مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

رسالة ابن أبي زيد القيرواني: إيرادات وأجوبة (1)

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده

وبعد فهذه أوراق في محاولة الذب عن هذا العلق النفيس «متن الرسالة» من خلال أجوبة عن إيرادات عليه تغض من قيمته الفقهية، وتزري بمكانته الاجتهادية؛ استنادا إلى تمهيد أسست على متين بنيانه إيرادات قادحة، سنوردها  بعده واحدة واحدة محاولين تثويرها والإجابة عنها:

فأما التمهيد فلما تقرر للكل من أن التراكم الزماني، والتعاور الذهني، والتداول العملي شرائط في الترقي إلى أسمى مراتب الصنائع العلمية وغيرها، وكذلك في صناعة الفقه؛ لكونها جزءا من هذه الصناعة العامة؛ إذ الصنائع منها ما يختص بأمر المعاش، ضرورياً كان أو غير ضروري، ومنها ما يختص بالأفكار التي هي خاصية الإنسان من العلوم والصنائع والسياسة، ومنها صناعة الفقه.

ولا ريب أن هذه الصناعة قد تجلت فيها الشرائط الآنفة؛ إذ عركتها أزمنة مترامية من لدن عهد التنزل إلى عهد الصحابة إلى التابعين وتابعيهم إلى أئمة المذاهب: فمُهدت أصولها وقواعدها، وبُينت مصادرها ومواردها، وضبطت أغراضها ومقاصدها، واستخرجت دفائنها وفرائدها ، وقيدت أوابدها وشواردها، وهذبت ألفافها وزوائدها، حتى استوت شامخة على سوقها، فاستحالت صناعة قائمة الذات، بارزة المعالم، مطردة القواعد، لاحبة المناهج، رحبة المقاصد ، واضحة المسالك والمآخذ.

غير أن المشتغلين بهذه الصناعة الممهدة متفاوتون فيها تفاوتا بينا؛ إذ من خواص الكيف التفاضل: فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه (وفوق كل ذي علم عليم) والغرض أن المشتغل بعلم ما قد لا يصير ذا ملكة فيه؛ لمجرد أن ذلك العلم قد استحال بالتداول والتنقيح والتهذيب صناعة في أسنى صورها؛ لخلل يعتريه؛ إذ شرط الملكة رسوخ الصنعة حتى تستحيل جزءا من ذات المتهمم بها، ودون ذلك حدة في الذهن، وسرعة في البديهة، وفطانة في الادراك، وقوة في الاستنباط والمقارنة، على تمهل في الأخذ والمدارسة، ومن عري عما سلف كانت له حال في الصناعة دون تملكها، قال ابن رشد: «والملكة منها تخالف الحال في أن الملكة تقال من هذا الجنس على ما هو أبقى وأطول زمانا، والحال على ما هو وشيك الزوال، ومثال ذلك العلوم والفضائل؛ فإن العلم بالشيء إذا حصل صناعة كان من الأشياء الثابتة العسيرة الزوال، وذلك ما لم يطرأ على الإنسان تغيير فادح من مرض أو غير ذلك من الاشتغال بالأمور الطارئة التي تكون سببا مع طول الزمان؛ لذهول الإنسان عن العلم ونسيانه، فأما الحال فإنها تقال من هذا الجنس على الأشياء السريعة الحركة السهلة التغير مثل الصحة والمرض، والحرارة والبرودة التي  هي أسباب الصحة والمرض؛ فإن الصحيح يعود بسرعة مريضا، والمريض صحيحا، ما لم تتمكن هذه فيعسر زوالها؛ فإنه إذا كان الأمر كذلك كان للإنسان أن يسميها ملكة»([1])، على أن الملكات إنما هي أولا حالات، ثم تصير بالآخرة ملكات إذا انتفت الموانع، وتوافرت الشروط والدوافع.

وملخص هذا كله في صفات المجتهد وشروطه من فن الأصول، ومن ذلك قول ابن النجار: «ويتضمن ذلك: أن يكون ‌عنده ‌سجية ‌وقوة يقتدر بها على التصرف بالجمع والتفريق والترتيب، والتصحيح والإفساد؛ فإن ذلك ملاك صناعة الفقه..» ([2])

إذا ثبت هذا التقرير فإن للشيخ أبي محمد عبد الله بن أبي زيد النفزي القيرواني ملكة راسخة في هذا الشأن؛ إذ كان واسع العلم، كثير الحفظ والرواية، ذابّاً عن مذهب مالك، قائماً بالحجة عليه، لخص المذهب وضم كسره، فكثر الآخذون عنه ونجب أصحابه، وإليه كانت الرحلة من الأقطار، قال الشيرازي: وكان يعرف بمالك الصغير، وذكره أبو بكر ابن الطيب فعظم قدره وشيّخه، واستجازه ابن مجاهد البغدادي وغيره من أصحابه البغداديين([3])

ويكفيه كتاب «النوادر والزيادات» خدمة للمذهب جمعا وشرحا، تنقيحا وتحقيقا: فهو في المذهب المالكي كمسند الإمام أحمد عند المحدثين إذا لم توجد فيه المسألة فالغالب أن لا نص فيها([4])؛ ولهذا قال حافظ المغرب أبو الحسن ابن عبد الله القطان: «ما قلدته ـ يعني الشيخ ـ حتى رأيت السبائي يقلده»([5])، وقد زعم الحجوي أنه مجدد المائة الرابعة في قطره([6])

ومن طريف ما وقفت عليه مما يدل على سمي مكانته قول أبي الفضل راشد بن أبي راشد الوليدي الفاسي في معرض إنكاره على القشيري والغزالي رحمهما الله، قال: «ولا أتمنى على الله أن أكون معهما في المحشر، بل مع ابن أبي زيد..» ([7]) وهذه مبالغة شديدة في النكير رحم الله الجميع.

فهذا يدل بإطلاق على مكين ملكته في الصنعة، وعظيم أهليته في العلم، وسني منزلته في المذهب والأشياخ، بيد أن ما تمهد إن سلمناه  في مختصر المدونة، والنوادر وسواهما من جياد كتبه، فإنه لا يسلم في خصوص الرسالة لأمور، جملتها في هذه الإيرادات:

أولها: أنه ألف هذه الرسالة في صباه، وهو ما به ينخرم شرط الزمان ومكيث الارتياض؛ لاكتساب الملكة؛ إذ الظاهر أن للشيخ في سنه ذاك حالا في العلم دون الملكة فيه، قال ابن مخلوف:« ألفها وسنه سبعة عشر عاماً وهي أول تآليفه»([8])

والجواب أنه قد لا يستد اعتراضا؛ لاختلافهم في ذلك السن بين تسعة عشر وسبعة عشر([9])، وعلى فرض تسليمه فمناط التكليف في مثله ينقص أو يزيد بقليل، وإذا ثبت اعتباره شرعا مناطا للتكليف فقد قطعت جهيزة قول كل خطيب، وأوهنت كل اعتراض، على أن الاختلاف قائم والتفاوت بين في الأشخاص والبيئات والزمان، ففي مثل هذه السن قلد أسامة بن زيد رضي الله عنه قيادة الجيش وفيه أبو بكر وعمر وسواهما من أكابر الصحابة، وأجلس عبد الله بن عباس في ملأ الصحابة للمشورة والرأي والفتوى في خلافة عمر بن الخطاب..وفي مثله أو يزيد صنع أبو الفضل أحمد بن محمد بن عطاء الله السكندري الحكم العطائية، وهي باكورة أعماله، ودرة تواليفه، شحط صيتها، وسما قدرها عند العارفين، حتى زعم الفقيه البناني صاحب الحواشي أن لو صحت الصلاة بغير الفاتحة لصحت بالحكم([10])، ولما ولي الفقيه القائد الوزير القاضي أبو يحيى ابن أكثم قضاء البصرة كان ابن عشرين، فجاء بعضهم إليه وقال: كم سن القاضي؟ فأجاب بديهة: «ولى رسول الله ﷺ عتاب بن أسيد مكة أصغر مني، وأنا أكبر من معاذ لما وجهه إلى اليمن، ومن كعب بن سوار لما وجهه عمر قاضيا على البصرة» فكان جوابا وحجة([11]). فلا يستحسن الاعتبار بالشخوص في تحديد الملكات؛ لتفاوت المدارك قوة وضعفا، ولا ببيئة على أخرى؛ لتغاير الأجيال وعوائدها في الصنائع والعلوم وسواها، ولا يعتبر بزمان حكما على زمان؛ لاختلاف الحقب في أنماط الحياة وسلوكاتها.

والحاصل أنه لا يبعد تحصيله الملكة العلمية في سنه شرعا وعقلا وعادة؛ لقوة مداركه، وشدة إقباله، ولفضل الله من قبل ومن بعد، ويؤيده أن تأليفها بطلب من شيخه([12])، ولا يسأله ذلك إلا لكونه آنس منه علما وفضلا وورعا (يوتي الحكمة من يشاء ومن يوت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) [البقرة:269].

([1]) ن تلخيص منطق أرسطو لابن رشد:2/47

([2]) المختبر المبتكر شرح المختصر (شرح الكوكب المنير) لتقي الدين أبي البقاء محمد بن أحمد ابن النجار الحنبلي:4/460.

([3]) ن ترتيب المدارك وتقريب المسالك للحافظ أبي الفضل القاضي عياض بن موسى اليحصبي: 6/216 وما بعدها.

([4]) كتاب الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي لمحمد بن الحسن الحجوي الفاسي:2/116.

([5]) ترتيب المدارك: 6/216، والسبائي هو أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد العالم العابد الزاهد (ترجمته في ترتيب المدارك:6/54) وقد تحرف اسمه في الفكر السامي:2/116 من «السبائي» إلى «النسائي».

([6]) كتاب الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي لمحمد بن الحسن الحجوي الفاسي:2/116.

([7]) الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي لمحمد بن الحسن الحجوي:2/133.

([8]) شجرة النور الزكية في طبقات المالكية لمحمد بن محمد بن سالم مخلوف: 1/144.

([9]) ن مصادر الفقه المالكي أصولا وفروعا في المشرق والمغرب قديما وحديثا للشيخ أبي عاصم بشير ضيف: 25،

([10]) ن إيقاظ الهم في شرح الحكم لابن عجيبة:15، و كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لحاجي خليفة:1/675.

([11]) الفكر السامي:2/78.

([12]) شجرة النور الزكية:1/144.

د. عبد الهادي السلي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق