وحدة الإحياءشذور

ديوان “مع الله” للشاعر عمر بهاء الدين الأميري.. بين رَوح الإشارة وريحان العبارة

يروون أن قوما جلسوا يتذاكرون المحبة في الكعبة، وكان الجنيد أصغرهم سنا فطلبوا إليه الكلام، فأطرق برأسه ودمعت عيناه ثم قال: “عبد ذاهل عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بقلبه، أحرقت قلبَه أنوارُ هُويته، وصفا شِرْبُهُ من كأس وُده، وانكشف له الجبار عن أستار غيبه، فإن تكلم فبالله، وإن نطق فعن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله، فهو بالله ولله ومع الله”. فبكى القوم وقالوا: ما على هذا مزيد، جَبَرَكَ الله يا تاج العارفين.”

هذا، ويكفي أن ينعت صاحب ديوان “مع الله[1]” بالشاعر، ليكون المرء قد أنصف واحدا من أهم شعراء القرن المنصرم. ذلك بأنه جاء من عالم أبي الطيب[2]، وأُشْرِبَ شعر ابن الفارض، ولكنه حافظ على خصوصيته ولم يغرق في عالم المثال، مقرا بالضعف البشري مما زاده تواضعا وجمالا وإباء.

ولعل الناقد لا يبالغ إذا سجل بأن الشاعر عمر بهاء الدين الأميري، رحمه الله تعالى، كان شِعْراً، حيث استطاع أن يلتقط بكل دقة وانسجام وجمال، شطرا هاما من حياته وروحه فيبسطَه أمام الناس. لينهال عليه مجموع من النعوت الصادقة[3]، ولو أنه، لتواضعه مرة أخرى، أخذته هيبة ورهبة من تلك الألقاب، وأحسب أن كل من جهر أو أسر إلى الشاعر بشيء منها معذور، ذلك بأنك حين تقرأ شعره لن تملك إلا أن تهتف حقا هكذا يكون الشعر.

 ولا يخفى أن النقاد انقسموا إلى فريقين اثنين في تقويم الشعر: فمن قائل إن الشعر الحق هو الحامل لهموم الأمة والمجتمع، ومن قائل إن الشعر شعر الروح، بعيدا عن كل هم من الهموم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. والأمر الذي أود أن أثبته هنا هو المنهاج الوسط الجامع بين محاسن الرأيين، وأحسن من يمثل هذه المدرسة شاعرنا عمر بهاء الدين الأميري، رحمة الله تعالى، عليه. ولو أن له ديوانين في جملة من المجموعات الشعرية[4]، قد يظهر للمتسرع أن كل واحد منهما يصب في نهر، وهما “مع الله” الذي قد يحسب على الجانب الصوفي، و”ألوان طيف” الذي قد يحسب على الجانب الملتزم بقضايا وهموم الأمة، في حين يتجلى للناقد البصير أن بينهما عوامل مشتركة لا تخطئها العين. والشيء الذي توفق وتفوق فيه الشاعر حقا هو المزج بين ذَيْنِكَ اللونين في القصيدة الواحدة؛ إذ عبر عن هموم الذات بطريقة موضوعية، كما عبر عن هموم الجماعة بطريقة فيها من الروح والذات والتهمم والحرقة ما فيها؛ ليس هذا أوان بسطها؛ لأن المراد وجود الإشارة الصوفية ورقة التعبير وكثافة المعنى في ثنايا الوجود الشعري للأميري. ولاشك أن لوضوح اللغة وإشارة الدلالة ورمزية الخطاب، أو إن شئنا قلنا الجمالية والوظيفية والرمزية، لحضورا أيما، ولئن كان شاعرنا قد اختار الوضوح سبيلا إلى تبليغ خطابه، فإن لبعض الغموض جماله أيضا، خاصة إذا كان منطويا على معاني ذوات بال. ولقد كتب رحمه الله تعالى قصائده وكَتَبَتْهُ قصائده، وتكفي نظرة في معجميه الملحقين بديوانيه “الطيف” و”المعية” لتُبرز كيف كان يخاف على بوحه من أن يذهب سدى، فضلا عن طموحه في تداول بعض المصطلحات والألفاظ والمفاهيم؛ لذلك تجده يَشكل ما يشكل من النصوص والمقاطع والأبيات مخافة الإبهام. وقد قدّر، رحمه الله تعالى، أن اللغة هي الأساس في نقل ما يعتلج في صدره، فجاء معجمه قويا ورشيقا في الآن نفسه، وفوق ذلك استطاع شعره، بشيء آخر، أن يلج إلى قلوب القراء من دون استئذان؛ لأنه فضلا عن نشدانه الوضوح المؤهل إلى توصيل رسالته، جاءت قصائده حبلى بما يمكن أن نصطلح عليه بما وراء البيان أو الوضوح. ومن ثم كانت له معاريجه وأسفاره الروحية التي مكنته مكابداتها من أن يبدع شعرا أنيقا في لغته، عميقا في معانيه، يستوعب تجربة بالغة الغور تجعل النص الشعري حيا ومتجددا ومؤثرا. ومن ألوان هذا الشعر ما يسمى بشعر الحب الإلهي، وهو لون رفيع يُظهر فيه الشاعر أشواقه الإلهية، ويعبر فيه عن سياحته الروحية، وعلاقته بجمال الكون وجلال المكون. وقد اشتُهر بهذا اللون على سبيل المثال ابن الفارض من الرجال، واقترن شعر رابعة العدوية من النساء بتجربة عشقها الإلهي، فجاء شعرا مشبوبا ورقيقا وعميقا. وقد تأثر شاعرنا بصيغة هذا النص الشعري بالنظر إلى التجربة الغيبية العميقةِ الأبعادِ التي أنتجته، وقد صرح، رحمة الله تعالى، عليه بذلك غيرَ ما مرة؛ إذ في ليلة من ليالي رمضان حزر أنها الليلة الموعودة فقرر قيامها، وأثناء ذلك طفق يقرأ بعد ما تزود من آي الذكر الحكيم، في ديوان عمر بن الفارض لتأخذه سِنَةٌ كتب بعد أن أفاق منها شعرا كأنما أملي عليه.

 ولئن اعترض ضيق اللغة وعجزها طريق شعراء الروح في وصف التجربة التي تعجز هاتيك اللغة بـمجازاتها وصورها وبلاغاتها عن الإفصاح عنها ووصفها، فإنهم تغلبوا على عدم تلبيتها[5] بالرمز والإشارة والإيحاء، فانتقلوا بها من الوصف إلى التعبير، واختاروا ذلك التعبير الموحي الرامز وفضلوه؛ لأنه عندهم أقرب من غيره في نقل تلك التجربة من المستوى الشعوري إلى المستوى التعبيري. وهكذا أصبح النص الشعري خصوصا في الإلهيات موحيا وليس واصفا يُؤْثر التلميح على الوصف؛ ويوجز في غير تفصيل[6]؛ ومن هنا كانت الخماسيات وأمثالها.

  كما أن للجانب الصوتي حضورا من خلال ألوان المخاطبات والمناجيات التي نطقت بها الذات الشاعرة التي تخاطب الغيب، من خلال مضمون توسلي تبدو فيه العلاقة قائمة بين الصوت الإنساني بضعفه وانكساره، والصوت الإلهي بقوته وعظمته ورحمانيته[7]. وانظر إلى الشعر والتصوف كيف اجتمعا عفو الخاطر في هذا البيت الصادق الرشيق الذي يقول فيه الأميري:

مَهْوَى قُلُوبِ ذَوِي الْقُلُوبِ وَطِبُّهَا               مَسْـرَى رِجَالِ اللَّهِ وَالشُّـعَرَاءِ[8].

وليس ذلك غريبا؛ إذ كما احتاج التصوف في بدايته إلى الشعر الذي نقل تجربة السلوك إلى تجربة التعبير الفني، احتاج الشعر المعاصر إلى التصوف قصد تأكيد العلاقة العضوية بين النص الشعري مكتملا في إنجازه، والذات الشاعرة الناطقة في ذلك الإنجاز بلغتها الخاصة، وبدرجات توترها الشعوري والوجداني والروحي[9].

ثم إن بلاغة القصيدة الروحية أكسبت الشعرية حيوية جعلت النص الشعري قادرا على أن ينسجم مع قراءة أصحاب الأحوال الذين يتلقونه، ليجدوا فيه ما لا تستطيع القراءة السطحية الوصول إليه[10].

ولاشك أن شاعرنا، رحمه الله تعالى، كان طويل الصحبة مع كتاب الله الكريم والسخي الذي أعطاه الشيء الكثير، كما كان متأملا بعمق في كتاب الله المنظور الذي أغنى شعره بمحاورات جمالية ومخاطبات صوفية عميقة، حتى صح فيه، ومن لف لفه كصنويه محمد إقبال وعمر أبي ريشة، ومن تأثر بهما كَسَمِيَّيْهِ عمر الخيام وعمر بن الفارض ومن معهما، قول شاعر المعرة:

مِنَ النَّاسِ مَنْ لَفْظُهُ لـؤْلُـؤٌ           يُبَادِرُهُ اللَّقْـطُ إِذْ يُلْفَـظُ

وَبَعْضُـهُمُو قَوْلُهُ كَالْحَصَـا           يُقَالُ فَيُلْـغَى وَلاَ يُحْـفَظُ

ولا غرو أن الأعمال التي تكتسب تجربتها من التصوف تكتسب ضمن تلك التجربة بنيتها الجمالية في اللغة والقاموس وفي التشكيل الشعري برمته[11].

ومن خلال معاشرة الشعر الصوفي العربي عموما؛ والفارسي خصوصا، يتعرف المرء على بعض أشكاله كالمثنوي/الدوبيت، وهي لفظة مكونة من “دو” بمعنى اثنين وبيت؛ ليكون معناها “بيتان”. كما تتألف الرباعية من أربعة أشطر: أولها وثانيها، ورابعها: مصرعة وثالثها: مطلق. وهي تذكرنا بشعر الخمريات عند عمر بن إبراهيم الخيام. حتى إذا أطلق الخيام الأسئلة الخالدة في شعره حيث أُرْتِجَ عليه ومَكُثَ في حيرته، فإن الأميري طرحها بدوره في خماسياته التي فاقت عدد قصائد ديوانه “مع الله” ليعتصم بحبل الله المتين، فيفيء إلى ظلال الإجابات الإيمانية فَيَقَرَّ قراره وتطمئن نفسه، ولو أنها، كنفس كل مؤمن، تطوف بين أحوال ومقامات من الضعف البشري إلى قوة اليقين المطمئن. وقد تدخل هذه الخماسيات في مضمار ما عبر عنه الشيخ محمد بن عبد الجبار النفري: “إذا اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة[12].” أو إن شئت قلت: “إذا ضاقت العبارة اتسعت الرؤيا”، خاصة عند من أسلس الله تعالى له من البيان وآتاه من الحكمة.

  أما إذا أحصينا تركيبة “مع الله” في القصيدة التي تحمل هذا الاسم نفسه، الذي تربع عليه عرش الديوان، فإنها تكررت في خمسة وخمسين بيتا سبعا وسبعين مرة، فضلا عن أسماء الله الحسنى وصفاته العلى المبثوثة هنا وهناك في العتبات والنصوص معا: مثل قصيدتي “رَبٌّ[13]” و”مَعِيَّةٌ[14]” وقول الشاعر أيضا:

إِلَهِي أَغِثْنِـي فَقَدْ غُمَّ دَرْبِـي          وَأُبْعِدَ قَصْـدِي وَأَنْتَ الْقَرِيبْ

وَأَنْتَ الرَّحِيمُ وَأَنْتَ الْعَظِيـمُ           وَأَنْتَ السَّـمِيعُ وَأَنْتَ الْمُجِيبْ[15].

ويضم ديوان “مع الله” خمسين خماسية ضمن خمس وستين قصيدة، وشذرة واحدة تألفت من بيتين، ثم إن الغالب على الخماسيات البحر المتقارب، وهو ما هو في هذا اللون المفعم بالجمال الروحي العذب، بما يسري في ذرات المتلقي، باعثا على الحزم والعزم ابتغاء مرضاة الله تعالى وإطالة الصحبة مع كتابه العزيز آناء الليل وأطراف النهار، وإن كان القدامى أَحَلُّوا هذا اللون البحرَ البسيط. وقد وظف الشاعر التدوير ليرفد القصيد بالنفس القَصصي، فلم يحرص دائما على وحدة البيت حتى تكتمل الحكاية، فيعتبر من يعتبر من سرد صراع الذات الشاعرة مع عدوها اللدود:

إِنْ كُنْتَ تُورِي النَّارَ فِي خِسَّةٍ          مَاكِرَةٍ بِالْمُغْـرِيَاتِ الْكِبَارْ

 تَجْـتَذِبُ الْغَـافِلَ لَـذَّاتُـهَا           إِلَى مَتَاهَاتِ الْخَنَا وَالصَّغَارْ

   فَإِنَّ نُـورَ اللَّهِ مِـلْءَ الْحَـشَا          يَدْعُو إِلَى اللَّهِ الْبِدَارَ الْبِدَارْ[16].

والشيء نفسه عن موضوع الحرية متمثلا بقصة الفراشة المتأبية على السجن، والرانية إلى الآفاق الرحبة:

فِي وَحْدَتِي حَتَّى الْفَرَاشَـةْ             خَـلَّفَتْ خَـدِّي وَطَارَتْ

وَرَمَـتْ بِهَـيْكَلِهَا عَلَـى              بِلَّـوْرِ نَـافِـذَتِي وَدَارَتْ

فَفَتَحْـتُهَـا حَـتَّى تَطِيـرَ             وَلَسْـتُ أَدْرِي أَيْنَ صَارَتْ[17].

أما الاسم العلم على الذات “الله جل جلاله” فهو الذي تَأْلَهُهُ القلوب بحبها، فتعبده وتخضع له بالمحبة اللائقة بجلاله، جزاء وفاقا للمحبة والمودة التي سبقت بها العناية الربانية لعباده الواصلين حين قدم سبحانه حبه لهم على حبهم إياه في قوله تبارك وتعالى: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ (المائدة: 56). من أجل ذلك خرجت كلمات الأميري من قلبه فبلغت القلوب مخترقة كل شَغاف ولِحاء، حتى قيل: الصوفي الكبير والشاعر الإلهي والنسر الهابط في ظلال المحاريب. هنالك انثالت التقريظات والشهادات على هذا العمل الشعري الشائق فقال في حقه، مثالا لا حصرا، مارتينو ماريو مورينو الإيطالي: “مع الله ملحمة إلهية[18].” ولعلني لا أَتَزَيَّدُ إذا استعرت عتبة الشاعر أمجد الطرابلسي، رحمه الله تعالى، من ديوانه الفذ “كان شاعرا” وكفى.

ولله در أبي إسحاق الأبيري الأندلسي؛ إذ قال:

يَـا أَيُّـهَا الْمُغْـتَرُّ بِاللَّهِ                       فِـرَّ مِـنَ اللَّهِ إِلَـى اللَّهِ

وَلُذْ بِهِ وَاسْـأَلْهُ مِنْ فَضْلِهِ              فَقَـدْ نَجَـا مَنْ لاَذَ بِاللَّهِ

وَقُمْ لَهُ وَاللَّيْلُ فِي جُـنْحِهِ              فَحَـبّـَذَا مَـنْ قَـامَ لِلَّهِ

   وَاتْلُ مِنَ الْوَحْـيِ وَلَوْ آيَةً          تُكْسَـى بِـهَا نُوراً مِنَ اللَّهِ[19].

هنالك صدح الأميري، رحمة الله تعالى، عليه:

وَيَـدْفَعُ أَعْـمَاقَ إِيـمَانِنَا              فِـرَاراً إِلَيْهِ وَنِعْـمَ الْمَفَـرّْ

فَـنُبْصِرُهُ جَـلَّ مِنْ خَـالِقٍ            بِآلاَئِـهِ الْبَارِعَـاتِ الْغُـرَرْ

وَنَحْـيَا بِـهِ ثُـمَّ نَفْـنَى بِهِ            فَنَحْيَا وَنَحْـيَا وَنَحْيَا الدَّهَرْ[20].

وإذا كان تأثير الأميري في ثلة من الأدباء والشعراء لا يحتاج إلى كلام، فإن من بين أهم أسباب ذلك تأثرَه المباشر والضمني بمجموع من الشعراء، أذكر على سبيل الخصوص منهم بعض المتصوفة والفلاسفة، مما أمد شعره بشيء من اللوعة فطار في سماء ابن الفارض، وصاقب مناهل رابعة العدوية، فضلا عن محاورته عمر الخيام، وامْتِيَاحِه من معين أبي الطيب حيث طاب الاغتباق والاصطباح.

 وبمناسبة الغرف من أنهار التصوف التي لا يَرْنَقُ صَفْوَ مَعِينِهَا كَدَرٌ، فإنهم يقولون عن الذي تشبع بالسلسبيل العذب الفرات، دون أن ينتظم في طريقة معينة: إنه أُوَيْسِيٌّ، نسبة إلى أُوَيْسٍ الْقَرْنِيِّ[21]، رحمه الله تعالى، وذاك ما يستشف من قول شاعرنا، رحمه الله تعالى، في نثره حين قال عن الصوفية: إنه يكبرها تقية نقية ولكنه ليس في مستواها، من باب تواضع أكابر الأدباء، مرة ثالثة، وما جادت به قريحته في بيت جميل أسرده حتى يتبين لنا أن استدعاء الشخصيات التراثيةِ في القصيدة مثلِ معاذ وأويس، رضي الله تعالى، عنهما على سبيل التعاطف الروحي، مكن الشاعر من نسج شعريته من وحي هذا الحضور التاريخي:

يَقِينِيَ بِاللَّهِ يَسْـمُو بِرُوحِي             كَأَنِّي مُعَـاذٌ أَوَ اَنِّي أُوَيْسْ[22].

ويقول الشاعر في القصيدة نفسها:

يُحَـرِّقُ قَلْبِيَ هَذَا الصِّرَاعُ             أَلَيْـسَ لِقَـلْبِي نَجَاةٌ أَلَيْسْ[23]؟

فيقبِس من أسلوب عمر بن الفارض في طبقتين من طبقات الكلام هذه أولاها، وثانيتها هي التي يقول فيها:

يَا مَعَانِي اللَّهِ فِي نَفْسِي وَرُوحِي وَضَمِيرِي     حَلِّقِي بِي وَارْتَقِـي فَوْقَ سَمَوَاتِ الْأَثِيرِ

أَشْرِقِي وَهَّاجَةً فِي غَـوْرِ قَلْبِي وَوُجُودِي               وَالْبَثِي وَضَّـاءَةً فِي لَيْلِ عُمْرِي وَأَنِيرِي

وَتَجَـلَّيْ لِجِبَالِ الْهَمِّ تَجْثُو فَوْقَ صَدْرِي         فَلَقَدْ أَرْهَـقَ صَدْرِي حَمْلُ هَمٍّ مُسْتَطِيرِ

فَإِذَا مَا جُـعِلْتُ دَكّـاً أَعِينِينِـي بِعَـزْمٍ                أَنَا لاَ أَرْغَبُ أَنْ أُصْـعَقَ فِي سَاحِ الْقَدِيرِ

غَايَةُ الْقَصْـدِ وَمَنْ أَقْصِـدُهُ رَبٌّ كَبِيـرٌ               جَـذْبَةٌ تُنْعِمُنِـي بِالْقُرْبِ مِنْ رَبٍّ كَبِيرِ[24].

وقبل أن أسرد المقطع الشاهد من قصيدة ابن الفارض والإشارة إلى استثمار قصة موسى عليه السلام من قبل شعراء كثر، أشير إلى أن توظيف الأميري يبقى فيه من الجدة وحسن التناول والإضافة ما فيه. يقول عمر بن الفارض:

آنََسْـتُ فِي الْحَيِّ نَاراً          لَـيْلاً فَبَشَّـرْتُ أَهْلِي

قُلْتُ امْكُثُـوا فَلَـعَلِّي          أَجِـدُ هُـدَايَ لَعَـلِّي

   دَنَـوْتُ مِنْهَا فَكَانَتْ         نَـارَ الْمُكَلـَّمِ قَـبْلِي (…)

حَتَّى إِذَا مَا تَدَاعَى الْـ         مِيقَاتُ فِي جَمْعِ شَمْلِي

 صَـارَتْ جِـبَالِيَ دَكّاً         مِـنْ هَـيْبَةِ الْمُتَجَـلِّي

 وَلاَحَ سِـرٌّ خَـفِـيٌّ          يَـدْرِيهِ مَـنْ كَانَ مِثْلِي

  فَالْمَـوْتُ فِيهِ حَيَاتِـي               وَفِـي حَيَاتِـيَ قَـتْلِـي

لنلحظ، إذاً، أن حضور بنية النار بمفهومها الصوفي المستمد من القرآن الكريم، وهي نار الهداية؛ أي نار موسى، عليه السلام، في جبل الطور، ولئن كانت العبارة القرآنية منسجمة مع العبارة الشعرية، فقد أرجأت الحديث عن هذا الموضوع إلى درس لاحق حيث تجليات أشكال حضور الآية في نسيج التعبير الشعري في ديوان “مع الله”، وقد اكتفيت هاهنا بالإشارة إلى حاجة المضمون الشعري إلى القصة القرآنية، أمثّل لها بتوظيف الشاعر بعد قصة موسى عليه السلام في زمرة من إخوته الشعراء، لقصة يوسف عليه السلام حيث يقول عن القَصص جملة:

مَعَ اللَّهِ فِي قَـصَـصِ الْأَوَّلِـيـنْ     وَفِـي قَـصَـصِ الْأَوَّلِيـنَ الْـعِبَـرْ[25].

وعن إفادته من قصة يوسف عليه السلام تخصيصا:

   وَكَـادَ يُـسْـتَـدْرَجُ فِي الْـبَـلاَءِ         لَـوْ لَـمْ يَـرَ الْبُـرْهَـانَ فِي السَّمَاءِ[26].

كما عثرت على تجليات إشارات الحروف مما عبر عنه القرآن الكريم: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾ (القمر: 50).. وبطريقة حروفية: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً اَن يَّقُولَ لَهُ كُنْ، فَيَكونُ﴾ (يس: 81). وعن الكاف والنون يقول شاعرنا موظفا هذين الحرفين الكائنِ بينهما ذلك الذي يشبه اللمح أو هو أقرب:

أَلاَ إِنَّ لِلْخَلاَّقِ فِي الْخَلْقِ حِكْمَةً         تَبَـارَكَ مِنْ رَبٍّ وَجَـلَّتْ مَـرَامِيهِ

تَعَـلَّقَ بَيْنَ الْكَـافِ وَالنُّونِ أَمْرُهُ              مُطَـاعاً وَإِنَّ الْكَافَ وَالنُّونَ فِي فِيهِ[27].

ومن تأملاته العميقة التي شَبَهَ فيها بعضَ الشعراء الفلاسفة مع الفارق في التصور يقول الأميري:

تَأَمَّـلْتُ أَمْـرَ اللَّهِ فِي خَـلْقِ آدَمٍ      مِنَ الطِّيـنِ ثُمَّ النَّفْـخِ مِنْ رُوحِهِ فِيهِ

وَكَيْفَ ارْتَضَى أَنْ يَدَّنِي قُدْسُ رُوحِهِ    إِلَى حَـمَإٍ يَـأْوِي إِلَيْـهِ وَيُحْـيِيِهِ[28].

وكان هنالك مجمع اللقاء بينه وبين عمر الخيام محاولة في البحث عن أجوبة للأسئلة الخالدة المطمئنة بالإيمان، فتلبسته حال من السكينة والأمن الروحي وعبّر عن ذلك بقوله:

وَطَافَ بِقَـلْبِي طَائِفٌ مِنْ سَـكِينَةٍ     َعِـزُّ عَلَى عَـقْلِي اكْتـنَاهُ مَعَانِيهِ

وَأَشْـرَقَ مِنْ حُسْنِ الْوُجُودِ لِنَاظِرِي    سَناً يَسْتَبِي الْأَذْوَاقَ هَيْهَاتَ أُحْصِيهِ

وَأَدْرَكْتُ فِي غَـيْرِ الْحَـوَاسِّ وَإِنَّمَا    بِحَـدْسِيَ مَـا لاَ أَسْـتَطِيعُ أُسَمِّيهِ[29].

ومثل هذه الحالة والتي سبقتها في قول ابن الفارض: “يدريه من كان مثلي” هي التي قال عنها القوم:

فَكَانَ مَا كَانَ مِمَّا لَسْـتُ أَذْكُـرُهُ       فَظُنَّ خَيْراً وَلاَ تَسْـأَلْ عَنِ الْخَـبَرِ

أما قوله عن إبليس اللعين:

قَدْ تَحَدَّى أَبِي الْكَبِيرَ قَدِيـماً    فَرَمَـاهُ مِنْ عَـالَمِ الْأَبْرَارِ[30]

فيذكرنا بيتَ أبي الطيب في شِعْبِ بَوَّان:

أَبُـوكُمْ آدَمٌ سَـنَّ الْمَعَاصِي            وَعَلَّمَكُمْ مُفَـارَقَةَ الْجِنَانِ[31]

 حتى إذا لم يكن عند أبينا آدم، عليه السلامّ، عزم بنص القرآن الكريم[32]، فلا يجمل بنا أن نقتدي به في المعاصي ونخالفه في التوبة.

  وإذا كانت علاقة رابعة العدوية بالليل معروفة تناقلها رواة سيرتها؛ إذ كانت، رحمها الله تعالى، كلما صلت العشاء قامت على سطح لها وشدت عليها درعها وخمارها ثم قالت: “إلهي نارت النجوم، ونامت العيون، وغلّقت الملوك أبوابها، وخلا كل حبيب بحبيبه، وهذا مقامي بين يديك.” ثم تقبل على صلاتها، فإذا كان وقت السحر، وطلع الفجر قالت: “إلهي هذا الليل قد أدبر، وهذا النهار قد أسفر، فليت شعري أقبلت مني ليلتي فأهنأ، أم رددتها علي فأعزى؟ فوعزتك هذا دأبي ما أحييتني وأعنتني، وعزتك لو طردتني عن بابك ما برحت عنه لما وقع في قلبي من محبتك[33]“، فإن الشاعر المحب العاشق يقول وهو يخاطب ربه، جل جلاله، أثناء مكابدة ناشئة الليل بين يديه وعلى عينه حيث السعي الحثيث إلى الله تعالى وطلب القرب:

يَا رَبِّ هَذَا اللَّيْلُ يَجْلُو شُهْبَهُ            مِثْلَ ثُغُورِ الْحُورِ فِي دِيَارِكَا

يُحَـاوِرُ الْوَلْهَـانُ فِيهِ حِبَّهُ             وَإِنَّنِي أُحْـيِيهِ فِي حِوَارِكَا[34]

واستمع  إليه وهو يرغب إلى ربه جل جلاله منددا بعشاق الدنيا وسفاسفها:

غَايَةُ عُـشَّاقِ الدُّنَى مَا زَانَهَا           وَغَـايَةُ الْمُؤْمِـنِ وَجْهُ رَبِّهِ[35]

فطوبى لمن جعل الرغائب كلها رغبة واحدة كما أوصى أحد السلف الأجلاء ابنه وهو يعظه، وهو الأمر الذي يستحضر قول الدرعي الناصري رحمه الله تعالى يدعو ربه المتعال:

وَاحْصُـرْ لَنَا أَغْـرَاضَنَا الْمُخْتَلِفَةْ              فِيـكَ وَعَـرِّفْنَا تَمَامَ الْمَعْـرِفَةْ

وَاجْـمَعْ لَنَا مَا بَيْنَ عِلْمٍ وَعَـمَلْ               وَاصْـرِفْ إِلَى دَارِ الْبَقَا مِنَّا الْأَمَلْ[36].

يقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: “مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمّاً وَاحِداً، هَمَّ آخِرَتِهِ، كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ دُنْيَاهُ، وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا، لَمْ يُبَالِ اللَّهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهَا هَلَكَ[37].”

  وحتى تتضح الوجهة نحو عالم الروح المصفى، فدونك فَأَحْصِ هذه المصطلحات الصوفية في مظانها حيث توزعت بالقسطاس المستقيم كمثل: الرؤية والبصيرة وعين القلب والتجلي والإشراق والوجد والفناء والبقاء والجذبة والجمال والجلال والبصيرة والبصر والنور والضياء والمجاهدة والسكينة وغيب الشهود وعين الشهود والسرى والعروج والسر والكشف وقوت القلوب والروح والريحان… واقرأ معي من الخماسيتين المتتاليتين “بَقَاء”ٌ وَ”التَّجَلِّي” باعتبارهما عتبتين دالتين على أن الألفاظ من قبيل الاصطلاح وليس كما اتفق:

رَأَيْتُـكَ فِي ضَحِكِي وَالْبُكَـا           نَهَاراً وَفِي اللَّيْلِ مُحْـلَوْلِـكَـا

رَأَيْتُـكَ مِثْلَ الَّـذِي تَبْتَغِـي           جِـهَـاراً وَلَكِـنْ بِـآلاَئِكَـا

رَأَيْتُكَ تُشْـرِقُ فِي خَـلْقِكَـا           فَيْبَـتَزُّ رُوحِـي سَنَا وَجْهِكَـا

رَأَيْتُكَ تَحْبُو خَـلاَيَا كِيَانِـي           عُـيُونـاً تَـرَاكَ وَتَعْـنُو لَكَـا

فَأَيْـقَـنْتُ أَنَّ الْفَنَـا بِالْأَنَـا            وَأَنَّ بَـقَـائِي فَـنَـائِي بِكَـا[38]

فقد تكررت الرؤية أربع مرات، وأسفر الإشراق الرباني، وأيقن الشاعر أن البقاء في الفناء. أما عن التجلي فيقول الشاعر:

التَّجَلِّي يَشِعُّ فِي الْكَوْنِ نُوراً            عَجَـباً مِنْ طَبِيعَـةِ الْأَنْوَارِ

الْكَمَالُ الْوَضَّاءُ فِي كُلِّ خَلْقٍ            عَبَرَاتُ الْأَبْرَارِ فِي الْأَسْحَارِ

وَمَضَاتٌ مِنْ فَيْضِ هَذَا التَّجَلِّي         لَـذَّةٌ لاَ تُشَـامُ بِالْأَبْـصَارِ[39]

وليس يستقبل هذه التجليات إلا من أكرمه الله تعالى وفتح عليه؛ إذ بالبصيرة تُرى وليس بمجرد البصر بل بما يعبر عنه بعين القلب:

كُلَّمَا أَمْعَنَ الدُّجَى وَتَحَـالَكْ            شِمْتُ فِي غَوْرِهِ الرَّهِيبِ جَلاَلَكْ

وَتَرَاءَتْ لِعَـيْنِ قَـلْبِي بَرَايَـا         مِنْ جَمَالٍ آنَسْتُ فِيهَا جَـمَالَكْ[40]

بما يكرم به الله عز وجل أولياءه المتقين فيجعل لهم فرقانا وفراسة مؤمنة لا تخطئ أبدا:

بَصَرٌ قَدْ فَـاقَ كُنْهَ الْبَصَرِ             إِذْ سَـمَا لِلَّهِ فِـي نَظْرَتِهِ

حَائِماً حَوْلَ شِعَابِ الْقَدَرِ                        يَتَصَـدَّى لِسَـنَا بَسْمَتِهِ

بُـؤَرُ النُّـورِ وَنُـورُ الْبُؤَرِ            مَنْجَـمُ الْإِشْرَاقِ فِي نَبْعَتِهِ

نَظَـرٌ يَنْفُـذُ عَبْرَ السُّـتُرِ             وَيَرَى الْحَـقَّ عَلَى فِطْرَتِهِ

مِنْ مَرَائِـيهِ الْتِمَـاعُ الظَّفَرِ            وَائْتَـلاَقُ النُّورِ مِنْ وَهْجَتِهِ[41]

أما عن الوجد فاستمع إلى قوله في هذين البيتين المتفرقين:

وَالْوَجْـدُ أَبْـهَـمَ وَاسْـتَبَدَّ            فَأَجَّ فِي الْأَنْفَاسِ وَجْـدِي[42]

وَالْقَـلْبُ فِي غَـلَقِ الْأَسَـى           وَالْوَجْـدِ أَقْلَقَهُ شَـبَابُـهْ[43]

كما أن عتبة “شهود” تعتبر مصطلحا صوفيا بامتياز: فالبيتان الأوليان يتحدثان عن عين الشهود:

كَيْفَ تَرْقَى بِطِينَتِي وَجُمُودِي           فِي سَـمَوَاتِ عَالَمٍ مِنْ خُلُودِ

أَتُـرَاهَا رُوحـاً مِنَ الْمَعْبُودِ           قَدْ جَلَّتْ ذَاتَهَا لِعَيْنِ شُهُودِي؟[44]

وهذا البيت يتحدث عن غيب الشهود:

أَشْـرَقَ الدَّيَّانُ فِي غَوْرِ كِيَانِي         خَلِّنِـي هَيْمَانَ فِي غَيْبِ شُهُودِي[45]

وفضلا عن الجناس الكامل بين الرُّوح والرَّوْح في قوله:

فِي تَنَاجِي الْقُلُوبِ بِالْحُبِّ رَوحٌ         فِيهِ لِلرُّوحِ وَالْحَـشَا خَيْرُ قُوتِ[46]

فإن لفظة القوت تحاور كتاب قوت القلوب للشيخ أبي طالب المكي، رحمه الله تعالى، بَلْهَ انسياب المصطلحات الْأُخَر كالمجاهدة والسر والسريرة:

يَا رَبِّ فِي حَـلَكِ الْهـمُومِ             وَفِـي مُجَاهَـدَةِ السَّـرِيرَةْ[47]

كما نجد تجاوز الظاهر الكوني واستبطانَ الغيب والإنصاتَ إلى كل إيقاع خفي تحجبه الأسرار البعيدة، ولنصخ أسماعنا للأميري متحدثا عن ماهية شعره:

هُوَ رُوحِي أَوْ بَعْضُ إِشْرَاقِ رُوحِي             هُوَ نَفْـسِي مَجْـهُولَةً مَعْلُومَةْ

هُوَ إِطْـلاَلَةٌ مِـنَ الْغَـيْبِ حَيْرَى             وَبُـرُوقُ الدُّجَى تَشُـقُّ غُيُومَهْ

    هُوَ سِـرُّ الْحَـيَاةِ لاَحَ لِحَـدْسِي               وَضَمِـيـرِي فَصُغْـتُهُ تَرْنِيمَةْ[48]

ويضيف معبرا عن اكتناه السر الجميل قائلا في ثلاثة أبيات متفرقة:

رَامَ عَقْلِي كَشْفَ أَسْرَارِ الْحِكَايَةْ         فَجَـرَى يَبْحَـثُ عَـنْ أَيَّـةِ آيَةْ[49]

تَأَمَّلْتُ فِـي كُنْـهِ هَذَا الْوُجُودِ          وَغُصْـتُ فِي كَشْـفِ أَسْـرَارِهِ[50]

فِي تَنَاجِي الْقُلُوبِ بِالْحُـبِّ سِرٌّ         يَتَسَـامَى بِـهَا إِلَـى الْمَـلَكُوتِ[51]

وقد قال أحد الشعراء بالصدد ذاته:

قُلْتُ لِلَّيْلِ هَلْ بِصَدْرِكَ سِرٌّ             يَا خَـفِيَّ الْأَخْـبَارِ وَالْأَسْرَارِ

قَالَ لَمْ أَلْقَ فِي حَيَاتِيَ سِرّاً              كَحَدِيثِ الْأَحْبَابِ فِي الْأَسْحَارِ

وابصُر بجمالية الصورة في هذا النشيد المرتعش الفياض عن الحجر الأسعد الذي قال عنه عمر ابن الخطاب، رضي الله تعالى، عنه قولته الشهيرة: “إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقبلك ما قبلتك.” وتأمل معي كيفية التناول البديع في الشعر الرفيع:

الْحَجَـرُ الْأَسْـوَدُ قَبَّلْـتُهُ                       بِشَـفَتَيْ قَـلْبِي وَكُلِّي وَلَـهْ

لاَ لاِعْتِـقَادِي أَنَّـهُ نَـافِعٌ                     بَـلْ لِهُـيَامِي بِـالَّذِي قَبـَّلَهْ

مُحَـمَّدُ أَطْـهَرُ أَنْـفَاسِـهِ                     كَانَتْ عَلَى صَفْـحَتِهِ مُرْسَلَـةْ

قَبَّلَـهُ وَالـنُّورُ مِـنْ ثَـغْرِهِ                   يُـشْرِقٌ آيَـاتِ هُـدىً مُنْزَلَةْ

قَـبَّـلْـتُ مَـا قَبَّـلَـهُ ثَـغْــرُه النَّـاطِـقُ بِـالْـوَحْيِ ابـْتِغَـاءَ الصِّلَـةْ[52]

أما عن العزلة التي احتاج إليها الأميري، رحمه الله تعالى، فمسوَّغة، ولا أقول مبرّرة، لحاجته إليها بضغط من الساسة الذين كابد ألاعيبهم ومثلَها معها، ليس هذا مجال بسط قصائد قصتها، فيقول الشاعر:

قَالُوا اعْتَزَلْتَ فَقُلْتُ صُنْتُ كَرَامَتِي             وَلَزِمْتُ فِي رَهَجِ الزِّحَامِ إِبَائِي

لاَءَمْتُ بَيْنَ تَصَـرُّفِي وَسَـجِيَّتِي                      وَحَـفِظْتُ حَـقَّ اللَّهِ وَالْعَلْيَاءِ

وَذَخَرْتُ نَفْـسِي لِلْعَظَائِمِ صَابِراً                       وَطَوَيْتُ عَنْ ذُلِّ الصَّغَارِ رِدَائِي[53]

ويضيف في موقع آخر عن الوحدة وفوائدها من خلال تجربته الشخصية في بيت مدور أيضا:

فِـي وَحْـدَتِي آمَنْـتُ أَنَّ                     النَّفْسَ بِالْحِـرْمَانِ تَصْفُو

فَطَـوَيْتُ أَحْـنَاءَ الضُّلُوعِ                     عَلَى جَوَايَ وَرُحْتُ أَغْفُو

وَالْحُـلْمُ يَرْقَى بِي مَعَـارِجَ                    كُـلُّهَـا ذَوْقٌ وَلُـطْفُ[54].

ولا ريب أن يدعوَ قولُه صفاء النفس بحرمانها بيتَ البوصيري، رحمه الله تعالى:

وَالنَّفْسُ كَالطِّفْلِ إِنْ تُهْمِلْهُ شَبَّ عَلَى            حُبِّ الـرَّضَاعِ وَإِنْ تَفْطِـمْهُ يَنْفَطِـمِ[55]

  وما أحسن ما قال الجنيد: “مكابدة العزلة أيسر من مداراة الخلطة”. وقال الخطابي: “لو لم يكن في العزلة إلا السلامة من الغيبة، ومن رؤية المنكر الذي لا يقدر على إزالته، لكان ذلك خيرا كثيرا[56].” وعقد ابن الجوزي في صيد الخاطر ثلاثة فصول عن العزلة، لخصها الأديب الأريب عائض القرني في كتابه الماتع “لا تحزن[57]“: “ما سمعت ولا رأيت كالعزلة، راحة وعزا وشرفا، وبعدا عن السوء وعن الشر، وصونا للجاه والوقت، وحفظا للعمر، وبعدا عن الحساد والثقلاء والشامتين، وتفكرا في الآخرة، واستعدادا للقاء الله، عز وجل، واغتناما في الطاعة وجولانِ الفكر فيما ينفع، وإخراجِ كنوز الحكم، والاستنباطِ من النصوص”. فالعزلة حجاب لوجه المحاسن، وصَدَف لدُرر الفضل، وأكمام لطلع المناقب، وما أحسن العزلة مع الكتاب، وفرة للعمر، وفسحة للأجل، وبحبوحة في الخلوة، وسفرا في طاعة، وسياحة في تأمل. وفي العزلة تحرص على المعاني، وتحوز اللطائف، وتتأمل في المقاصد، وتبني صرح الرأي، وتَشيد هيكل العقل. والروح في العزلة في جذل، والقلب في فرح أكبر، والخاطر في اصطياد الفوائد، ولا تُرائي في العزلة؛ لأنه لا يراك إلا الله سبحانه وتعالى، ولا تُسمع بكلامك بشرا، فلا يسمعك إلا السميع، ولا يراك إلا البصير. كل اللامعين والنافعين والعباقرة والجهابذة وأساطين الزمن ورواد التاريخ وشداة الفضائل وعيون الدهر وكواكب المحافل، كلهم سقوا غرس نبلهم من ماء العزلة حتى استوى على سوقه، فنبتت شجرة عظمتهم، فآتت أكلها كل حين بإذن ربها؛ وعلى رأسهم إمامهم سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام[58]. قال علي بن عبد العزيز الجرجاني:

يَقُـولُونَ لِـي فِيكَ انْقِـبَاضٌ وَإِنَّمَا            رَأَوْا رَجُلاً عَـنْ مَوْقِفِ الذُّلِّ أَحْجَمَا

إِذَا قِيلَ هَـذَا مَـوْرِدٌ قُلْتُ قَـدْ أَرَى           وَلَكِـنَّ نَفْـسَ الْحُـرِّ تَحْتَمِلُ الظَّمَا

وَلَمْ أَقْـضِ حَقَّ الْعِلْمِ إِنْ كُنْتُ كُلَّمَا            بَـدَا طَـمَعٌ صَـيَّرْتُهُ لِـيَ سُـلَّمَا

وفي ختام هذه الجولة لابد أن نرفع الصوت بأن شعر التصوف خدم القصيدة الشعرية، ونقل الشعر من مفهوم الصناعة إلى مفهوم التعبير عن التجربة، ولم يعد هذا الجنس الأدبي نظما يتبارى فيه الشعراء، ويصوغونه وَفْقَ ما تطلبه القواعد البلاغية والعروضية، ويقتفون أثر الأنموذج المبجل الذي شهدت له الثقافة البلاغية بالجودة، وجعلت منه مثالا يحاكيه من يريد أن يكون شاعرا، بل وجدنا هذا اللون من الشعر حيا ومستمرا لأنه مرتبط بالوجدان الإنساني، وبصفاء ذلك الوجدان وتساميه، وهو شعر عميق؛ لأنه متصل بتجربة عميقة مضيئة [59].

 ورحم الله تعالى الشيخ أبا الحسن الندْوي؛ إذ قال في كتابه الرائع روائع إقبال[60]: “لقد ضل من زعم أن العلماء يتفاضلون بقوة العلم وكثرة المعلومات وزيادة الذكاء، وأن الشعراء يتفاضلون بقوة الشاعرية وحسن اختيار اللفظ ودقة المعاني، وأن المؤلفين يتفاضلون بسعة الدراسة والمطالعة وكثرة التأليف والإنتاج، وأن المعلمين يتفاضلون بحسن الإلقاء والمحاضرة وحسن استحضار المادة الدراسية وكثرة المراجع، وأن المصلحين والزعماء يتفاضلون بالبراعة في الخطابة وأساليب السياسة والحكمة واللباقة، إنما يتفاضل الجميع بقوة الحب والإخلاص لغايتهم، إذا فاق أحدهم الآخر فإنما يفوقه؛ لأن الغاية والموضوع حل في قرارة نفسه، وسرى منه مسرى الروح، وملك عليه قلبه وفكره، وقهر شهواته، واضمحلت فيه شخصيته، فإذا تكلم تكلم على لسانه، وإذا كتب كتب بعلمه، وإذا فكر فكر بعقله، وإذا أحب أو أبغض فبقلبه”.

  وأختم بموازاة حسن المطلع ما أتوسم له حسن المقطع بقول شاعر الإنسانية المؤمنة، رحمه الله تعالى:

آفَاقُهَا مَأْمُـومَةٌ وَحُدُودُهَـا          مَعْدُومَـةٌ وَالْمَاءُ غَيْرُ الْمَاءِ

   رَوْحٌ وَرَيْحَـانٌ وَرَاحٌ لَـذَّةٌ         لاَ غَوْلَ فِيهَا مِنْ سَنىً وَسَنَاءِ[61].

الهوامش


[1]. عمر بهاء الدين الأميري، ديوان مع الله، بيروت: دار الفتح. ط2، (1391ﻫ/1971م).

[2]. قال العلامة عبد الله الطيب رحمة الله تعالى عليه: “أحب إلي أن يقال أبو الطيب، وما أريدَ بقولهم المتنبي أول الأمر إلا النبز والعيب، فصيره الاستعمال، وما كان لشعره من سيرورة وشهرة له كالحلية، وذكر ابن خلكان أن بعض المغاربة كانوا يقولون “المتنبه” كأنهم يشيرون بذلك إلى ما صار للقبه من دلالة على الفطنة وكشف ستار طبائع النفوس، مكان دلالته الأولى على دعوة النبوة.” انظر: عبد الله الطيب، الطبيعة عند المتنبي، نشر وطبع أبتما سكربتوم ماروك، الرباط، ط 2، 1999م، من المقدمة.

[3]. الشاعر المتأله والصوفي الكبير وشاعر الإنسانية المؤمنة، إلخ…

[4]. كأصداء الطفولة، وبواكير الشباب، وقصتي مع الشعر، وفي بلادي، وأنين وحنين، وصراع، ورباعيات وخماسيات، ومع القاضي الزبيري، ورجال، وأشباه، وعواطف، وعواصف، وجمال، وهوى، والموءودات، وأفانين، وعلمتني الحياة…

[5]. إشارة إلى قصيدة “البلاغة لا تلبي” من ديوان الأميري “ألوان طيف”. د. ط. أو ت.

[6]. محمد بنعمارة، الأثر الصوفي في الشعر العربي المعاصر، الدار البيضاء: شركة النشر والتوزيع المدارس، ط1، (1422ﻫ/2001م)، ص351، بتصرف.

[7]. محمد بنعمارة، الصوفية في الشعر، “م، س”، ص334.

[8]. عزلة الأحرار، ص174.

[9]. محمد بنعمارة، الصوفية في الشعر المغربي المعاصر “المفاهيم والتجليات”، شركة النشر والتوزيع، المدارس، بالبيضاء، ط1، (1421ﻫ/2000م)، ص9.

[10]. محمد بنعمارة،  الأثر الصوفي، م، س، ص 352، بتصرف.

[11]. محمد بنعمارة، الأثر الصوفي، م، س، ص 15، بتصرف.

[12]. محمد بن عبد الجبار النفري، المواقف والمخاطبات، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1985م، تحقيق آرثر اربري، تقديم وتعليق: عبد القادر محمود.

[13]. ديوان مع الله، ص109.

[14]. المرجع نفسه، ص114.

[15]. استغاثة، ص123.

[16]. في العشر الأواخر، ص128.

[17]. في وحدتي، ص166.

[18]. انظر التقريظات، ختام ديوان: “مع الله”.

[19]. انظر الاستهلال الجميل للشاعر الجميل حكمت صالح في ديوانه الجميل الفرار إلى الله. أهداني نسخة مخطوطة بخط يده الجميل.

[20]. مع الله، م، س، ص49.

[21]. جاء في طبقات ابن سعد: أويس بن عامر بن جزء بن مالك بن عمرو بن سعد بن عصوان بن قرن بن ردمان بن ناجية بن مراد، وهو يحابر بن مالك بن أدد من مذحج، وهو الذي أثنى عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كما في حديث مسلم، عن عمر، رضي الله عنه، قال: إني سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: “إن خير التابعين رجل يقال له أويس وله والدة وكان به بياض فمروه فليستغفر لكم”. وفي رواية لمسلم عن أسير بن عمرو قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر حتى أتى على أويس، رضي الله عنه، فقال له: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم. قال: من مراد ثم من قرن؟ قال: نعم. قال: فكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم. قال: لك والدة؟ قال: نعم.قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل، فاستغفر لي، فاستغفر له، فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة. قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غبراء الناس أحب إلي، فلما كان من العام المقبل حج رجل من أشرافهم فوافق عمر فسأله عن أويس، فقال: تركته رث البيت قليل المتاع. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد من أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل، فأتى أويسا فقال: استغفر لي. قال: أنت أحدث عهداً بسفر صالح فاستغفر لي قال لي: لقيت عمر؟ قال: نعم، فاستغفر له، ففطن له الناس فانطلق على وجهه. رواه مسلم. وقد ذكر الذهبي في السير أنه غزا أذربيجان، فمات بها.

[22]. صراع، ص67.

[23]. المرجع نفسه.

[24]. جذبة، ص 78.

[25]. ديوان مع الله، ص 49.

[26]. إغراء، ص 62.

[27]. مع الوجود، ص108.

[28]. المرجع نفسه، ص104.

[29]. المرجع نفسه، ص108.

[30]. ضراعة ثائر، ص70.

[31]. انظر: حكمت صالح، رنين النون والتنوين في شعب بوان، لأبي الطيب المتنبي، مخطوط، معد للنشر في سلسلة منشورات الدفاع الثقافي.

[32]. إشارة إلى قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى ءادَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً﴾ (طه: 112).

[33]. عبد المنعم الحفني، العابدة الخاشعة: رابعة العدوية، إمامة العاشقين والمحزونين، القاهرة: دار الرشاد، ط1، (1411ﻫ/1991م)، ص11.

[34]. راحة المؤمن، ص96.

[35]. غاية، ص95.

[36]. الدعاء الناصري، مخطوط.

[37]. رواه ابن ماجة.

[38]. بقاء، ص53.

[39]. التجلي، ص54.

[40]. صلاة، ص51.

[41]. مدى، ص140-171.

[42]. في وحدتي، 165.

[43]. نور، ص180.

[44]. سبحان ربي الأعلى، ص97.

[45]. شهود، ص52.

[46]. حب، ص59.

[47]. نور، م، س، ص181.

[48]. قصيدة شعري، ص24.

[49]. اللانهاية، ص86.

[50]. شعاع، ص57.

[51]. حب، م، س، ص59.

[52]. صلة، ص116.

[53]. عزلة الأحرار، ص172.

[54]. في وحدتي، ص168.

[55]. الإمام البوصيري، بردة المديح، دار الفرقان للنشر الحديث، 51–53، زنقة فردان، الدار البيضاء، ص5. وانظر ديوان البوصيري، نظم شرف الدين أبي عبد الله محمد بن سعيد البوصيري، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، ط 2، ( 1393ﻫ/ 1973م)، البيت من البردة “البرأة”.

[56]. رواه الحاكم مرفوعا بسند حسن.

[57]. عائض القرني، لا تحزن، مكتبة الصحابة، الإمارات، الشارقة، ومكتبة التابعين، القاهرة، عين شمس، ط3، (1423ﻫ/ 2002م)، ص92.

[58]. عائض القرني، لا تحزن، م، س، ص92، 93، بتصرف.

[59]. بنعمارة، الأثر، م، س، ص356، بتصرف.

[60]. السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي، روائع إقبال، الكويت: دار القلم للنشر والتوزيع، ط 4، (1418ﻫ/1998م)، ص41، 42.

[61]. عزلة الأحرار، ص174.

Science

د. سعيد ساجد الكرواني

شاعر وناقد مغربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق