مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

دور الأحاديث النبوية في تربية السلوكيات الاجتماعية

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا  محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين

إن الله تعالى أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم كافة للبشر، وشرفه بأن أنزل عليه كتابه، وأوحى إليه السنة، فجلهما مصدرين للتشريع الإسلامي في جميع جوانب الحياة، ومرجعا للحياة الفردية والمجتمعية، ويشكل الحديث النبوي الشريف مصدرا مهما من مصادر الثقافة التربوية الإسلامية، وحمل في ألفاظه الشريفة توجيهات تربوية، كانت ولا زالت أساسا للمربين في الرقي بالنهضة التربوية الإسلامية، وانعكاس ذلك على المجتمع بشكل عام.

إن للأحاديث النبوية الشريفة وقع وأثر على السلوك البشري، فقد نظمت العلاقات الإنسانية، وجعلت المصلحة البشرية هي أسمى الأهداف، وعملت على ترسيخ فكرة أن الدين يجمع لا يفرق، وأن المعاملات البشرية يجب أن تكون محمودة مرتبة بهدف سامي يحمي حقوق الجميع، ويجل الخير لجميع أفراد المجمع، وتوطيد التماسك المجتمعي لما فيه سعادة البشرية جمعاء، لئلا تنجر إلى التنافر والعداء.

إن حديث الساعة اليوم هو كيفية استرجاع تلك القيم الحضارية الأخلاقية، والمبادئ السامية في المجتمعات، التي ضاعت في خضم الأحداث المتسارعة، والمجتمعات المتصارعة، وهذا الصراع الذي أنسى المجتمعات أن الخير كله في العيش في سلم وتعاون، وهذا مما اهتمت به السنة النبوية الشريفة ودعت إليه، وعنيت به عناية بالغة، فأطرت المجتمعات بأطر عامة، ومناهج تامة للحياة المشتركة، فإن سلكنا طريقها وتمسكنا بمنهجها، زال ما صرنا نعيشه اليوم من تفكك وتخاصم، وساد ما نصبوا إليه من إخاء وتسامح.

ولهذا أرتأيت في خضم الواقع المجتمعي اليوم وما يعرف من تحولات للأسف سلبية، أن أورد بعض الأحاديث النبوية الشريفة في تربية السلوكيات الاجتماعية، مع تخريج لها، وشرح ألفاظها، وبعض الفوائد المستفادة منها، وهي سبعة أحاديث انتقيتها من الصحيحين، وسنني ابن ماجه والترمذي، ومسند أحمد، وهي مرتبة على الحروف:

الحديث الأول: «إن إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم».

تخريجه: رواه من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه الشيخان: البخاري في صحيحه؛ كتاب: العتق، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «العبيد إخوانكم فأطعموهم مما تأكلون»، رقم الحديث: 2545، ومسلم في صحيحه؛ كتاب: الأيمان، باب: إطعام المملوك مما يأكل، وإلباسه مما يلبس، ولا يكلفه ما يغلبه، رقم الحديث: 1661، واللفظ للبخاري[1].

شرحه: قال زكريا الأنصاري: “(خولكم) بفتح المعجمة والواو أي: خدمكم، سموا بذلك؛ لأنهم يتخولون الأمور أي: يصلحونها، ومنه الخولي لمن يقوم بإصلاح البستان. (يده) في نسخة: “يديه”. (فليطعمه) أي: ندبًا. (مما يأكل وليلبسه مما يلبس) أي: من جنس كل منهما. (ولا تكلفوهم) بتشديد اللام. (ما يغلبهم) النهي للتنزيه بقرينة قوله: (فإن كلفتموهم ما) في نسخة: “مما” (يغلبهم فأعينوهم) أي: عليه.

وفي الحديث: النهي عن سب الرقيق، والحث على الإحسان إليه، وإطلاق الأخ عليه، وعدم الترفع على المسلم، والمحافظة على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر”[2].

فوائده: إن من القيم الفضيلة حسن التعامل مع المستخدم، وتمتعهم بحقوقهم، والمساواة معهم في المأكل والملبس، والرحمة بهم في العمل، وعدم تكلفتهم ما لا يطيقون.

الحديث الثاني: «إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد، بالسوية، فهم مني وأنا منهم».

تخريجه: رواه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه الشيخان: البخاري في صحيحه؛ كتاب: الشركة، باب: الشركة في الطعام والنهد والعروض، رقم الحديث: 2486، ومسلم في صحيحه؛ كتاب: فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب: من فضائل الأشعريين رضي الله عنهم، رقم الحديث: 2500، واللفظ لهما[3].

شرحه: قال القاضي عياض: “معنى (أرملوا)؛ أي: فني زادهم، يقال: أرمل الرجل وأقوى وأنقص: إذا فني زاده.

قال القاضي: وفي هذا الحديث فضل المواساة والسماحة، وأنها كانت خلق نبينا صلى الله عليه وسلم، وخلق صدر هذه الأمة، وأشراف الناس”[4].

فوائده: إن الانتساب للنبي صلى الله عليه وسلم ليس بالامتداد إلى نسبه الشريف بالعرق فقط، فيمكن الانتساب إليه بالفعل، عن طريق لزوم طاعته صلى الله عليه وسلم، واتباع خلقه الحسن، والإيثار عن النفس لفائدة المحتاجين.

الحديث الثالث: «ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم، كمثل الجسد، إذا اشتكى عضوا تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى».

تخريجه: رواه من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه الشيخان: البخاري في صحيحه؛ كتاب: الأدب، باب: رحمة الناس والبهائم، رقم الحديث: 6011، ومسلم في صحيحه؛ كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، رقم الحديث: 2586، واللفظ للبخاري[5].

شرحه: قال القاضي عياض: ” (المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضا) فيه الحض على تعاون المسلمين، وتناصرهم، وتآلفهم، وتواددهم، وتراحمهم. وتمثيله عليه الصلاة والسلام في ذلك في البيان، وفي الحديث الآخر: (بالجسد إذا شكا بعضه شكا سائره كله) تمثيل صحيح، وتقريب للأفهام فى إظهار المعاني في الصور المرتبة، فيجب على المسلمين امتثال ما حض عليه السلام عليه من ذلك، والتخلق به”[6].

فوائده: إن المعاملة الحسنة بين الناس، وصدق المؤاخاة بينهم هي سبب ألفة القلوب بينهم، ومتحدين كالجسد الواحد، كل يحسن للآخر، ويكمل بعضهم بعضا.  

الحديث الرابع: «لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم».

تخريجه: رواه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: مسلم في صحيحه، كتاب: الإيمان، باب: بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، وأن محبة المؤمنين من الإيمان، وأن إفشاء السلام سببا لحصولها، رقم الحديث: 54، واللفظ له[7].

شرحه: قال الإمام النووي: “(أفشوا السلام بينكم) فهو بقط الهمزة المفتوحة، وفيه الحث العظيم على إفشاء السلام، وبذله للمسلمين كلهم من عرفت ومن لم تعرف، كما تقدم في الحديث الآخر، والسلام أول أسباب التآلف ومفتاح استجلاب المودة، وفي إفشائه تمكن ألفة المسلمين بعضهم لبعض، وإظهار شعارهم المميز لهم من غيرهم من أهل الملل، مع ما فيه من رياضة النفس، ولزوم التواضع، وإعظام حرمات المسلمين “[8].

فوائده: إن من شيم الإسلام العالية: إفشاء السلام بين الناس، وهو من شأنه أن يقوي الروابط المجتمعية بنشر المحبة بين الناس، وسببا لدخول الجنة.

الحديث الخامس: «ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها»

تخريجه: رواه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: البخاري في صحيحه؛ كتاب: الأدب، باب: ليس الواصل بالمكافئ، رقم الحديث: 5991[9].

شرحه: قال الحافظ ابن حجر: ” لا يلزم من نفي الوصل ثبوت القطع فهم ثلاث درجات مواصل ومكافئ وقاطع، فالواصل من يتفضل ولا يتفضل عليه، والمكافئ الذي لا يزيد في الإعطاء على ما يأخذ، والقاطع الذي يتفضل عليه ولا يتفضل، وكما تقع المكافأة بالصلة من الجانبين، كذلك تقع بالمقاطعة من الجانبين فمن بدأ حينئذ فهو الواصل فإن جوزي سمي من جازاه مكافئا “[10].

فوائده: إن من كمال الوصال صلة من قطع الوصل، ومقابلة الإساءة بالإحسان عن طريق طلاقة الوجه عند لقاء القريب، ورفع الضرر عنه، وإعانته عند الحاجة، والاحتساب عند الإذاية  منه.

الحديث السادس: «ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه».

تخريجه: رواه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما الشيخان: البخاري في صحيحه؛ كتاب: الأدب، باب: الوصاة بالجار، رقم الحديث: 6015، ومسلم في صحيحه؛ كتاب: البر والصلة والآداب، باب: الوصية بالجار والإحسان إليه، رقم الحديث: 2625، واللفظ لهما[11].

شرحه: قال العلامة القسطلاني: “يحصل امتثال الوصية بإيصال ضروب الإحسان إليه بحسب الطاقة؛ كالهدية، والسلام، وطلاقة الوجه عند لقائه، وتفقد حاله، ومعاونته فيما يحتاج إليه، وكف أسباب الأذى عنه على اختلاف أنواعه حسية كانت أو معنوية”[12].

فوائده: إن من كمال الإيمان: حسن التعامل مع الجيران، ومعرفة حقوقهم، وتفقد أحوالهم، والصبر على ما قد ما يصدر منه، وهذا من شأنه أيضا أن يفضي إلى قوة الترابط بين المجتمع.

الحديث السابع: «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، أعظم أجرا من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم».

تخريجه: رواه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ابن ماجه في سننه؛ كتاب: الفتن، باب: الصبر على البلاء، رقم الحديث: 4032، والترمذي في سننه؛ كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع، رقم الحديث: 2507، وأحمد في مسنده، رقم الحديث: 5022، واللفظ لابن ماجه[13].

شرحه: قال العلامة حسين المغربي: “الحديث فيه دلالة على فضيلة الصبر والعفو عن المظالم وكظم الغيظ، وهذه الخصال إنما تكون مع من يخالط النَّاس، ويقل حصولها مع من لا يخالط”[14].

فوائده: إن مخالطة الناس والاجتماع بهم ومعرفة أحوالهم والنصح لهم وتوجيههم، وما يترتب على ذلك من الأذى المحتمل، الذي يقابل بالصبر، أفضل من عدم مخالطتهم، والانزواء عن النفس.

خلاصة القول وزبدته: إن الترابط المجتمعي لابد له من ضامن، وهو ولي الأمر، ولله الحمد والمنة، فبلدنا المغرب أنعم الله تعالى عليه بأمير للمؤمنين، جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده، فهو الضامن للوحدة المجتمعية، والحريص عليها، والساهر على شؤون رعيته، وجامع شتاتها، ودائم الذود عن حقوقها، وهذا ما نلحظه في جميع أنشطته الملكية الشريفة؛ إذ يولي عنايته المولوية الشريفة بالمجتمع، ويدعو إلى دولة اجتماعية يراعى فيها جميع أحوال الناس، فلا تهضم حقوقهم، وهذا لا عجب، فهو صادر من سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يرعى كل أفراد المجتمع ويحافظ على وحدة المجتمع، ولا يتحقق ذلك إلا بطاعته صلى الله عليه وسلم، ومن طاعته طاعة أميره، كما قال في الحديث الشريف: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني، وإنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به، فإن أمر بتقوى الله وعدل، فإن له بذلك أجرا وإن قال بغيره فإن عليه منه»[15].

**************

هوامش المقال: 

[1] ) صحيح البخاري 3/ 149، صحيح مسلم 3/ 1283.

[2] ) منحة الباري بشرح صحيح البخاري 5 /329.

[3] ) صحيح البخاري 3 /138، صحيح مسلم 4 /1944.

[4] ) إكمال المعلم بفوائد مسلم 7 /545.

[5] ) صحيح البخاري 8/ 10، صحيح مسلم 4 /1999-2000.

[6] ) إكمال المعلم بفوائد مسلم 8/ 56-57.

[7] ) صحيح مسلم 1/ 74.

[8] ) صحيح مسلم بشرح النووي 2/ 36.

[9] ) صحيح البخاري 8 /6.

[10] ) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 10 /355.

[11] ) صحيح البخاري 8/ 10، صحيح مسلم 4 /2025.

[12] ) إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري 10 /364.

[13] ) سنن ابن ماجه 2 /1338، سنن الترمذي 4 /662-663، مسند أحمد 9 /64.

[14] ) البدر التمام شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام 5 /343.

[15] ) أخرجه بهذا اللفظ البخاري في صحيحه 4/ 50: كتاب الجهاد والسير، باب يقاتل من وراء الإمام ويتقى به، رقم الحديث: 2957.

***************

جريدة المراجع

إكمال المعلم بفوائد مسلم لأبي الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبى، تحقيق: يحيى إسماعيل، دار الوفاء للطباعة، المنصورة-مصر، الطبعة الثالثة: 1426/ 2005.

البدر التمام شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام لحسين بن محمد المغربي،  تحقيق: محمد شحود خرفان، دار الوفاء، المنصورة- مصر، الطبعة الثانية: 1426/ 2005.

الجامع الصحيح (السنن) لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سَوْرة الترمذي، تحقيق ج4: إبراهيم عطوه عوض، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر، الطبعة الثانية: 1382 /1962.

الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، بيروت-لبنان، دار المنهاج، جدة-السعودية، الطبعة: الأولى: 1422، طبعة مصورة عن الطبعة الكبرى الأميرية، بولاق- مصر، 1311.

السنن لأبي عبد الله محمد بن يزيد ابن ماجه القزويني، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، مصر.

صحيح مسلم بشرح النووي ليحيى بن شرف بن مري النووي، المطبعة المصرية بالأزهر- مصر، الطبعة الأولى: 1347 /1929.

فتح الباري بشرح صحيح البخاري لأبي الفضل أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني، المطبعة الكبرى الأميرية، بولاق- مصر، الطبعة الأولى: 1300.

المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت-لبنان.

المسند لأحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، تحقيق: جماعة من الباحثين، إشراف: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى: 1421 /2001.

منحة الباري بشرح صحيح البخاري لزكريا بن محمد بن أحمد بن زكريا الأنصاري، تحقيق: سليمان بن دريع العازمي، مكتبة الرشد، الرياض- السعودية، الطبعة الأولى: 1426 /2005.

*راجعت المقال الباحثة: خديجة ابوري

Science

يوسف أزهار

  • باحث بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسير ة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق