وحدة الإحياءتراث

ذخائر من زمن الريادة العلمية

تمثل سيرُ علماء الإسلام مادة جديرة بالنظر والتدبر، ومساحة واسعة للقراءة والتأمل بما تتيحه من إمكانية الوقوف على كثير من المواقف والتجارب والوقائع التي واكبت مسارهم العلمي والشخصي، وكذا طبيعة علاقتهم بمحيطهم.

وقد تميزت بعض الشخصيات العلمية المسلمة بمستويات عجيبة من الذكاء والنبوغ،  كما هو الحال بالنسبة لثلاثة علماء تخطى إشعاعهم العلمي الدائرة الإسلامية، وأجمع المسلمون وغيرهم على تفوقهم ونبوغهم، وأقر الجميع بمقدرتهم العلمية العالية في علوم كثيرة بل صارت دروسُ أحدهم مرجعا لأهل الملل الأخرى في فهم ودراسة الكتب المقدسة.

هذه الصورة نادرة نجدها مثبتة في نصوص لم تنل حظها الكافي من الاهتمام حتى طواها النسيان فاحتاجت إلى بعث جديد.

علماء من نوع آخر

أول المشار إليهم هو: عبد الله بن سهل الغرناطي الضرير المقرئ، ت571ﻫ، يكنى أبا محمد،  ويُنبز بوجه نافخ[1].

ذكر ابن الخطيب ترجمته في الإحاطة نقلا عن كتاب ابن حمامة، قال: عني بعلم القرآن والنحو والحديث، عناية تامة، وبهذا كنت أسمع الثناء عليه من الأشياخ، في حال طفولتي بغرناطة.

ثم شُهر بعد ذلك بعلم المنطق، والعلوم الرياضية، وسائر العلوم القديمة، وعظم بسببها، وامتد صيته من أجلها.

وأجمع المسلمون واليهود والنصارى، أن ليس في زمانه مثله، ولا في كثير ممن تقدمه، وبين هذه الملل الثلاثة من التحاسد ما عرف.

 وكانت النصارى تقصده من طليطلة، تتعلم منه أيام كان ببياسة، وله مع قسيسهم مجالس في التناظر، حاز فيها قصب السبق. قال، ثم خرج عن بياسة، وسار إلى نظر ابن همشك عند خروج النصارى عن بياسة. وله تآليف[2].”

أما الثاني فهو موسى بن يونس بن محمد بن منعة بن مالك، العلامة كمال الدين، أبو الفتح ابن الشيخ رضي الدين الموصلي. ت 639ﻫ[3]. أحد المتبحرين في العلوم الشرعية والعقلية. قيل: إنه كان يتقن أربعة عشر علماً. تفقه في النظامية على معيدها السديد السَلَماسي، وأخذ العربية عن يحيى بن سعدون، وكمال الدين الأنباري، وتميز وبرع في العلوم، ورجع إلى الموصل وأقبل على الدرس والاشتغال حتى اشتهر اسمه وبعد صيته، ورحل إليه الطلبة وتزاحموا عليه.

قال ابن خلكان: كان يقرأ عليه الحنفيون كتبهم وكان يحل “الجامع الكبير” حلا حسنا.

 قال: وكان يقرأ عليه أهل الكتاب التوراة والإنجيل فيقرون أنهم لم يسمعوا بمثل تفسيره لهما[4].

 قال: وكان إذا خاض معه ذو فن توهم أنه لا يحسن غير ذلك الفن.

وبالغ في ترجمته والثناء على تحصيله وجودة فهمه واتساع علمه، وحُكي عن بعضهم أنه كان يفضله على الغزالي في تفننه.

قال: وكان شيخنا تقي الدين ابن الصلاح يبالغ في الثناء عليه وتعظيمه، فقيل له يوماً: كن شيخه؟ فقال: هذا الرجل خلقه الله عالماً، لا يقال: على من اشتغل؟ فإنه أكبر من هذا. إلى أن قال ابن خلكان: وكان سامحه الله يتهم في دينه لكون العلوم العقلية غالبة عليه.

توفي في الموصل في شعبان سنة تسع بتقديم التاء وثلاثين وستمائة، ومولده في صفر سنة إحدى وخمسين وخمسمائة. وله: كتاب تفسير القرآن، ومفردات ألفاظ القانون، وكتاب في الأصول، وكتاب عيون المنطق وغير ذلك.

وطول ابن خلكان ترجمته، ثم قال: ومن وقف على هذه الترجمة فلا ينسبني إلى المغالاة فمن كان فاضلاً وعرف ما كان عليه الشيخ، عرف أني ما أعرته وصفاً ونعوذ بالله من الغلو.

وثالثهم هو: محمد بن أحمد الرقوطي المرسي من أهل القرن الثامن الهجري، يكنى أبا بكر[5]. كان طرفاً في المعرفة بالفنون القديمة: المنطق والهندسة والعدد والموسيقى، والطب، فيلسوفاً، طبيباً ماهراً، آية الله في المعرفة بالألسن. يقرئ الأمم بألسنتهم، فنونهم التي يرغبون في تعلمها. عرف زعيم الروم حقه، لما تغلب على مرسية، فبنى له مدرسة يقرئ فيها المسلمين والنصارى واليهود، ولم يزل معظَّماً عنده. ومما يحكى من ملحه معه، أنه قال له يوماً، وقد أدنى منزلته، وأشاد بفضله: “لو تنصرت وحصلت الكمال، كان عندي لك كذا وكذا، وكنت كذا”، فأجابه بما أقنعه، ولما خرج من عنده، قال لأصحابه: “أنا الآن أعبد واحداً، وقد عجزت عما يجب له، فكيف بحالي لو كنت أعبد ثلاثة كما أراد مني”. وطلبه سلطان المسلمين، ثاني الملوك من بني نصر، واستقدمه، وتلمذ له، وأسكنه في أعدل البقع من حضرته. وكان الطلبة يغشون منزله المعروف له، وهو بيدى الآن، فتعلم عليه الطب والتعاليم وغيرها، إذ كان لا يجارى في ذلك، وكان قوى العارضة، مضطلعاً بالجدل، وكان السلطان يجمع بينه وبين منتابي حضرته، ممن يقدم منتحلا صناعة أو علماً، فيظهر عليهم، لتمكنه ودالته. وكان يركب إلى باب السلطان، عظيم التودة، معار البغلة، رايق البزة، رفيق المشي، إلى أن توفي بها. سمح الله له.

قراءات وتأملات

تستدعي إعادة الاعتبار لمثل هذه النصوص عدم الاقتصار على مجرد سردها، بل قراءتها بعمق؛ قراءة تلتمس المعاني الخفية والدلالات الكامنة في ثناياها، وتتوخى التقاط ما ترسله من إشارات سيما تلك التي تتجاوز حدود الزمن فتعبر بثوبها القديم عن كثير مما يجري في واقعنا اليوم.

والمتأمل للتراجم التي بين أيدينا يلحظ ما تمتاز به من الثراء، وما تختزنه من العبر والدروس التي يمكن أن نجملها في العناوين الآتية:

1. حوار الحضارات ورسالة للدعاة

فلا شك أن النماذج المعروضة تعكس طرازا فريدا من العلماء نجح بكل تأكيد في تقديم صورة مشرقة لشخصية العالم المسلم، لعل من أبرز ملامحها التمتع بسعة الاطلاع، والتحصن بالثقافة الشرعية، والتمسك بالهوية، ورفض التفريط فيها، مع الانفتاح على ثقافة الآخر، والقدرة على منافسته في مجالات تخصصه.

وبقدر ما سلطت الضوء، هذه التراجم الحافلة، على مظهر من مظاهر الريادة العلمية للمسلمين في قرون خلت، وكشفت ما أسدته الحضارة الإسلامية من أياد ناصعة للحضارة الإنسانية، فإنها في ذات الوقت أنبأت بالدور الذي يمكن أن تقوم به المنتديات العلمية والساحات المعرفية كجسور للتواصل بين الثقافات، وميادين لتبادل العطاء العابر للحدود، مما يجعل منها فضاءات مثالية للتعريف بعالمية الإسلام، وعموم رسالته، الداعية إلى التعارف بين الأمم والشعوب بنص كتابها المنزل.

وهو الأمر الذي يقتضي وجود دعاة وعلماء مؤهلين شرعيا ومعرفيا، يمتلكون من الأوصاف ما امتلكه سلفهم المذكورين، وذلك لتمثيل الأمة والنيابة عنها في أي مشروع حقيقي لما يصطلح عليه بحوار الحضارات.

2. استقطاب الكفاءات صورة قديمة جديدة

ظهر ذلك جليا في ترجمة أبي بكر الرقوطي من خلال إدراك زعيم الروم لمنزلته، واحتضانه لنشاطه العلمي، فعمل على تأسيس مدرسة لهذا الغرض، وهي صورة قديمة يعاد إنتاجها اليوم، وتعبر عن حرص الآخر على الإفادة من القدرات العلمية للأمم الأخرى، واستقطابها بالوسائل اللازمة.

 وإذا كانت الأمة الإسلامية تتطلع اليوم لاستعادة ريادتها الحضارية الضائعة، وتسعى للخروج من الوصاية التي يفرضها الآخر على امتلاك أسباب التفوق العلمي فهي مطالبة بتهيئة البيئة الملائمة للتحصيل المعرفي لأبنائها، ومدعوة في السياق ذاته إلى إيجاد الصيغ الكفيلة باستيعاب كفاءاتها العلمية المهاجرة، وإزالة الأسباب المفضية إلى إهدارها، وحرمان الأمة من الانتفاع بعلمها وخبراتها.

3. علماء الأمة وامتلاك لغة التواصل

والإشارة هنا إلى ما ورد في ترجمة أبي بكر الرقوطي المرسي يفيد معرفته الواسعة بالألسن، حتى أنه كان يقرئ الأمم بألسنتهم، فيه ما لا يخفى من الدلالة على وجوب عناية نخبنا العلمية باللغات؛ إذ هي وسيلة التواصل مع الآخر، وأداة الانخراط في العالم، وسبيل نشر رسالة الإسلام وتبليغها لغير الناطقين بلغة القرآن، بل حتى مخاطبة فئات واسعة من المسلمين غير العرب.

ومن المناسب في هذا المقام التذكير بما سجله أحد علماء الإسلام في هذا المضمار من السبق والبراعة والتفوق، ويتعلق الأمر بأبي بكر ابن الدهان النحوي، الضرير المعروف بالوجيه ت612ﻫ.

فكما قال عنه الذهبي في سيره حفظ القرآن، وتلا بالروايات على جماعة، وقدم بغداد شاباً، فسمع من أبي زرعة المقدسي، ويحيى بن ثابت، وأحمد بن المبارك المرقعاتي، وأبي محمد ابن الخشاب، ولزمه في العربية.

قال ابن النجار: قرأ الأدب على أبي سعيد نصر بن محمد المؤدب، وقدم بغداد مع والده، فسكنها، وقرأ الأدب على ابن الخشاب، وقرأ جملة من كتب النحو واللغة والشعر على أبي البركات الأنباري من حفظه، وذكر لي أنه قرأ نصف كتاب سيبويه من حفظه عليه أيضاً، وأنه كان يحفظ في كل يوم كراساً في النحو ويفهمه ويطارح فيه، حتى برع، وكان يتردد إلى منازل الصدور لإقراء الأدب، وكان شديد الذكاء، ثاقب الفهم، كثير المحفوظ، مضطلعاً بعلوم كثيرة: النحو، واللغة، والتصريف، والعروض، ومعاني الشعر، والتفسير، ويعرف الفقه والطب وعلم النجوم وعلوم الأوائل… إلى أن قال: وله النظم والنثر، وينشيء الخطب والرسائل بلا كلفة ولا روية، ويتكلم بالتركية والفارسية والرومية والأرمنية والحبشية والهندية والزنجية بكلام فصيح عند أهل ذلك اللسان[6]. فكان إذا قرأ عليه عجمي واستغلق عليه المعنى بالعربية فهمه إياه بالعجمية على لسانه.

4. المسلمون والآخر ونظرة الإنصاف المفقودة

لعل في اعتراف اليهود والنصارى وإقرارهم بتفوق علماء الإسلام إشارة إلى أن هذه الطوائف لا تخلو من فئة تتمتع بقدر من الإنصاف والموضوعية في الحكم على مخالفها، وهو دليل على وجود من ينقاد فيهم لصوت العقل والحكمة، ولا يجد في نفسه غضاضة في تقبل المنتوج العلمي للمفكرين والعلماء المسلمين والإفادة منه.

وقريب مما ذُكر ما جاء في إنباه الرواة على أنباه النحاة للقفطي[7] في ترجمة أبي الوليد عبد الملك بن قطن النهري القيرواني النحوي شيخ أهل اللغة العربية هناك، الشاعر الأديب الخطيب اللبيب، المتوفي سنة 256ﻫ: رحمه الله تعالى، وكان على عادة العلماء من الأقتار وضيق اليد:

قال أبوعبد الله الداروني: مشيت يوما مع أبي الوليد المهري إلى أن مررنا بالجزارين، فقام إليه رجل منهم، فقال: يا أبا الوليد أضررت بي؛ لأن بضاعتي كلها عندك، ولابد من قبض مالي قبلك، فاعتذر إليه وسأله الصبر فأبى، فمر بنا رجل فقال: كم على الشيخ؟ فقال عشرة دنانير، فقال: هي علي، مُر حتى أدفعها إليك، فمضى معه، فظننت أنه من إخوان المهري، وظن المهري أنه من أجلي فعل به ذلك. فلما صرنا إلى داره قال: الرجل الذي أدى عني الدنانير من هو؟ قلت: ما أعرفه، وما كنت أظن إلا أنك عارف به، قال فسل عنه فسألت، فإذا هو رومي؛ (أي نصراني) من أهل العطارين. وكان الناس من تعظيم العلم والأدب على خلاف ماهم عليه اليوم.

هذه الفئة من غير المسلمين والتي تتبنى موقفا ايجابيا منصفا من الإسلام وأهله، يجدر بالأمة أن تلتفت إليهم، وتمنحهم حظا من الاهتمام يوازي اهتمامها بخصومها، وأن توثق الصلة بهم، وتستثمر العلاقة معهم في إزالة الأوهام العالقة بذهنية الآخر حول الإسلام، وتصحيح الصورة المرسومة عنه، خدمة للدعوة، وتحقيقا لمصلحة المسلمين وقضاياهم العادلة.

خاتمة

لقد أثبت العلماء الثلاثة جانبا مهما من المشاركة الإسلامية في تنمية الرصيد الحضاري الإنساني برمته، وهم بذلك يؤكدون حاجة الإنسانية على اختلاف مكوناتها ومشاربها إلى عطاء العالم المسلم في مختلف المجالات.

هذا العطاء يشكل صمام أمان للبشرية على اعتبار كونه محفوفا بالضوابط الشرعية والأخلاقية، ومُسيجاً بالوازع الإيماني الذي عمل نبي الإسلام، صلى الله عليه وسلم، على تنميته وتحصينه طيلة مسيرة دعوته، ففرض على كل مُنتِج إتقان منتوجه، وتوجيهه إلى ما ينفع الناس ولا يضر بهم. وأوصى بالتزام كل القيم الفاضلة من صدق في التعامل وتجنب للغش ووفاء بالعهود، وأرشد إلى كل المعاني الإيجابية التي تجعل من الإنسان فاعلا في بيئته ومجتمعه.

ولا يتوقع، بموجب هذه الضوابط، من العالم المسلم أن يصرف جهوده في إنتاج ما يهلك الحرث والنسل، أو يجري التجارب المحرمة على ذوات الآدميين، ولا أن يحتكر تصنيع الدواء، ويمنعه عن الأمم الفقيرة الموبوءة.

أما الداعية المسلم، فدوره لا يقل أهمية في نشر قيم العدالة والتعايش، وتعزيز الالتفاف حولها، والدعوة إلى التعاون الإيجابي المشترك مع الأمم الأخرى في القضايا الإنسانية المصيرية كالدفاع عن الأخلاق المهددة بموجات الإباحية والشذوذ…

ويحسن التذييل بشهادة أوردها الحافظ الذهبي في تاريخه لرجل نصراني في حق الإمام أحمد بن حنبل وهي شهادة تستدعي منا شيئا من التأمل لأنها بقدر ما تعكس فضل الإمام أحمد، وعلو قدره، فهي تبرز نظرة الآخر المخالف لموقع العالم المسلم في المنظومة الإنسانية. فقد ذكر الحافظ الذهبي في ترجمة الإمام أحمد بن حنبل قال: قال المروذي: أدخلت نصرانيا على أبي عبد الله يعالجه فقال: “يا أبا عبد الله إني لأشتهي أن أراك منذ ستين سنة. ما بقاؤك صلاح الإسلام وحدهم، بل للخلق جميعا، وليس من أصحابنا أحد إلا وقد رضي بك[8].”

 الهوامش


1. ترجمته في الإحاطة لابن الخطيب ج ص44، والإحاطة نصوص جديدة لم تنشر لعبد السلام شقور ص74.

2. ذكر وفاته ابن الأبار في المعجم في أصحاب أبي علي الصدفي ص232. المكتبة الأندلسية المجلد 16 تحقيق إبراهيم الأبياري دار الكتاب المصري، ودار الكتاب اللبناني الطبعة الأولى 1989.

3. ترجمته في طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة، ج2، ص94-95، وفيات الأعيان لابن خلكان، ج5، ص311-312.

4. لست هنا في وارد مناقشة مشروعية هذا العمل في ذاته فهذا الأمر متروك للفقهاء إنما القصد إبراز مدى التفوق الذي بلغه الرجل.

5. ترجمته في الإحاطة لابن الخطيب، ج3، ص67-68. والدرر الكامنة لابن حجر، ج5، ص109.

6. سير أعلام النبلاء  للذهبي، ج22، ص86.

7. ج2، ص211، نقلا عن كتاب صفحات من صبر العلماء لعبد الفتاح أبوغدة، ص184-185.

8. راجع تاريخ الإسلام للذهبي ج18 حوادث ووفيات (241ﻫ-250ﻫ).

د. يونس بوعلام

ذخائر من زمن الريادة العلمية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق