مركز الدراسات القرآنية

د. أحمد عبادي: يكشف محددات وضوابط منهجية التصديق والهيمنة في القرآن الكريم

عقدت شعبة اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب والعلوم الإنسانية عين الشق، جامعة الحسن الثاني الدار البضاء، بتعاون مع الجمعية المغربية الدراسات الشرقية ندوة علمية في موضوع:  “القصص في الكتب السماوية” وذلك تكريما للأستاذ الدكتور أحمد شحلان، يومي الأربعاء والخميس 24و25 جمادى الثانية 1433هـ الموافق 16 لـ و17 ماي 2012م.

 عرفت مشاركة ثلة من الباحثين والأكاديميين المتخصصين في مجال الدراسات الدينية والحضارية المقارنة، بالإضافة إلى أساتذة اللغويات خصوصا اللغات الشرقية.

وقد عرف هذا اللقاء العلمي مشاركة فضيلة الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء الأستاذ الدكتور أحمد عبادي الذي بمحاضرة علمية تأطيرية تحت عنوان “منهجية التصديق والهيمنة في القرآن الكريم رؤية في المحددات والضوابط”.

وفي مستهل محاضرته قدم الدكتور أحمد عبادي تقسيما بديعا لأنواع المحافل الحوارية التي تؤطر وتوجه مختلف القضايا الفكرية والمعرفية ذات الارتباط الوثيق مع علم الأديان المقارن، التي تعد بمثابة الموجه لما يتداول حول علاقة الإسلام والغرب. وقد حددها في خمسة أقسام:

1- المحفل التوظيفي

في هذا النوع يتم توظيف الحوار من أجل الإبقاء على أمور معينة، أو من أجل الوصول إلى أغراض محددة.. إذ يتم البحث في دائرة “الآخر” عمن سوف يتكلم بما في أذهان المنظمين وعما يشتهون، وليس عمن يحمل أفكارا وقناعات “أخرى”

وهذا المنحى التوظيفي تندرج ضمنه جلُّ الدراسات التي تم القيام بها خدمةً للمنظور الاستعماري، أو خدمةً لأغراض ومنافع تجارية واقتصادية صرفة. وهو ما قامت به الدول عبر التاريخ مرورا بالفراعنة ووصولا إلى يومنا هذا؛ حيث تدرس المعتقدات والقناعات ضمن هذه المقاربة التوظيفية بغرض التسلل إلى المعمار الذهني للآخر بغية تأطيره والتحكم فيه.. ومن هنا فإن المحافل التي تنحو هذا المنحى توظيفية بامتياز.

2- المحفل الدعوي التبشيري

وهو منحى لا تكاد تبرأ منه ملة من الملل؛ ويمكن أن نجده في المسيحية كما يمكن أن نجده في الإسلام، أو في الهندوسية أو البوذية أو في كل الديانات ذات النـزوع التبشيري، ومن ثم فإن الحوار في هذه المحافل لا يكون تعارفيا استكشافيا بقدر ما يكون مستهدِفا ضم الآخر بل أحيانا هضمه.

3- المحفل الأكاديمي

حيث يُعنَى فيه الباحث بمعرفة الأمور والوقائع والمعطيات كما هي، يكشف عنها ويتركها بحياد متاحة للتوظيف من طرف أي من المحافل الأخرى. وهو محفل له إيجابياته ويحتل المنـزلة بين المنـزلتين: التوظيفية والتعارفية.

4- المحفل التوليفي المستهدِف لتحقيق التعايش

هذا النمط الرابع من المحافل الحوارية يسعى إلى البحث عن نقاط الالتقاء والقواعد المشتركة مع “الآخر” من أجل وضع حد للصراعات العدمية؛ فهو بهذا يمارس التوظيف، لكن بطريقة إيجابية تروم حقن الدماء، وصيانة الأرواح، واستبقاء المصالح وعيا بضرورة الإبقاء على التوازنات بشكل أو بآخر دون الغوص في معرفة الآخر ومحاولةِ فهمه فهما عميقا صادقا وصحيحا وإفادته والاستفادة مما عنده.

5- المحفل المعرفي التعارفي

وهو أكثر هذه المحافل ندرة، إنها المحافل التي تريد أن تستفيد من الحكمة أينما كانت؛ إذ الحكمة ضالة الباحث المحاور فأينما وجدها فهو أحق الناس بها. وهذا المحفل هو الذي يعتمد التعارف بين الأديان والثقافات والحضارات والشعوب. وفيه يندرج حديث المحاضر عن منهجية التصديق والهيمنة في القرآن الكريم التي خير مثال على المنهج النقدي في الكتاب الكريم.

ونظرا لمنهجية ولأبعاده أطر الدكتور عبادي حديثة عن هذه المنهجية النقدية بأمور منها:

الأمر الأول: أن الله سبحانه قد منّ على عباده بأن أقر بين ظهرانيهم القرآن ترتيلاً﴿كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا﴾ (الفرقان:32)، وباتساق وحدته البنائية يحقق هذا الكتاب الكريم للبشرية وحدة معرفية تلملم شتات الإنسان المعرفيَّ، وتوحد بين زوايا إدراكه، بما يشبه إكسابه جهاز تنسيق معرفي يُمَكِّنه من الخروج من التفرع الإدراكي ومرحلة الشركاء المتشاكسين، إلى صيرورته سلماً لله رب العالمين، فيطفق في السير سوياً على صراط مستقيم.

الأمر الثاني: إن هذا القرآن مصدره الله عز وجل الذي أحاط علمه بكل شيء، وهو الذي أشارت إليه الآيات القرآنية الآتية: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ (النمل: 76)، وقوله عز  وجل:﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جاءكم رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ﴾ (المائدة: 15)، 

الأمر الثالث: أن القرآن الكريم دقيق في لفظه، وكل كلمة فيه ينتظرها مكانها. بل إن الحرف الواحد لا يمكن أن ينـزع أو يستبدل بآخر. وهذا من إحكام هذا الكتاب العظيم المهيمن على سائر الكتب السابقة: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ (المائدة: 48). ومن هيمنة هذا الكتاب الكريم تصحيح الأخطاء الواردة في الكتب السابقة التي استحفظ عليها أصحابها فلم يحفظوها إلى أن تولى الله حفظ الكتاب الخاتم. وهو صريح قوله تعالى في سياق القصص القرآني ﴿ ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الذي فيه يمترون﴾ (مريم: 34 )

الأمر الرابع: أنّ الإنسان في حواره مع القرآن الكريم، وجَب أن ينتبه إلى أن العلوم التي يتحرك انطلاقا منها، تعد في جُلها علوما اجتهادية، اللهم إلاّ ما كان منها توقيفيا كأبواب الاعتقاد والفقه الثابت المستندة أحكامهما إلى نصوص قطعية الثبوت والدلالة. وما عدا ذلك فمن العلوم الاستنطاقية “ذلكم القرآن فاستنطقوه” كما قال علي رضي الله عنه وأرضاه.

وآية ذلك أنّ الله عز وجل يبين أنّ هذا القرآن جاء ميسرا: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾(القمر:17-22-32-40) أربع مرات، ثم في سورة مريم، ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا﴾(مريم:97)، وهو تيسير مرتبط بالتدبر، ومرتبط بالنظر المستأنف في الوحي من أجل إنتاج مجموعة من العلوم يمكن أن نصطلح على تسميتها “علوم التيسير”.

 بعد عرض الأمور سالفة الذكر التي تؤطر منهج التعامل مع محدد التصديق والهيمنة في القرآن الكريم، عرج الدكتور أحمد عبادي على تحديد وجهتين أساسيتين لآلية التصديق والهيمنة، وهما:

الوجهة الأولى إزاء الكتب السالفة؛ فهناك تصديق لما صحّ من هذه الكتب ثم هيمنة عليها في تكامل تامّ معها. فمع أن هناك آيات كثيرة في القرآن المجيد تتحدث عن التصديق.

والوجهة الثانية إزاء ما يمور ويعتلج في حياة الناس وارتفاقاتهم من ممارسات وما هو مستقر فيها من أعراف. والتصديق في هذه الوجهة عبارة عن إقرار الصالح من كل ذلك بالسكوت عنه أو الثناء عليه، وتغيير الطالح بالحديث عنه وكشف مساوئه.

وتتم الهيمنة في القرآن الكريم في اتجاهات متعددة، وهي اتجاهات كلها تجاوزية غير استاتيكية. وهي تجاوزية تتجلى من خلال التوسعة مع الاحتفاظ على كل القوة التي تستبطنها الحقائق الموسّعة، ويجري ذلك بطريقة متنامية.

بعد تقرير المحددات التأطيرية لمنهجية التصديق والهيمنة انتقل الدكتور أحمد عبادي إلى رصد منهجية عمل هذه الآلية من خلال قصة يوسف عليه السلام التي عدها رب العزة أحسن القصص ﴿نحن نقص عليك أحسن القصص﴾ (يوسف:3). عبر المقارنة العلمية بين ما ورد في القرآن الكريم، وبين المادة القصصية كما وردت في كتب أهل الكتاب؛ سواء منها ما يُتَعبَّد به كالتوراة، أو ما ورد في النصوص القديمة المخفية.

وفي ختام محاضرته سطر الدكتور أحمد عبادي خمسة ضوابط توجه إعمالنا الأوفق لمنهجية التصديق والهيمنة واستكشافٍ أدقَّ لمعالمها. مقدما لها نموذجين تطبيقيين: الأول في المجال التشريعي وقد مثل له بحكم الطلاق قراءة مقارنة بين تشريعات العهد القديم، وتشريع القرآن الكريم.

 والنموذج الثاني في المجال العقدي وقد مثل له بمفهوم “الرب” حيث نجد القرآن الكريم قد نزل على العرب وهم يستعملون كلمة “الرب” إزّاء هبل واللات والعُزّى، وقد عدّ العادّون حوالي ستين وثلاثمائة صنما حول الكعبة. فإننا نجد أنّ مفهوم الربوبية يَبرز في القرآن المجيد، ونلحظ كيف أن القضية اتسعت إلى أن وصلت إلى مفهوم سام هو “ربّ العالمين”.

فبعد هذه الأمور التي وسعها المحاضر شرحا وتفصيلا وتأصيلا والتي تؤطر منهج التعامل مع محدد التصديق والهيمنة في القرآن الكريم عرج على تحديد وجهاتهما وضوابطهما المنهجية، والتي من خلالها قدم الأمين العام مفاتيح لقراءة القصص القرآني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق