مركز الدراسات والبحوث في القضايا النسائية في الإسلامقراءة في كتاب

رساليات في البيت النبوي وإسلام (ثلاثية وترية) صافي ناز كاظم

 

 

 

 

إعداد: مونية الطراز

 

مدخل إلى الكتاب:

صافي ناز كاظم امرأة من زمرة المصلحات في العصر الحديث، قدّمت الكثير لحركة الوعي الإسلامي بشكل عام والنشاط النسائي على وجه الخصوص. من أبدع أعمالها وأروع ما سطّرت يمناها ونسجه مخيالها كتاب “رساليات في البيت النبوي وإسلام (ثلاثية وترية)” وهو مؤلَّف رفيع، بسيط الموضوع، عميق الرؤية، طافح بالأحاسيس، مثقل بالمعاني، واضح العبارات، غني بالإشارات.

هذا الكتاب هو موضوع قراءتنا التي ننقل من خلالها حصيلة استمدادات الكاتبة من وحي السيرة العطرة لشخصيات نسائية من البيت النبوي، نأمل أن تعكس بعض مضامين النجوى التي عرَجت بالكاتبة إلى مقامات نساء “الصفوة”، لنفسح من خلالها المجال لجذوات أنوارهن المقتبسة، عسى أن تكون هذه القراءة، وكما أرادت الكاتبة، سكّة المريدات إلى النساء المصطفيات لتَمْتَحْن من جوانب شخصيتهن المثلى ما تُنِرن به عتمات الحياة العصرية.

كتاب “رساليات في البيت النبوي وإسلام (ثلاثية وترية)” للكاتبة المتميزة صافي ناز كاظم هو تحفة نادرة من تحف ثمانينيات القرن الماضي، حيث كانت الكتابة فنّا يجمع بين الإفادة والمتعة، وكانت البلاغة ذات حظوة لم تخْبُ بعدُ عن مسرح البيان والإفهام.

الكتاب أيضا، فسحة مفيدة تمتد عبر 118 صفحة يسيح القارئ في أرجائها إمعانا في تأملات المؤلفة وخواطرها التي أصرّت أن تقدّم ثمراتها هديّة لروح الشهيد سيد قطب، فصافي ناز حسبما يبدو لم تُخمِد ذكراه في نفسها، حيث يبدو أن ذكراه لم تخمد في نفس صافي ناز وهي تهديه الكتاب بتاريخ 1408 هـ 1987م، كما أن أثر الشهيد إلى حدود تاريخ الكتابة لم يُمْح مع الزمن ولم تنقشع ظلاله على أسلوبها وهي تسطّر خلجات نفسها في حضرة نساء الصفوة على منوال أسلوب سيد قطب وتصويره الفنّي، ولم تنس وظيفة البلاغة وهي تدقّق في عباراتها المنتقاة بعناية قبل أن تقدّمها خواطر رسالية لتطبع وتنشر ضمن سلسلة “كتاب الزهراء” الذي وقعت يدي على أول طبعة له.

الكتاب في سطور:

لقد كانت الكاتبة وهي تسجّل كلماتها تخلّد لحظات التأمل التي عاشتها في خلوات النجوى، هذا ما أكّدته في المقدمة الموسومة ب “تأمل ووتريات” حين كشفت عن المنهج الذي سلكته وهي تنقّب في جوانب القدوة المشعّة التي تستنهض في المرأة المسلمة المعاصرة فعاليتها بصفتها “كادرا” إسلاميا لها موقع معتبر في المجتمع الإسلامي، فذلك ما كان يشغلها وهي تعالج الأبحاث والروايات التي حقّقت سيرة هؤلاء الرساليات النبويات، فالكاتبة تعتبر أن انعكاس سيرة الصفوة على نساء العصر الحديث من شأنه أن يبعثهن حرائر عزيزات من أرضيتهن العقدية وتراثهن الثقافي والفكري، بحيث لا تختلط عليهن السبل.

 ولهذه الغاية، وتحت أثر هذا الوعي، جلست الكاتبة جلسة استمداد إلى شخصيات كتابها محاولة استخلاص سبيل النجاة والنهوض من سيرتهن، لتكون بذلك امتدادا روحيا إسلاميا منتصرا ومتقدما عبر العصور.

وأولى شخصيات هذا الكتاب الشيق هي “سكن الرسول: خديجة بنت خويلد” -رضي الله عنها- التي كانت حركة عطاء منهمر: خزائنها مفتوحة للمسلمين، وأموالها تتدفق إلى كل سبيل لله، فخديجة كانت –كما تقول الكاتبة- نِعم العون والنصير في التجهيز للهجرة الأولى وكذا في الحصار الاقتصادي الذي ضربته قريش على المسلمين بشعب أبي طالب، إلى أن خرجت رضي الله عنها شهيدة “معركة الخبز أو محمد!” وتوفيت – رضي الله عنها- في رمضان عام الحزن قبل ثلاث سنوات من الهجرة، وبقيت ذكراها متوهجة في قلب الرسول عليه السلام، فكانت سكن له في حياتها وحنين فؤاده بعد الفراق.

وثاني الرساليات اللواتي ترجمت لهن الكاتبة هي “أم أبيها: فاطمة بنت محمد” التي كانت المثال والقدوة “لسرب” خَلَفها من المسلمات الرساليات اللواتي عرفن منها عزة المسلمة، وتعلّمن من سيرتها معاني الصبر والصدق والطهر والسمو.

 لقد ورثت فاطمة – رضي الله عنها-  من أبيها عليه الصلاة والسلام صفات أخرى من خصال النبوة مثل الرحمة والرقة والحنان، وبهذه الصفات كانت الظل والمِجَنّ للنبي صلى الله عليه وسلّم، وبها أكّدت له عملا أنها الرسالية الجديرة بأن تكون خلفا لأمها في تحقيق السكن والطمأنينة فاجتمع فيها مع تشابهها التام بالرسول المفدى بيت النبوة كاملا، ولهذا وصفها الرسول بقوله: “فاطمة: أم أبيها!” مثلما وصفها ب”سيدة نساء العالمين”.

وثالث الرساليات اللواتي ترجمت لهن صافي ناز كاظم هي “أم الشهداء: زينب بنت علي” التي كانت امتدادا لأمها، هذه السيدة ظاهرة أخرى من ظواهر الشموخ والإباء والتضحية التي بقيت طابعا ملازما للبيت النبوي حتى بعد وفاة الرسول الكريم، ولتُظهر هذا الجانب عرضت الكاتبة لما عانته السيدة الطاهرة من كرب وبلاء في موقعة كربلاء، بأسلوبها الرقيق الذي يتسلل إلى القلوب بأحزانه وآهاته، فوصفت كيف وقفت زينب أبيّة في وجه المستكبرين والظلمة، وأصرّت ألا تخذل أخاها الحسين الذي حيِيَ بطلا ومات بطلا رافضا للظلم والجور والبغي والطغيان.

 ثم إن الكاتبة حين نقلت بعض فصول حياة زينب وبعض مواقفها كانت تهدف إلى الكشف عن صورة نساء غيّب التاريخ شهودهن الحضاري وفعاليتهن في الحياة، ومن ذلك ما ذكرته من أن زينب كانت في نظر والي المدينة مصدر خطر محدق قادر على التجميع والتهييج والتأثير، ولذلك حاول أن يُخرِس صوتها حين أمر بإبعادها عن المدينة ونفيها إلى مصر التي تشرّفت بمواراة جثمانها الطاهر عام 62هـ، وهكذا التحقت بركب النور النبوي في الرفيق الأعلى، وعلى النهج الرسالي للنبوة، وخلّدت ذكراها أما للشهداء وشهيدة “معركة “الدنيا أو محمد”.

أما رابع الشخصيات الرسالية التي أنارت لنا الكاتبة جوانب من حياتها، فهي السيدة “المفترى عليها: سكينة بنت الحسين” وذلك من خلال مشاهد صوّرتها بأسلوبها الفني لتعكس وقائع الأسى والحسرة التي جثمت على أنفاس البيت النبوي، فصوّرت في “المشهد الأول” المنظر المريع لأسر بنات رسول الله وأزواج أبنائه وأهل بيته الطاهرين، وأتبعته ب “المشهد الثاني” حيث حُكّم البهتان في شرف سكينة وتم “اغتيال الشخصية” في ذكراها، وجرى طمس نفسها الزكية بخنجر الزور والبهتان.

وفي “المشهد الثالث” رجعت الكاتبة إلى صور أخرى سابقة من شموخ سكينة وهي تقف إلى جوار عمتها في وجه الظالمين والمستكبرين. وعلى طريقة “الفلاش باك” اقتنصت الكاتبة “لقطات من الماضي” سردت فيها زواج أبوي سكينة، وأصحبتها بترجمة مقتضبة عن طفولتها الأولى، ولمحات من صباها إلى جانب إخوتها، وقدّمت عوالم من الصفاء الأخوي، ووصفتها بالسياج النوراني العاصم من فتنة الدنيا، فعوالمهم كانت مدارسات للقرآن والحديث، واعتكافا وتهجدا وخلوة. لقد هدفت الكاتبة من سرد هذه اللقطات إلى الكشف عن التربية الإيمانية التي نشأت وترعرعت في ظلها سكينة، وهي تربية تنأى بها عن كل شبهة أو افتراء، وتستحق منا كل إنصاف واعتبار.

بعد سرد هذه اللقطات من الماضي قامت الكاتبة ب “عودة إلى المشهد”، مشهد ما بعد مذبحة كربلاء بقليل، لتقرّ أن سكينة قد اختارت التبتل مسلكا، وهي التي وصفها والدها حين قصده خطّابها ” بالمستغرقة في الله فما تصلح لرجل”، ومع هذا لم تسلم من “افتراءات” متناقضة منطقيا وفكريا ودينيا مع عواصف حياتها وإطار منشئها ومبدئية دينها، فقد حوّل الوصافون –حسب الكاتبة- صورة سكينة المستغرقة في الله إلى صورة المفتونة بالدنيا المقبلة عليها المشاركة في تدعيم فتنتها، وفي هذا الصدد انتقدت الكاتبة بشدّة ما جاء من افتراءات عن سكينة في كتاب “الأغاني” لأبي الفرج الأصفهاني، واصفة هذه الأكاذيب بالمذبحة المعنوية والأدبية التي اغتيلت فيها شخصية أهل البيت ورمزيتها.

وفي “المشهد الختامي” صوّرت الكاتبة بنجاح كبير معاناة سكينة بعد قتل زوجها غدرا، وكأن رحم التاريخ لا تعقم عن إنجاب الأبطال، فاغتراب زينب هو نفسه اغتراب سكينة مع ما بينهما من فارق، والمجد نفسه تكرر معها وكذا الشموخ والإباء.

سكينة أبدلت الكوفة أيضا بالمدينة، وطاقتها بقيت متوهجة لم تفتر وإن تحولت من الشهود السياسي إلى الشهود العلمي حيث جعلت من مقاعد المدينة مجالس علم وفقه وثقافة نبوية حتى وفاتها عام 118هـ.

بعد الانتهاء من تراجم رساليات بيت النبوة بثت الكاتبة لواعج قلبها في أبيات أو خواطر أدبية سمتها “إسلام: ثلاثية وترية”، فعنونت الوترية الأولى بقوله تعالى: “وله أسلم من في السموات والأرض”، وعنونت الوترية الثانية بقوله تعالى: “هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله” وجعلت الوترية الثالثة تحت عنوان “أما الصوم فإنه لي”. وبهذا طوت صفحات كتاب قلّ نظيره في حسن التعبير وجمالية الأداء وبلاغة الكلمة، مع صدق المشاعر ورهافة الأحاسيس، وهي في هذا مثّلت ظلا وامتدادا لصاحب “الظلال” الذي يبدو تأثرها بأسلوبه واضحا لا يخفى.   

 

نشر بتاريخ: 2/5/2013

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. قدرا قرأت هذا العرض الجميل لكتابي رساليات ، شكرا للكاتبة و الحمد لله رب العالمين.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق