الرابطة المحمدية للعلماء

رسالة ملكية إلى المشاركين في الرحلة البحرية “البحث عن إسلام الأنوار”

“البحث عن إسلام الأنوار.. العصر الذهبي للديانات التوحيدية في المغرب والأندلس”

وجه أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس رسالة سامية إلى المشاركين في الرحلة البحرية حول موضوع “البحث عن إسلام الأنوار: العصر الذهبي للديانات التوحيدية في المغرب والأندلس”، بمناسبة زيارتهم يوم الأربعاء( 17-09-2008) إلى مسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء. وقد أكد أمير المومنين في رسالته أهمية إيجاد منظومة أخلاقية متسامية يتمازج في بوثقتها الإيمان والعلم لخدمة الإنسانية وجعلها قادرة على النهوض برسالتها على الأرض.

 وقال جلالته إن الرحلة البحرية المنظمة حول موضوع (البحث عن إسلام الأنوار .. العصر الذهبي للديانات التوحيدية في المغرب والأندلس) على متن سفينة “ترمز بحق إلى المصير المشترك للإنسانية في سعيها لتحقيق التوازن والاستقرار والسلم والعدل في عالم متسارع التحولات. مؤكدا أن العديد من المرجعيات والمبادئ تأسست وترسخت حول قيم تعد اليوم من أسمى وأعز القيم المغربية، موضحا أنها قيم الاحترام والتضامن والعدل والإنصاف والتبادل والاعتراف بالغير والاعتدال والتفاهم المتبادل ومساهمة في إثراء الحضارة الإنسانية.

وفي هذا السياق أوضح أن بحث المشاركين في الرحلة عن الإسلام الذي وصفه ب “المتنور” سيقودهم للوقوف عن كثب على ما للمقاربة التي تجمع بين سلطة المنطق والعقل وجوهر الحياة من اثر ايجابي على البشرية.

وكانت هذه الرحلة قد انطلقت من فرنسا وزارت اسبانيا ثم المغرب الذي ستبقى فيه خمسة ايام حيث يشارك في هذه الرحلة التي تنظمها مجلة (دفاتر الشرق) نحو 500 شخص من الديانات التوحيدية الثلاث

وفي ما يلي نص الرسالة الملكية السامية التي تلاها السيد أحمد التوفيق وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية:

“الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه.
حضرات السيدات والسادة،  يسعدنا أن نستقبلكم على أرض المغرب، وبمسجد الحسن الثاني، هذا المكان المقدس،  المتوجه صوب الأفق، والمنفتح على المستقبل، المفعم بروح تواقة إلى لقاء كل ما هو  مفيد ومثمر. هذه المعلمة التي سهر على تشييدها والدنا المنعم، جلالة الملك الحسن  الثاني، أكرم الله مثواه، بمعية الشعب المغربي.
وقد أمكن لهما، من خلال بناء هذا المسجد، أن يعكسا، في انسجام تام، أنوار  الإسلام، التي تنير الأفئدة، وتشحذ العقول، وتحث على التفكير والتأمل.

لقد تم بناء هذا الجامع، الذي يفتح ذراعيه ليعانق المحيط الأطلسي الشاسع، ويحتضن أمواجه، ويطلق العنان لتياراته المادية منها والروحية، في حركية دائمة لا  تنقطع، عملا بقوله عز وجل ” هو الذي خلق السماوات والارض في ستة أيام، وكان عرشه على الماء، ليبلوكم أيكم أحسن عملا”. صدق الله العظيم.
 حضرات السيدات والسادة،  إن رحلتكم على متن سفينة لترمز بحق، للمصير المشترك للإنسانية، في سعيها  لتحقيق التوازن والاستقرار، والسلم والعدل، في عالم متسارع التحولات. كما أن  لقاءاتكم المثمرة والمتسامية، لتحملنا على السفر بأذهاننا إلى مستقر تلكم الذاكرة،  التي تختزن في طياتها معين الحكمة والتبصر، وكأنها تريد إنقاذ حياتنا من طوفان  مدمر. بعيدا عن جمود القارات، وتضاريسها الصعبة.

 كما أن بحثكم عن الإسلام المتنور سيقودكم للوقوف عن كثب، على ما للمقاربة التي  تجمع بين سلطة المنطق والعقل، وجوهر الحياة، في شقيها المادي والروحي، من أثر  إيجابي على البشرية. وما لها من دور في تعزيز مبدإ التكامل بين مختلف مناحي الحياة  الإنسانية، والحفاظ على التنوع باعتباره عاملا للإثراء، وليس عاملا من عوامل  النزاع.

إن مساركم يسلك سبل العيش المشترك. كما يربط الماضي بالحاضر، في انفتاح على  المستقبل. وإذا كان البحر يمنحكم لحظات للتأمل والتفكير، فإن زيارتكم لمسجد الحسن  الثاني، هذه المعلمة التي تداعبها مياه المحيط ، ستلهمكم السكينة وتكفل لكم الملجأ  والمأوى للتذكير والتأمل. فهذا المسجد بتشييده على البحر، كأنما يراد منه أن يكون  مؤهلا لحماية الإنسان من نزواته الأرضية. وبإطلاله المشرف على المدينة، يشكل جسرا  للتواصل والتفاعل بين عناصر الطبيعة. وهو بذلك يجسد تواضع الكائن البشري أمام عظمة  خالق الكون، الواحد الأحد.
حضرات السيدات والسادة، إن روح الانفتاح هاته على الكون، بمختلف مشاربه وتجلياته، لتستند إلى هويتنا  المتجذرة، التي هي نتاج تاريخ عريق من التلاقح والتمازج الثقافي والديني، ساهم  بفعالية في إغناء الملحمة الإنسانية.

وبذلك تأسست مرجعيات، وترسخت مبادئ حول قيم تعد اليوم من أسمى وأعز القيم  لدينا. قيم الاحترام والتضامن، والعدل والإنصاف، والتبادل والاعتراف بالغير،  والاعتدال والتفاهم المتبادل. إنها بذورنا ومساهمتنا في إثراء الحضارة الإنسانية.

إن مسارنا يتحقق في إطار من الاستمرارية، بدون قطيعة ولا انفصام، ويوثر مواصلة  العمل على درب التغيير والتميز. كما يجمع، في إطار من الاحترام، بين إرثنا المتنوع  والغني، وتطورات فكرنا الحديث عبر مختلف المراحل.
لذا، فإن التزامنا الروحي من أجل انبثاق تعاون أمثل بين مختلف التقاليد الدينية والفلسفات الإنسانية، ليتجسد من خلال الاقتناع الراسخ، والعمل الموصول، لكي تصير حرية الضمير والرأي هي الأساس، الذي يقوم عليه أي بناء ديمقراطي، وأي تنمية بشرية.

وبغض النظر عن بعض الاختلافات الجزئية، ومظاهر الجهل، التي يكنها بعضنا للبعض، فإن تطلعنا لتحقيق التعايش الهادئ بين أتباع الديانة التوحيدية الواحدة، يتقاطع مع ما يخالجكم من انشغالات، من أجل وضع الأسس المتينة لانبثاق فكر متناسق، يستلهم عناصره الجوهرية من الأحداث التاريخية، ومن معين الحكمة البشرية.

حضرات السيدات والسادة،
 إن بحثكم عن إسلام الأنوار هو ما حدا بنا إلى العثور في هذه الأرض الخصبة المعطاء على أنوار الإسلام، الذي أضاء للبشرية طريقها. جاعلا من السعي إلى امتلاك ناصية العلم أحد الواجبات المنوطة ببني البشر، ومن التقوى ميزانا لقياس مدى صلاح الفرد في خدمة الإنسانية، بعيدا عن الاعتبارات القائمة على العرق أو اللون أو الجنس.
كما ساهم في إثراء المنظومة القانونية التي تعد بمثابة تراث مشترك بين كافة بني البشر. فضلا عن كونه قد سن قانونا للأقليات، في إطار نسق نظري متكامل، مساهما في تعزيز مبدإ التشاور والمشاركة المواطنة، واتخاذه نهجا في الحكامة.

 وإن بيعنا وكنائسنا ومساجدنا التي تشكل النسيج الملتحم لأماكن العبادة بالمغرب، لترمز إلى ذلكم التطور الذي شهده تراثنا، النابع من العقيدة الإبراهيمية. كما أنها تحيل في نفس الوقت، على المراحل الثلاث، التي مر منها خلال تطوره. فبالإضافة إلى أن اكتمال الوحي قد ارتكز على مبدإ الإقرار بمشروعية تواتر الأشواط الثلاثة، فقد اعتمد أيضا على ما جاء في محكم التنزيل من قوله عز وجل : ” آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمومنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير”.
وعلى هذا الأساس، فإننا ضامنون وساهرون على حماية هذا التنوع الذي يندرج ضمن المقاصد الإلهية العليا.
لذا، فإننا نستهدي بالتعاليم التي أتت بها الديانات التوحيدية لاستلهام ما خلفه لنا أجدادنا من فضائل وقيم مثلى، وإمعان النظر في تلكم الجهود التي بذلوها للصمود أمام شتى أشكال الفوضى العدمية، التي كانت تتهددهم طيلة الأحقاب والعصور والتجاوزات التي تخللت المسيرة البشرية، وعرقلت تقدمها.

حضرات السيدات والسادة،
إن الإيمان هو جوهر خلاصنا، والنبراس الذي نهتدي به للقيام برسالتنا على الوجه الأمثل. كما أن العلم هو ذلكم الدرع الواقي، الذي ينبغي التسلح به لصون معتقداتنا.
فالإيمان بدون علم لن يكون أبدا في مأمن من الأضرار التي قد تلحقه بسبب الجهل.

 كما أن العلم بدون إيمان يظل نفعه مبتورا غير مكتمل بالنسبة للبشر. فبقدرما نحن بحاجة إلى منظومة أخلاقية ذات بعد ديني، تمثل السند لتلكم الحريات الجامحة، وتضفي عليها بعدا إنسانيا، فإننا بحاجة إلى منظومة أخلاقية علمية من شأنها حماية الإنسانية من تجاوزاتها المدمرة.
 لذا، فنحن بحاجة إلى منظومة أخلاقية متسامية، يتمازج في بوتقتها الإيمان والعلم، لخدمة الإنسانية، وجعلها قادرة على النهوض برسالتها على الأرض.

حضرات السيدات والسادة،
لقد حدد المغرب لنفسه ما يريده من خيارات مصيرية. فعلاوة على ذلكم التصور الذي جعله منطلقا لتحديد السياسات العمومية، التي يروم نهجها، فهو قد اختار أن يسير على درب الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان ومراعاة المقومات المكونة لهويته.
 كما أن سياستنا الدينية تعد ثمرة لتاريخنا العريق، الذي ظل يتسم بالانفتاح على التحولات الإقليمية والدولية. وتهدف إلى الاستجابة لحاجيات المواطنين ولمتطلبات العصر. وهي تقوم على أساس دمج عملية تدبير الشؤون الدينية ضمن إطار مؤسساتي.

وتعتبر مؤسسة إمارة المؤمنين حجر الزاوية التي يقوم عليها هذا الصرح الديني ، باعتبارها الضامن لاستمرار مقوماتنا الدينية النابعة من مذهبنا.
 وإن الإصلاحات التي تم إطلاقها، لها كلها سند قانوني، ويتم التعامل معها في إطار احترام المقومات الدينية لبلادنا ومراعاة ما يصبو إليه المؤمنون من تطلعات روحية.
ومن هذا المنطلق، تقوم هذه الإصلاحات على أولويات ثلاث هي :  التأطير الديني، وأماكن العبادة، والمتطلبات الروحية للمواطنين.
وفي هذا الإطار، فقد عمد الإصلاح الديني، الذي يشمل التأطير الديني، إلى إعادة هيكلة مؤسسة العلماء، التي يمارسون فيها المهام الموكولة إليهم. كما مكّن هذا الإصلاح من نهج سياسة القرب، وتحديد طبيعة المهام المسندة للعلماء، وتنويع المضامين التكوينية، التي تستفيد منها هذه الفئة التي غدت أكثر انفتاحا على العلوم
 الإنسانية، واللغات وباقي الديانات.

وفي نفس السياق، فقد أضحت المرأة أحد الفاعلين الذين لا محيد عنهم في هذه الدينامية الإصلاحية. كما أن الآراء الفقهية المرتبطة بالمصلحة العامة أصبحت تكتسي بعدا مؤسسيا بعيدا عن المقاربة الفردية.
ومن جهة أخرى، صارت أماكن العبادة تستفيد من منافع السياسة العمرانية الهادفة إلى إدماجها، بشكل متناسق، ضمن الفضاء العمراني. وذلك من خلال مخطط مديري وقوانين شفافة، تتوخى ضمان الموارد العمومية والخاصة، المرصودة لبناء أماكن العبادة وتجديدها وتسييرها.

وتهدف هذه الإصلاحات التي أطلقناها إلى النهوض بفكر متنور، يتفاعل مع باقي مكونات المجتمع، في انفتاح على العالم. وهو ما من شأنه أن يعزز مقومات الثقافة المشتركة بين الجميع، ويساهم في توثيق الأواصر الاجتماعية، باعتبارها الرابط الذي يساعد على تحقيق التطور الديمقراطي والتنمية البشرية.

 إن روح الاعتدال لتحمل في طياتها بواعث الشعور بالسكينة. باعتبارها ضالة النفس المفعمة بكل ما تتوق إليه. إلا أنها تصطدم بسلوكات سياسية منحرفة تعمل على زرع بذور الشر والفتنة، وتتنافى مع روح الرسالات العالمية، والساعية إلى السير على دروب النور والهداية. مصداقا لقوله عز وجل : “الله نور السماوات والأرض، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح ، المصباح في زجاجة ، الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، نور على نور”. صدق الله العظيم.
 والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق