن أحمد بن حبان البُستي، ترتيب: علاء الدين علي بن بلبان الفارسي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت- بيروت، الطبعة الأولى: 1412 /1991.

الجامع الصحيح (السنن) لمحمد بن عيسى بن سَوْرة الترمذي، تحقيق ج3: محمد فؤاد عبد الباقي، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر، الطبعة الثانية: 1388 /1968.

الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، بيروت-لبنان، دار المنهاج، جدة-السعودية، الطبعة: الأولى: 1422، طبعة مصورة عن الطبعة الكبرى الأميرية، بولاق- مصر، 1311.

السنن الكبرى لأحمد بن الحسين بن علي البيهقي، تحقيق: جماعة من العلماء، دار النوادر،  الطبعة الأولى: 1424 /2013، مصورة عن مجلس دائرة المعارف النظامية، حيدر آباد- الهند، الطبعة  الأولى: 1344.

السنن الكبرى لأحمد بن شعيب بن علي الخراساني، النسائي، تحقيق: حسن عبد المنعم شلبي، إشراف: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى: 1421 /2001.

السنن لأبي عبد الله محمد بن يزيد ابن ماجه القزويني، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، مصر، (د-ت).

شرح موطأ الإمام مالك لمحمد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاني المصري، تحقيق: طه عبد الرءوف سعد، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة- مصر، الطبعة الأولى: 1424 /2003.

فتح الباري بشرح صحيح البخاري لأحمد بن علي ابن حجر العسقلاني، المطبعة الكبرى الأميرية، بولاق- مصر، الطبعة الأولى: 1300.

كشف المشكل من حديث الصحيحين لجمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، تحقيق: علي حسين البواب، دار الوطن، الرياض- السعودية، الطبعة الأولى: 1418 /1997.

مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه والقول المكتفى على سنن المصطفى لمحمد الأمين بن عبد الله بن يوسف بن حسن الأثيوبي، إشراف: هاشم محمد علي حسين مهدي، دار المنهاج، السعودية- جدة، الطبعة الأولى: 1439 /2018.

المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لمسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت-لبنان، (د-ت).

المسند لأحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، تحقيق: جماعة من الباحثين، إشراف: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى: 1421 /2001.

المعجم الأوسط لسليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني، تحقيق: طارق بن عوض الله بن محمد، وعبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، دار الحرمين، القاهرة- مصر، (د-ت).

المعجم الكبير لسليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني، تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، الطبعة: الثانية، (د-ت).

المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم لأحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي تحقيق: محيي الدين ديب ميستو، أحمد محمد السيد، يوسف علي بديوي، محمود إبراهيم بزال، دار ابن كثير، دار الكلم الطيب، دمشق- سوريا، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى: 1417 /1996.

المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج ليحيى بن شرف بن مري النووي، دار إحياء التراث العربي، بيروت- لبنان، الطبعة الثانية: 1392.

*راجع المقال: محمد إليولو

Science

يوسف أزهار

  • باحث بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسير ة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق