مركز علم وعمران للدراسات والأبحاث وإحياء التراث الصحراويشذور

ديباجة البركة في تصانيف علماء الصحراء

 

نسعى من خلال هذه المقالة للحديث عن عادة تصديرية في تصانيف علماء الصحراء، ومحاولة دراسة أغراضها وتوابعها، ونقصد هنا عبارة: “مباركُ الابتداءِ ميمونُ الانتهاءِ” التي تحتل موقعا بارزا في عتبات المخطوط الصحراوي، وأحيانا في ختامه.

ترصد الدراسات النقدية والأدبية المنجزة حول التراث الإسلامي والعربي عموما جملة من السمات والعناصر التي تشكل ما يعرف بالتصدير أو التقديم أو فاتحة الكتاب؛ منها البسملة والحمدلة والتصلية، وغيرها كالتشهد والدعاء، قبل الشروع في مضمون الكتاب وغايته، ولا شك أن ذلك كان من أثر الاقتداء بكتاب الله تعالى، “فمن المعلوم أن المؤلفين كانوا يحرصون على الاقتداء في تصدير مصنفاتهم بالكتاب المنزل والخطب الدينية، فسموها فاتحة الكتاب نسبة إلى سورة الفاتحة، كما أطلقوا عليها كلمة الخطبة. ويبتدئ تأثير الخطاب الديني في تصدير المسلمين لكتبهم من خلال العناصر الأولى التي تستفتح بها، ومن أبرز مشمولاتها: البسملة والتصلية والحمدلة. فقبل بداية حركة التأليف عند العرب، ومنذ اللحظات الأولى لاتخاذهم الكتابة وسيلة للتواصل والتعاقد، دأب الكتاب على استفتاح كتبهم بالبسملة”([1]).

بيد أن الملاحظ في صدر المخطوط الصحراوي -إضافة إلى العناصر الآنفة الذكر- حضور عبارة “مبارك الابتداء ميمون الانتهاء”، التي تناقلها علماء الصحراء عن شيوخهم وحافظوا عليها، مما يدل على أن تواطؤ المؤلفين أو النساخ في هذا القطر عليها بحاجة إلى شيء من الاهتمام.

لا يمكننا الجزم في زمن ظهور هذه العبارة في التأليف الصحراوي، لكن، من خلال رصد بعض المؤلفات التراثية العربية، يبدوأن كتاب الإشارات الإلهية لأبي حيان التوحيدي (ت 414 ه) حسب بعض نسخ المعتمدة في التحقيق([2])، من أقدم المصنفات التي استفتحت بصيغة “ميمون الابتداء مبارك الانتهاء”.

أما في الصحراء، فالملاحظ أن العبارة من حيث انتشارها الجغرافي ترد في المخطوط الصحراوي المغربي في اتجاه دول جنوب الصحراء، خاصة مؤلفات الشناقطة، وكذا في تصانيف علماء توات من ولاية أدرار الجزائرية وغيرهم، مما يعزز كون هذا المجال الجغرافي الذي نشطت فيه الحركة العلمية عرف قواسم مشتركةأصيلة من حيث التأليف والنساخة وتنقل المكتبات العلمية، رسختها الروابط العلمية والمشيخات والمناولات.

ويتحدد موقع هذه العبارة في معمار المخطوط غالبا بعد البسملة والتصلية أو قبلهما، فتحتل بذلك مكانا بارزا في الصفحة الأولى ، وأحيانا أخرى يُلحقها النساخ بأول المقدمة المشتملة على الحمدلة والتصلية، كما هو في نسخة كتاب ألفية غريب القرآن لمحمد الزجلوي التواتي الجزائري (ت 1212)، الموجودة بمكتبة مولاي عبد الحميد الإدريسي، والتي نسخت سنة (1355ه) وفي أولها بعد البسملة والتصلية:”مبارك الابتداء ميمون الانتهاء”([3]).

ومن مدارس الصحراء التي اعتنت بتصدير تآليفها بهذه العبارة، المدرسة الكنتية، فنجد الشيخ المختار بن أحمد بن أبي بكر الكنتي الشهير (ت 1226ه)، في بعض تآليفه كمخطوط له ضمَّ مجموعة من نوازله، يقول: “مبارك الابتداء ميمون الانتهاء. هذا وإني وقفت على أجوبة لمحمد المختار بن أحمد أنبال، ونصُّها: الحمد لمستحقه والصلاة والسلام على أفضل خلقه…”([4])

ونجد ذلك أيضا في بعض تآليف ابنه العلامة الكبير محمد بن المختار الكنتي (ت1242ه)، ففي الطرائف والتلائد تصدير بهذه العبارة، وفي الفوائد النورانية([5]) جعل الناسخ العبارة في رأس الورقة بارزة قبل أن يشرع في الحمد بقوله: حمدا لمن أطلع أقمار نجوم الفهوم، وأسطع أقمار العلوم بفضاء القلوب المنيرة.

وفي طرة محنض بابه (ت 1277ه) على ألفية ابن مالك في النحو العبارةُ بخط بارز:

ومن العالمات الصحراويات اللائي اعتنين بهذا التصدير، الفقيهة فاطمة بنت سيدي محمد بن الحاج الباركية الملقبة توتو، حيث توجد نسخة من مخطوطة حول خصائص النبي صلى الله عليه وسلم بخطها، نسخت حوالي (1299ه) في الخزانة الباركية بمدينة الداخلة، ويلحظ القارئ في أوله عبارة: “مبارك الابتداء ميمون الانتهاء”.

كما نجد في نسخة من مخطوط منار الهداة على سبيل النجاة، للأمين ولد الحاج عبد الرحمن ولد الحاج الأمين التواتي الغلاوي” الملقب بــ” النقه” حيث وضع ناسخه العبارة في أوله:

ومن الأمثلة ما نجده في نظم الأجرومية الشهير المسمى تسهيل ابن آجروم، لمحمد عبيد ربه بن أبّ، ثم تبعه في هذا بعض شراحه كعيسى بن محمد المختار الراودي .

وقد تميزت مدرسة الشيخ ماء العينين (ت 1328ه) بالتفنن في صياغة هذه العبارة،حيث نظمها رحمه الله في بعض تآليفه كما في الأقدس على الأنفس([6]) بقوله:

هذا ابتدا مبارك ابتداءٍ يجِي انتها ميمونَ الانتهاء

ونظمها في المقاصد النورانية في ذكر من ذاته وصفاته متعالية([7]) بقوله:

جاء ابتدا مبارك ابتداء وجِيء انتها ميمونَ الانتهاء

وزاد في أول ديوانه الشعري بيتا آخر قائلا([8]):

جاء ابتدا مبارك ابتداء
رب أعن على الإتمام
يجِيء انتها ميمونَ الانتهاء
بخير الأنبياء على التمام

وكما نجد هذا في تآليف الشيخ ماء العينين، نجده كذلك في تآليف أبنائه كصنيع الشيخ محمد الإمام (ت1970ه) في إسعاف السائل بالكلام على بعض المسائل([9]).

إن اهتبال علماء الصحراء بتصدير مؤلفاتهم بهذه العبارة،فضلا عنوشايتهبمظاهر الجماليةفي التأليف والنسخ في الصحراء،فإنه مسعىمن علماء الصحراء إلى استمطار البركة واليمن في التأليف ليحصل النفع المقصود بالمكتوب، كما يدل حرصُهم هذا على الطلب والدعاء لاتمام ما شُرع فيه من التأليف، وهو أمر لا يُخفيالانتباه إلى تقويم النية والقصد فيالتصنيف.

([1])عتبات النص في التراث العربي والخطاب النقدي المعاصر، يوسف الإدريسي. الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة الأولى 2015. ص: 30

([2]) انظر الإشارات الإلهية تحقيق دة وداد القاضي، دار الثقافة بيروت لبنان، الطبعة الثانية 1982م، (1/1).

([3])انظر وصف النسخة في أول الكتاب: ألفية غريب القرآن، ابن العالم محمد الزجلوي التواتي الجزائري،  ص: 119.

([4]) مجموعة من النوازل، للشيخ المختار الكنتي، مخطوط رقم 1091 ضمن مخطوطات freiburg  .

([5]) الفوائد النوارانية للشيخ محمد المختار الكنتي، مخطوط في ملك اهل الشيخ القاضي، رقم 749 ضمن مخطوطات freiburg  .

([6])الأقدس على الأنفس في أصول الفقه، ويليه تنوير السعيد شرح نظم المفيد في العام والخاص، للشيخ محمد مصطفى ماء العينين . تحقيق وتعليق محمد بن أحمد فريد، دار ابن حزم الطبعة الأولى 2015. (ص: 46)

([7])المقاصد النورانية في ذكر من ذاته وصفاته متعالية، للشيخ محمد مصطفى ماء العينين، تحقيق أنس أمين، دار الكتب العلمية، دار الأمان الطبعة الأولى 2015. (ص: 52)

([8]) ديوان الشيخ ماء العينين للشيخ محمد مصطفى ماء العينين، تحقيق بسام محمد بارود إصدارات الساحة الخزرجية أبو ظبي ، الإمارات العربية المتحدة، الطبعة الأولى 2008.

([9])إسعاف السائل بالكلام على بعض المسائل، للشيخ محمد الإمام، تحقيق أنس أمين، دار الكتب العلمية، دار الأمان الطبعة الأولى 2015، (ص: 24-25).

ذ. وديع أكونين

  • باحث بمركز علم وعمران للدراسات والأبحاث وإحياء التراث الصحراوي بالرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق