وحدة المملكة المغربية علم وعمرانمعالم

دور القرويين في ازدهار العمران

 

 

د.جمال بامي

مدير  وحدة البحث حول العلم والعمران بالمغرب

 

          لاشك أن ارتباط العلم بالعمران في بلاد المغرب قضية تسندها الوقائع التاريخية، والمآثر العمرانية بحيث لا يمكن بحال فصل تطور العمران عن الحركة العلمية بكل أرجاء المغرب وعلى الخصوص في مدينة فاس لدرجة يمكن معها القول أن “فاس هبة القرويين” مثلما قال  هيرودوت أبو التاريخ، يوما، أن “مصر هبة النيل”.. و قد شكلت القرويين منطلقا حقيقيا للعلم والعمران في بلدنا الكريم، يشهد على ذلك النسيج العمراني الذي تطور واستفحل في علاقة جدلية مع ازدهار العلم في رحاب الجامعة المباركة…

لقد استمرت الأنشطة الدينية تُقام بجامع القرويين منذ نشأته، وكلما تطورت مدينة فاس عمرانيا انصبت جهود المحسنين على الاهتمام بالمسجد الجامع توسعة وصيانة وحفظا، فصار عبر تاريخنا العلمي الطويل قطبًا ومنارةً لمساجد الدولة المغربية ومدارسها ومعاهدها، نظراً لإشعاعه الروحي المتواصل وتوجيهه للحياة الدينية والعلمية عبر أرجاء المغرب.. 

عندما ازدهرت الدراسة المركزية بفاس، بنيت عدة مدارس ملحقة بالمساجد لإيواء الطلبة، تحتوى على مرافق للسكنى والدراسة والمطالعة والصلاة مع تشجيع الدارسين على طلب العلم. ويرى الأستاذ الحسن السائح في كتابه عن “الحركة العلمية بجامعة القرويين، منشورات الإسيسكو) أن الخطيب ابن مرزوق لم يكن مصيباً  في كتابه “المسند الصحيح الحسن في مآثر مولانا أبي الحسن” حين زعم أن أبا يوسف يعقوب المريني هو أول من أسس المدارس بفاس ببنائه مدرسة الحلفاويين سنة 670 ه ،المعروفة بمدرسة “الصّفّارين”، إذ الواقع أن بناء المدارس كان معروفاً قبل ذلك الوقت بكثير، ومن أدلة ذلك أن ابن أبا زرع قال في “روض القرطاس” أن أول مدرسة عرفت بفاس هي مدرسة المرابطين، بناها العلامة سيدي واجاج بن زلو اللمطي دفين آكلو بالقرب من تيزنيت، وكان رحمه قد أرسى دعائم مدرسة علمية مباركة بدعم من أستاذه الكبير أبي عمران الفاسي، دفين القيروان.. وكان يوسف بن تاشفين المرابطي أسس بفاس مدرسة “الصابرين” التي سميت فيما بعد بمدرسة بومدين، وكان تأسيسها في أوائل القرن الخامس الهجري بعدما أضيفت بجامع القرويين مرافق جديدة بما يليق بازدهار الحركة العلمية بها..       
ومن أبرز مدارس المغرب في عهد المرابطين، كلية القرويين نفسها، ويذكر ابن الأبار في “التكملة”  عدة مدارس أخرى كانت بطنجة وأغمات وسجلماسة وتلمسان ومراكش. كانت هذه المدارس تأوي علماء القيروان وعلماء الأندلس، وتوثقت الصلات العلمية بين القرويين والأندلس عبر القرويين، فاستفادت الأندلس من ذلك كثيراً إذ آوت قرطبة عدداً من الكتاب والأدباء ضمن سيرورة هذه الحركة العلمية المباركة، ترجم لمعظمهم الفتح ابن خاقان في كتابه : “قلائد العقيان”، وكان جلهم يحذقون لغات النصارى المجاورين لهم، ويترجمون عنهم، فتم النقل والترجمة من الحضارة المسيحية واللاتينية إلى اللغة العربية .إن تحبيس المال على القرويين لم يكن عملا استثنائيا ولا غريبا، فإن الناس عامة وخاصتهم، قد تعاقبوا على إهداء أموالهم وتحبيس ممتلكاتهم لفائدة القرويين كلما احتاج ودون أن يحتاج. وهكذا صمدت هذه المعلمة ونمت وتطورت وتوسعت حتى أصبحت كشجرة في فاس وثمارها تصل إلى كل الناس حسب تعبير الحسن السائح..

وكل المدارس والمساجد العلمية التي أسست بفاس خلال عصري المرابطين والموحدين كانت مرتبطة جدليا بالحركة العلمية والتربوية التي ازدهرت بجامع القرويين.. وقد أدى هذا الازدهار للحركة العلمية في رحاب القرويين  أن تكاثرت  المدارس، وتقدمت حركة التأليف والتدريس بشكل مثير للدهشة.

يقول العلامة  عبد  الهادي التازي في  عمله الموسوعي “جامع القرويين : المسجد والجامعة بمدينة فاس” ( الطبعة الأولى1972، ج1)  عن حيازة جامع القرويين لأوقاف جعلتها مستقلة ماليا عن خزينة الدولة يقول:  “ولما كان الناس يتخوفون أن تلتجئ القرويين في يوم من الأيام إلى مصاريف رجال الدولة، وهم ليسوا جميعا ودائما في مستوى واحد من حيث الحيطة والحذر، فقد عرف المحسنون والموسرون تلك الحقيقة وعمدوا إلى هذا المسجد يغدقون عليه من خيرِ وأنظفِ وأسلمِ ما يملكون حتى يحموا مبدأه ويحفظوا شرفه..وغدت ميزانيتها تنافس ميزانية الدولة، بل إن الدولة استقرضت من خزينتها في كثير من الأحيان عند الأزمات الداخلية وعند ظروف الحرب، التي فرضت على البلاد، وعند بناء المرافق والجسور الحيوية في البلاد.بل وتوافرت أوقاف القرويين، فأفاضت منها على سائر مساجد فاس وسرت أوقافها الزائدة حتى المسجد الأقصى بالقدس، وحتى الحرمين الشريفين مكة المكرمة والمدينة المنورة وإلى كل الجماعة الإسلامية في كل جهات المعمور..وفضلت أحباس القرويين فشملت مشاريع الإحسان والبر بكل ما تشمله من نواحي إنسانية واتسعت مواد السجلات حتى شملت الوقف على”قبر مجهول”.

ويشير المؤرخ عبد الهادي التازي إلى أن “قاضي فاس عندما شب الحريق في وثائق حجج الوقف سنة723 هـ، أمر بضم أملاك فاس كلها إلى القرويين ولم يستثن من ذلك إلا من أدلى برسم أو شهادة معادلة تثبت الملكية من قبل قباضة الحبس”. وهو ما قام به أيضا السلطان أبي سعيد عثمان المريني والمولى الرشيد في أواخر دولة السعديين والمولى سليمان العلوي فيما بعد.. وذكر  الأستاذ محمد المنتصر بالله الكتاني في كتابه  “فاس عاصمة الأدارسة” من الصفحة47 إلى 51).مجموعة من الأوقاف منها وقف للتزويج، ووقف للدواب المرضى، ووقف الحمامات، والمرستانات، ووقف الموسيقى، وأوقاف العرائس لتجهيز العرائس الفقيرات، ووقف الأواني للخدم الذين كسروا آنية من الفخار ليأخذوا بدلها سالمة، ووقف الديون أي القرض الحسن، ووقف خاص بالطيور كوقف اللقلاق أو “بلارج”..

وكانت لجامعة القرويين– كما قال الدكتور عبد الهادي التازي –روافد علمية متينة وقوية في شتى صنوف العلم تتطلب قدرات خاصة من طالب العلم.ومما يبرز بجلاء تأثير القرويين في انتشار العمران بفاس المدارس التي بنيت حول جامع القرويين وانتشرت في أنحاء المدينة خصوصا في القرن الثامن الهجري / الرابع عشر الميلادي على عهد دولة بني مرين ..     
أما المساجد التي عرفت بالدراسة العلمية كامتداد للقرويين فهي : المسجد المنسوب لابن حنين، وكان يقرئ به أبو الحسن علي بن أحمد بن أبي بكر الكتاني القرطبي المعروف بابن حنين، ومسجد زقاق الماء بعدوة القرويين، وقد كان يُدَرِّسُ فيه أبو بكر بن عثمان بن مالك، من شيوخ علي بن حرزِهِم، ومسجد الحوراء الذي تصدر للتدريس به أبو بكر محمد بن محمد بن عبد اللَّه بن مغاور اللخمي الإشبيلي المتوفى سنة 503 هـ، ومسجد طريانة، الذي نزل به المهدي بن تومرت مؤسس الدولة الموحدية مدة إقامته بفاس في السنين الأولى لدعوته، وجامع فاس الذي كان يلقي فيه العلم الشيخ أبو مدين، وقد ورد ذكر هذا المركز العلمي في “التشوف” لابن الزيات التادلي و”أنس الفقير” لابن قنفذ،  كما جاء في التشوف في الحكاية عن أبي مدين : فقيل لي إن رأيت أن تتفرغ لدينك فعليك بمدينة فاس، فتوجهت إليها، ولزمت جامعها وتعلمت الوضوء والصلاة، وكنت أجلس إلى حلق الفقهاء والمذاكرين، فلا أثبت على شيء من كلامهم، إلى أن جلست إلى شيخ ثبت كلامه في قلبي، فسألت من هو ؟ فقيل لي : أبو الحسن ابن حرزهم.         
لقد أدت الحركة العلمية المتواصلة برحاب القرويين إلى امتداد إشعاعها لمساجد أخرى متفرقة في مدينة فاس، وأنشئت المدارس استجابة لازدهار العلم وتشجيعا على المزيد منه.. ولعل أهم حقبة شهدت استفحال بناء المدارس هي فترة الدولة المرينية، إلى درجة أن اشتهر المرينيون بكونهم بناة المدارس. يقول محمد عبد الحي الكتاني في “ماضي القرويين ومستقبلها”: ففي سنة 723 ه، في فاتح شعبان منها أمر السلطان أبو سعيد عثمان بن يعقوب بن عبد الحق المريني ببناء المدرسة العظمى بإزاء القرويين بفاس، وهي المعروفة اليوم بمدرسة العطارين، فبنيت على يد الشيخ المبارك أبي محمد عبد الله بن قاسم المزوار؛ وأمر السلطان أن يجرى بها الماء من بعض العيون هناك، وشحنها بالطلبة، ورتب فيها الفقهاء لتدريس العلم، واشترى عدة أملاك وقفها عليها احتسابا لله تعالى..” وقد ساهمت هذه المدرسة المباركة في تدعيم رسالة القرويين، وضمت بين جنباتها أعلام كبار نشروا بها العلم والصلاح، من أمثال العلامة أحمد  المنجور، وقد كان للمنجور بيت بمدرسة العطارين  يُقرِأه فيه شيخه محمد ابن خروف التونسي عبادات مختصر خليل، وكان شيخ المنجور عثمان بن عبد الواحد المكناسي اللمطي ملازما لابن هارون بمدرسة العطارين كما جاء في “فهرس المنجور”.

 ولما دخل الشيخ عبد العزيز التباع المراكشي إلى محروسة فاس نزل بمدرسة العطارين، وبقبتها ألقى إلى تلميذه الشيخ أبي الحسن على بن محمد صالح الأندلسي ما ألقى بعد أن صعد معه إلى درج المدرسة، ثم سافر شيخه التباع، ففاضت أسرار ابن صالح حتى حصّل في شبكته الإمام عبد الله الغزواني كما في “مرآة المحاسن” لمحمد المهدي الفاسي؛ ويذكر عبد الحي الكتاني في “ماضي القرويين ومستقبلها” أن عدد بيوت مدرسة العطارين 34 بيتا أحدها بيت الشيخ المكودي شارح الألفية، وهو يسار الداخل للقبة..

ومن المدارس التي بنيت بجوار القروييين خلال العصر المريني المدرسة المصباحية، بابها قبالة خصة العين منها، وكانت تعرف بمدرسة الرخام. أمر ببنائها السلطان المريني أبو الحسن بن أبي سعيد عثمان، وقبلها بنيت مدرسة الصهريج التي بعدوة الأندلس.. وعدد بيوت المدرسة المصباحية 117، أشهرها بيت الشيخ مبارك بن عبابو، وإنما قيل لها المصباحية لأن السلطان أبا الحسن المريني لما أمر ببنائها كان أبو الضياء مصباح بن عبد الله الياصلوتي الفقيه المشهور (ت750ه) أول من تصدى للتدريس بها فنسبت المدرسة إليه إكراما له كما في “درة الحجال” للإفراني، و”جذوة الاقتباس ” لابن القاضي، و”نيل الابتهاج” لأحمد بابا التمبوكتي.. يقول العلامة الكتاني في “ماضي القرويين ومستقبلها”  : “وكفى هذه المدينة فخرا أن أبا السعود عبد القادر بن علي الفاسي بها نزل لما رحل من القصر الكبير محل مولده إلى فاس طالبا للعلم. كان بها قبله جده القطب الكبير الشيخ أبو المحاسن يوسف بن محمد الفاسي في عشرة واحدة هو والشيخ العالم العارف أبو عبد الله محمد بن علي بن ريسون، نزيل تزروت بهذه المدرسة وناهيك بهما..” ونقرأ في فهرس العلامة أحمد المنجور أنه ” بالمدرسة المصباحية  جود المنجور على شيخه أبي الحسن علي الحاج ابن البقال، وأنه بمدرسة الصهريج، حضر إليه “مورد الظمآن” لأبي عبد الله الخراز. و بالمدرسة المصباحية، لازم شيخ المنجور محمد بن علي ابن عدة تفسير أبي القاسم ابن إبراهيم مدة. ونعلم  كذلك من خلال “فهرس المنجور” أن العلامة عبد الواحد الونشريسي، شيخ المنجور ذهب إلى دار عبد الوهاب بن محمد الزقاق بزنقة حجامة رفقة محمد ابن مجبر المساري شيخ المنجور أيضا إلى الدار المذكورة  ليصطلح مع صاحبها إثر خصام علمي بينهما بالمدرسة المصباحية. و بجامع القرويين، ختم شيخ المنجور محمد ابن مجبر المساري على عبد الواحد الونشريسي فرعي ابن الحاجب بكرسي الغداة. وبمسجد العقبة الزرقاء المتصل بدار عبد الواحد الونشريسي، حضر عنده كثيرا من فرعي ابن الحاجب، كما حضر عنده بمسجد رحبة الزبيب دروس أخرى. وكل هذه المرافق العلمية كانت فرعا عن الأصل الممثل في جامع القرويين الذي أدت الحركة العلمية المباركة في رحابه إلى ازدهار العلم والعمران بفاس، بل بالمغرب كله..

ومن المدارس التي أسست خلال العصر المريني كامتداد للحركة العلمية والعمرانية التي انتظمت حول جامع القرويين مدرسة الحلفاويين المعروفة اليوم باسم مدرسة الصفارين. أمر ببنائها السلطان أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق على يد قاضيه بفاس أبي أمية مفضل بن محمد المري الدلاي. ويكفي هذه المدرسة فخرا أن الشيخ الجليل محمد بن سليمان الجزولي، صاحب دلائل الخيرات كان يطلب العلم بها، وفي وقت سكناه بها ألف كتابه المذكور، ولازال بيته بهذه المدرسة مشهورا يزوره الناس، وممن نزل بمدرسة الصفارين العالم أبو زيد الفاسي.. ونقرأ في فهرس المنجور أنه “بمدرسة الحلفاويين حضر المنجور إلى شيخه عثمان بن عبد الواحد المكناسي اللمطي  جملة من ألفية ابن مالك بلفظ المرادي وبعض من نص الكافية..”

وتعرف حاضرة فاس أيضا بالمدرسة المتوكلية أو العنانية، أمر ببنائها أبو عنان المريني. وهي من المدارس العريقة التي بلغت النهاية في الرونق وبديع الصناعات.. ويذكر العلامة الزياني في “الترجمانة الكبرى في أخبار المعمور برا وبحرا” نقلا عن رحلة البلوي، أن الرحالة ابن بطوطة صرح لأبي عنان أنه لم ير في الدنيا مثل المدرسة العنانية، ولو أن الزياني يرى في ذلك مبالغة من ابن بطوطة..

وخلال العصر العلوي أحييت سنة بناء المدارس بفاس، مسايرة لمسيرة القرويين العلمية، فأمر المولى رشيد العلوي ببناء مدرسة الشراطين   بالموضع المسمى دار عزوز، ولما أراد نصب محرابها استدعى جماعة من الفقهاء الأعلام والمؤقتين كأبي عبد الله المجاصي، وأبي السعود عبد القادر بن علي الفاسي، والمؤقت أبي الحسن علي الدادسي، فاستخرج أهل الاجتهاد منهم قبلتها بقدر استفراغ الوسع والطاقة، وكتب في تصحيح ذلك سيدي عبد القادر الفاسي كما في “ماضي القرويين ومستقبلها” لعبد الحي الكتاني..  وخلال العصر العلوي، أمر السلطان محمد بن عبد الله العلوي ببناء مدرسة باب عجيسة، لتساهم في نشر العلم والمعرفة والصلاح، كامتداد لرسالة القرويين..

وبعد، فهذه لمحة مختصرة عن تطور العمران العلمي انطلاقا من مركزية القرويين العلمية والحضارية، بحيث يمكن القول بكل اطمئنان أن جامع القرويين المبارك هو الباعث لتأسيس دُور العلم والعرفان ، وهو ما لم يحدث بنفس الحجم في مدن مغربية أخرى مثلما حدث في فاس، وهذا يقوم دليلا على فرادة القرويين وبركاته وإشعاعه الذي أدى إلى ازدهار العلم والعمران..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق