مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

دعوة الأدارسة بالمغرب: ضمان للأمن الروحي، وتحصين للهوية الوطنية

عُرف المغاربة منذ أن وطئت أقدام السلالة الإدريسية أرضهم، باستقرارهم السياسي، وبتوجههم السني المعتدل، الذي توطّد أكثر مع دخول المذهب المالكي، مع الفقهاء والقضاة القاصدين بلاط المولى إدريس الثاني رحمه الله (177-213ھ)، ذلك التوجّه الذي وحّد كلمتهم، وجمع صفّهم، ولمّ شتاتهم عبر العصور، فتميّزوا بوحدة العقيدة، والمذهب، والسلوك، كما عبّر عن ذلك الإمام عبد الواحد بن عاشر (ت1040ھ) في منظومته:

في عقد الأشعري وفقه مالك      وفي طريقة الجنيد السالك

تلك الوحدة التي كانت من أسباب تمتع أهل المغرب بالأمن والأمان، والوحدة والوئام، فشكلت هذه الثوابت والخصوصيات الدينية للمغاربة، ثوابت أساسية ارتضاها المغاربة وأجمعوا عليها منذ قرون، وكان من ثمارها أن أورثت المجتمع المغربي هوية، ميزته عن باقي المجتمعات الإسلامية الأخرى.

 أولا: الدعوة الإدريسية وتثبيت دعائم العقيدة

  وضع الإدريسان –الأكبر والأصغر- اللبنات الأولى لبناء دولة مغربية مستقلة، حيث كتب الله عز وجل لهذا البلد الفتح على يديهما، وخصّها الله تعالى بالنصر والتمكين ونيْل المُراد، من أمن واستقرار، وجمع للكلمة لهذا البلد الكريم. 

 فقد كان المولى إدريس الأكبر إماما من أئمة آل البيت، وصاحب دعوة، وعلما من أعلام الملة والدين، وأحد الفاتحين الذين نشروا الإسلام في المغرب ووطدوا سلطانه ورفعوا رايته، تمّم عمل سابقيه، وقطع دابر الكفر والضلال، وجمع الشمل، ورتق الفتق، ودعّم كيان الوطن، فلم ينهر بعده أبدا.[1]

بعد أن تلقّى المولى إدريس بيعة القبائل المغربية ومُناصرتها، كإمام وأمير للمسلمين، خطب فيهم خطبة بليغة ذات رسائل كبيرة، حدّد فيها منهج ومعالم دولته الفتية، القائمة على الكتاب والسنة، ووحدة الصف، بعيدا عن العقائد الباطلة والخلافات المذهبية، التي شتّتت شمل الأمة، ومسّت بوحدتها الوطنية.

    هؤلاء الذين بايعوا المولى إدريس، “لم يلتفُّوا من جديد حول زعيم عربي مسلم إلا بعد أن رأوه يصل إليهم وحيدا لا تسانده قوة ولا يحفُّ به جيش، وإلا بعد أن خبروا صلاحه ورأوا فيه بركة الهدي والتُّقى، ووثقوا من نواياه البعيدة من كل عصبية جاهلية مقيتة، فكانت مبايعتهم له مبايعة للإسلام الصحيح…”.[2]

دعا أهل المغرب إلى كتاب الله وسنة رسوله عليه السلام، والعدل في الرعية، والحكم بما أنزل الحق سبحانه في كتابه، والتناصح، فحضّهم على طاعة المولى جل وعلا، والتقرُّب إليه بما يرضيه، من خلال قوله: “أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإلى العدل في الرعية والقسم بالسوية، ورفع المظالم والأخذ بيد المظلوم، وإحياء السنة، وإماتة البدعة، وإنفاذ حكم الكتاب على القريب والبعيد…، واعلموا عباد الله أن مما أوجب الله على أهل طاعته، المجاهدة لأهل عداوته ومعصيته، باليد واللسان…”.[3]

   هذه هي الأسس والركائز الدينية التي استندت إليها الدعوة الإدريسية، وخاصة مناداتها للعودة إلى الينابيع الإسلامية الصحيحة: التمسك بالسنة، ومحاربة البدعة ومختلف الانحرافات العقدية، التي كان عليها أهل المغرب آنذاك. ويمكن اعتبار هذا المنطلق الديني أكبر مؤشر على نجاح المشروع الإدريسي، في إقامة دولة إسلامية جديدة، ذات كيان مستقل، تسعى إلى تحقيق الأمن الروحي للمغاربة.

   كان المغرب يعيش وسط خِضم من المذاهب والتيارات والفرق، فحصل أن وحّده الإمام إدريس على مذهب واحد: مذهب أهل السنة والجماعة، كما عمل “على إبلاغ الدعوة الإسلامية خالصة من الزيغ والانحراف إلى الجميع، واستنقذ الذين استهوتهم البدع والأهواء من الضلال، ووحّد كلمة المغرب، وقلوب أهله، من يومئذ على مذهب السنة والجماعة، فلم يمِل عنه بعد ذلك حتى يوم الناس هذا”.[4]

يجد المتمعِّن في هذا البيان الإدريسي، دعوة صريحة إلى الالتزام بالأخلاق والسلوك القويم، النابع من كتاب الله وسنة نبيه عليه السلام، كالتوبة والصدق والصبر والرحمة والرفق، والعمل بالطاعات، واجتناب المنهيات، من خلال قوله: “… الحرص على طاعة الله، والتوبة عن الذنوب بعد الإنابة والإقلاع، والنزوع عما يكرهه الله، والتواصي بالحق والصدق، والصبر والرحمة والرفق، والتناهي عن معاصي الله كلها…، فإن في معصية الله تلفاً لمن ركبها، وإهلاكا لمن عمل بها”.[5] 

    يزيد هذا المعنى تأكيدا، عند حثِّه للمغاربة على وحدة الصف، وبيان دورها في النصر والبناء والنماء، مُتأسِّيا في ذلك بسيرة نبينا عليه السلام والأنبياء قبله، يقول: “ولا يؤيِّسنّكُم من علو الحق واضطهاده قلة أنصاره، فإن في ما بدا من وحدة النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء الداعين إلى الله قبله، وتكثيره إياهم بعد القلة، وإعزازهم بعد الذلة، دليلاً بيِّناً، وبرهانا واضحا، قال الله عز وجل: ﴿ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة﴾[6]، وقال تعالى: ﴿ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز﴾،[7] فنصر الله نبيه وكثّر جنده، وأظهر حزبه، وأنجز وعده، جزاء من الله سبحانه، وثوابا لفضله وصبره، وإيثاره لطاعة ربه، ورأفته بعباده، ورحمته وحسن قيامه بالعدل والقسط في تربيتهم ومجاهدة أعدائهم، وزهده فيهم، ورغبته فيما يريده الله، ومواساته أصحابه، وسعة أخلاقه، كما أدّبه الله، وأمر العباد باتباعه، وسلوك سبيله، والاقتداء لهدايته، واقتفاء أثره، فإذا فعلوا ذلك أنجز لهم ما وعدهم، كما قال عز وجل: ﴿إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم﴾[8]…”.[9]

على هذا المنوال، يمضي المولى إدريس في وضع اللبنات الأولى، لقيام الدولة الإدريسية المستقلة، التي “تحرّزت من الزيغ العقائدي، وقضت على بقايا الوثنية، وظهرت فيها الوحدة الوطنية مشرقة تهتدي بهدي الإسلام…، فكانت الدولة الأم لكيان المملكة المغربية الحالية، ولنظامها الملكي المستند إلى أحكام الشريعة الإسلامية، كنتيجة للإرادة الشعبية الحرة المتمثلة بمبايعة الصفوة من أهل الحل والعقد، وإقرار الجماهير لهذه البيعة إقرارا متسما بالحرية، وملتزما بالولاء”.[10]

ثانيا: إمارة المؤمنين وحماية مقومات الهوية الوطنية

  كان أوّل مَكْسَب حقّقه المولى إدريس الحصول على بيعة المغاربة، تلك الرابطة الروحية الدينية، الضامنة لوحدة البلاد، والميثاق الذي جمع دائما أهل المغرب بملوكهم وسلاطينهم على مرّ العصور، “فكان أول أمير للمؤمنين بويع خارج نطاق الحرب والانقلاب، بعد الخلفاء الراشدين الثلاثة الأول، كانت بيعته اختيارا طوعيا ذكيا متجليا في أربعة مظاهر:

– أن إمارة المؤمنين أعطاها المغاربة لآل البيت المضطهدين، على أساس بناء صرحٍ لدولة السُّنة في غربي الأمة الإسلامية.

– أن إمارة المؤمنين شكلت القطب الذي خلق الانسجام في ضمير المغاربة بين السياسة والدين.

– أن هذه الإمارة اتخذت صبغة روحية مصدرها التعلق بآل البيت، وهو تعلق خلاّق للتعبئة الوطنية.

– أن هذه الإمارة قد شكّلت القطب الذي تبلور حوله بناء الدولة في استمرارها، والأمة في وحدتها، والمجتمع في تعدديته”.[11]

   لم يكن التفاف المغاربة حول إمامهم بالأمر الاعتباطي، بل عن وعي تام بمكانته وعزمه على الإصلاح، وقدرته على تحقيق ما عجز عنه سابقوه من الفاتحين، “خاصة وأنه لم يسبقه صهيل خيل ولا قرقعة سلاح، كما كان رواد الفتح الأوائل. لذلك أمّروه عليهم، بايعوه بالإمارة، تطوعوا جندا في جيشه، وضعوا طاقاتهم المادية والبشرية بتصرفه، ساعدوه على تأسيس دولة حملت اسمه، وكرست ذريته أئمة وحكاما إلى اليوم. كان عطاؤهم بلا حدود، صادرا عن إيمان وتقدير واحترام…”.[12]

   ومسألة البيعة الشرعية من الضروريات التي تواضع الناس عليها، واتفقوا على أهميتها في حراسة الدين وسياسة الدنيا.

   عن فرات القزاز، قال: سمعت أبا حازم قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين، فسمعته يُحدِّث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كانت بنو إسرائيل تسُوسُهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبيّ بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون، قالوا: فماذا تأمرنا؟ قال: فُوا ببيعة الأول فالأول، أعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم).[13]

   وقال ابن حزم في كتابه الفصل في الملل والأهواء والنحل: “اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع المعتزلة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة، وأن الأمة فرض واجب عليها الانقياد لإمام عادل، يقيم فيها أحكام الله، ويسوسهم بأحكام الشريعة التي أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم…”.[14]

  وأسوة المغاربة في أمر البيعة وإمارة المؤمنين رسول الحق عليه من ربنا أفضل الصلاة وأزكى التسليم، إذ كانت وما تزال رُكناً ضروريا في المنظومة الإسلامية لا فكاك عنه بحال من الأحوال، بل إنها قضية شرعية يتعبد المسلم بها لربه كما يتعبد له بالعبادات الأخرى.

   وأهل المغرب عرفوا بتفانيهم وإخلاصهم للمقدسات الوطنية على مختلف فئاتهم وفصائلهم من عهد المولى إدريس الأول إلى الآن، يقول المغفور له الحسن الثاني طيب الله ثراه: “المغاربة يبايعون ملكهم منذ التاريخ القديم، منذ المولى إدريس على الكيفية الإسلامية المشروعة المعترف بها، والمعروفة من أيام النبي صلى الله عليه وسلم، يبايعون ملكهم بيعة الرضوان، ولكن مقابل تلك البيعة، الملك كذلك يبايع في شكله المغاربة، وذلك حينما يتعهد بضمان حقوقهم، وأول حق عند المغاربة هو الاستمرار في مغربيتهم…، إن البيعة أخذ وعطاء، والتزام متبادل يعبر عن تعلق القاعدة بالقمة، وتعلق القمة بالقاعدة على حد سواء”.[15]

   كان دخول المولى إدريس إلى المغرب فاتحة عهد جديد عند المغاربة، طالما انتظروا من يوحِّد صفوفهم ويجمع كلمتهم، وينقذهم من التعددية المذهبية والزيغ العقائدي الذي كانوا يعيشونه، وقد كان الإمام الفاتح على معرفة تامة بوضعهم، وبحاجتهم كغيرهم من البلدان للتنعم بالأمن الروحي والحضاري، الذي تتوق إليه المجتمعات العربية والإسلامية.

وعلى نفس النهج سار المولى إدريس الأزهر، حيث واصل رسالة والده، لنشر الإسلام والقضاء على الملل والنحل المنحرفة عن كتاب الله وسنة نبيه عليه السلام، حيث “جدّد من معالم الدين ما بلي، وأظهر ما خفي، وأحضر ما غاب وغبر، وأحيا ما درس واندثر، فكان رضي الله عنه بشارة جده صلى الله عليه وسلم في قوله: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله أو إلى قيام الساعة وهم بالمغرب…)، ومن يوم سطع نوره بالمغرب، لا يزيدُ الدِّين به إلا ظهورا واتضاحا، فصار بحلوله شمسا مشرقة، وغرب منه به سائر غياهب الجهل والضلالات لشروق الدين والعبادات”.[16]

ثالثا: وحدة المذهب الفقهي عنوان وحدة الأمة 

   كانت للفتوحات الإدريسية نتائج مهمة في كافة المجالات وعلى مختلف الأصعدة، وكان لجهاد الوالد والابن، رضي الله عنهما، في نشر الإسلام أثر كبير في توحيد المجتمع المغربي على شريعة واحدة، وعلى مذهب واحد لا يتبدل ولا يتغير، “… مما أعان على بقاء المغرب حتى الآن مجتمعا من أكثر مجتمعات الدنيا تناسقا وانسجاما…”.[17]

   هذا التناسق والانسجام، لم يكن لهما ليتحقّقا لولا وحدة القلوب والتفافها حول إمام وأمير للمؤمنين من آل البيت أولاً، ووحدة المذهب ثانياً، والذي تسبقه وحدة العقيدة الإسلامية؛ ذلك المذهب الذي تتفق الروايات التاريخية على أن أول من أدخله إلى المغرب هو عامر بن محمد بن سعيد القيسي، الذي دخل المغرب مع الوفود القادمة من المشرق، فولاّه المولى إدريس الأزهر القضاء.

   لقد كان المغاربة على وعي كامل بأهمية وحدة المذهب، فاختاروا مذهب إمام المدينة مالك ابن أنس (ت197ھ)، “خوفا من الوقوع في الابتداع من جهة، أو تسرّب التفرقة من جهة أخرى، ولهذا اختاروا سنية مالك بن أنس إمام دار الهجرة”.[18]

    إن في وحدة المذهب توحُّدٌ للأمة، وجمعٌ لكلمتها، ووحدةٌ لصفِّها، وبُعدٌ عن الفتنة والتفرقة، كما جاء في كلام المغفور له جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه، قال: “نريد مغربنا في أخلاقه وفي تصرفاته جسدا واحدا موحّداً، تجمعه اللغة والدين ووحدة المذهب، فديننا القرآن والإسلام، ولغتنا لغة القرآن، ومذهبنا مذهب الإمام مالك، ولم يُقْدِم أجدادنا رحمة الله عليهم على التشبُّث بمذهب واحد عبثاً أو رغبة في انتحال المذهب المالكي، بل اعتبروا أن وحدة المذهب كذلك من مكونات وحدة الأسرة”.[19]

   إن المحتوى العلمي، والمضمون الفقهي، والمنظومة التربوية للمذهب المالكي؛ كل ذلك جعل المغاربة يتشبّثون به منذ عهد المولى إدريس الثاني الذي اتخذه مذهبا رسميا لدولته.

    قال ابن خلدون: “وأما مالك رحمه الله تعالى فاختصّ بمذهبه أهل المغرب والأندلس، وإن كان يوجد في غيرهم، إلا أنهم لم يُقلِّدُوا غيره إلا في القليل، لما أن رحلتهم كانت غالبا إلى الحجاز، وهو منتهى سفرهم، والمدينة يومئذ دار العلم…، فرجع إليه أهل المغرب والأندلس وقلّدوه دون غيره ممن لم تصل إليهم طريقته…”.[20]

  فالتأليف بين القلوب وتوحيدها على عقيدة واحدة، وعلى مذهب واحد ليسا بالأمر الهين، غير أن الله سبحانه وتعالى قادر على التأليف بين قلوب المغاربة، وجمعها على إمام واحد، بايعوه على السمع والطاعة وخدمة شؤون بلادهم. 

   استطاع المولى إدريس بفضل الله تعالى ومعونته، أن يُوحِّد الناس على مذهب واحد، ويقضي على التفرقة المذهبية التي كانت سائدة آنذاك، خاصة مع وجود كتاب الموطأ لإمام المدينة، أصل المذهب ولبُّه، إذ اجتمع المغاربة عليه، فجعلوه حَكَمهم وفيصلهم والمرجع في كل أمورهم، فلم يتعدّوْهُ إلى غيره.  

فالمذهب المالكي لم يدخل المغرب “كمذهب فقهي فحسب، بل كمكون لهوية المغرب الدينية والوطنية، وقد تأهّل بذلك ليشكل اتِّباعُهُ تيارا في العمق عمل خلال قرنين ونصف قرن على صياغة ملامح المغرب في تطوره اللاحق”.[21]

  شكّلت بذلك المدرسة المالكية على عهد إدريس الثاني المنهج الأمثل والأفضل عند المغاربة لفهم الإسلام وتطبيقه، حتى أصبح لها الأثر الكبير على سلوك الإنسان المغربي بجميع أبعاده الفردية والجماعية، فضلا عن أن فقهاء المالكية قد عملوا على سد أبواب الفتن والحفاظ على الوحدة الوطنية لقرون عديدة.

رابعا: التصوف السني دعامة للأمن الروحي

    تكاد تتفق أغلب الروايات التاريخية، على أن البدايات الأولى للتصوف بالمغرب، كانت في القرنين الخامس والسادس الهجريين، استنادا إلى أن تدوين هذا العلم ونضجه الكامل كان خلال هذين القرنين، غير أن التدوين لا يتم إلا بعد أن يكتمل ذلك العلم، ويشتد عوده، وتتوفر المادة المراد تدوينها، أي لا بد من بدايات تسبق عملية التدوين.

     يقول جمال علال البختي موضحا هذه المسألة: “… ولكن الأمر لا يعني تجريد بلاد المغرب من أي فكر صوفي، أو نهج زهدي، لدى بعض الأفراد وعند بعض الخاصة، قبل هذا التاريخ [القرن الخامس أو السادس الهجريين]، بل الصحيح – كما تبين لنا- أن ظهور الصلحاء بدأ ببلاد المغرب منذ عهد الأدارسة…”.[22]

   هكذا كان حال التصوف بالمغرب، فقد ظهرت بوادره الأولى في عهد الدولة الإدريسية، وخاصة مع المولى إدريس الثاني الذي وصفه الكتاني بقوله: “بركة فاس والمغرب، وأمانهما وحرزهما، وواسطة عقدهما، وفخرهما، سلطان الأولياء، ونخبة الصلحاء والكبراء والعظماء والأتقياء، سيد الأسياد، وقطب الأقطاب الأمجاد، الغوث الجامع، والنور الساطع اللامع، المجاهد في سبيل رب العالمين، والمؤسس لما عفى ودثر من معالم الدين…، من تحلى بحلية الكمال والإرشاد والهداية، واتسم بسمة الدلالة على الله تعالى والقبول والرعاية…، اسمه إدريس، هو اسمه في الظاهر، وأما في الباطن وعند أهل الله تعالى وأهل الحضرة، فيقال له: فضل…”.[23]

     والدليل على هذا الرأي كتاب: “الدر النفيس والنور الأنيس في مناقب الإمام إدريس ابن إدريس” لأبي العباس أحمد بن عبد الحي الحلبي المتوفى سنة 1120ھ، وخاصة القسم المتعلق بالكرامات الإدريسية، إذ وسَمَهُ صاحبُه ب: “النفحات القدسية في الكرامات الإدريسية“.

     يقول المؤلف عن المولى إدريس الأزهر في معرض حديثه عن معنى الكرامة والفرق بينها وبين المعجزة، “ونظيرُ الحكم في الظاهر والباطن ما وقع للإمام إدريس بن إدريس وهو ابن عشر سنين لما بويع له بالخلافة وخطب البرابر وغيرهم من أهل المغرب، فأذهل الخاصة والعامة، وأخذ بمجامع قلوبهم فملكهم ظاهرا وباطنا وهو لم يبلغ الحِنْث وذلك من قوة المدد المحمدي وقرب عهده بالوجود النبوي، فألان الله له بالنور القلوب، كما ألان لجده عليه السلام قلوب الكفار للإسلام، قالوا: وهذا أبلغ من لين الحديد لداوود عليه السلام في المعجزة، وما كان معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي، فلانت للإمام إدريس بن إدريس قلوب البرابر القاسية التي كانت أشد من الحديد…”.[24]

   وعليه تكون خصوصية المولى إدريس الأزهر رضي الله عنه وولايته وبلوغه درجة العرفان لله عز وجل مما لا يشك فيه، ولا ينكره منكر، انطلاقا من كراماته الرفيعة الشأن، وسيرته، وأحواله المبنية على الاستقامة، والجمع بين الشريعة والحقيقة.

  “وبالجملة فثناء الناس عليه كثير، ووصفهم له بالولاية والصلاح شهير، بل ولايته قطعية معلومة بالضرورة، وانعقد عليها إجماع من يُعتدُّ بإجماعه من أهل الظاهر والباطن سلفا عن خلف، وتسببه رضي الله عنه لأهل هذا المغرب، في الثبات على الإيمان والإسلام وفي العلم والعمل، دليل على انتفاعه بأجور أعمالهم الصالحة…”.[25]    

  قال جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه: “إن التصوف الإسلامي، بنقائه وصفائه واقتباسه من مشكاة النبوة وجذوتها، كفيل إذا سلك به أهله العارفون المسالك الصحيحة السليمة، أن يسهم الإسهام الكبير في إصلاح أحوال المسلمين في ترسيخ الإيمان بالله في قلوبهم، وتعميق الشعور بالوحدة، وتمتين الإخاء والمودة في نفوسهم، ودفعهم إلى التعاون على البر والتقوى والتناصر والتآزر على الحق، لتبقى كلمة الله هي العليا، ولتكون العزة لله ولرسوله، وتستعيد الأمة الإسلامية أنف مجدها، وسابق سؤددها، وتقوم بدورها في إسعاد أحوال العالم، وإسعاد البشرية”.[26]

فشكل بذلك الطابع الذي عرف به أهل المغرب ماضيا وحاضرا، متمسكين به، منافحين عنه، كثابت من ثوابتهم، وكمُقوِّمٍ أصيلٍ من مقوماتهم التاريخية والحضارية، فكان أحد الأسباب الكامنة وراء استقرارهم وأمنهم الروحي.

وخلاصة القول، أن الدعوة الإدريسية أرست قواعد دولة مغربية متينة الأسس والأركان، قوية الثوابت الدينية والفكرية والحضارية والسياسية والاقتصادية على مر الأزمان، ولم يكن ليتأتى لهما ذلك لولا إيمانهما برسالتهما القائمة على الكتاب والسنة، ونشر تعاليم الدين الحنيف في كافة الربوع، والإصلاح الشامل لبلدان المغرب الأقصى آنذاك، بعيدا عن كل عصبية دينية أو مذهبية.

وجدير بالذكر أن المغاربة حين اختاروا نظام إمارة المؤمنين المتمثل في الملكية، واختاروا في الجانب الفقهي مذهب الإمام مالك، وفي الجانب العقدي العقيدة الأشعرية، وفي الجانب السلوكي التصوف السني، كان قصدهم الحفاظ على دينهم، وتطوير دنياهم، وكذا تحصين أنفسهم، لأن المغرب مرّ قبل ذلك بتجارب تعلّم منها الكثير، فحسم رجاله ونساؤه قضاياهم سياسيا ودينيا ومذهبيا وعقديا، وأصّلوها جماعيا تأصيلا، أضحت معه نهائية ومصيرية في حياتهم، وتلك شيمة يقاس بها ذكاء الشعوب الحضاري، والتي بحسمها في اختياراتها الكبرى وثوابتها، تكون في حمى من أن تضطرب في ما ينتج من مشاكل في غياب ذلك، وتضحي مؤهلة للتفرغ لما هو أجدى وأهم.[27]

 

الهوامش 

[1] ذكريات مشاهير رجال المغرب في العلم والأدب والسياسة، عبد الله كنون، قدم له واعتنى به ورتب تراجمه إلى طبقات: محمد بن عزوز، دار ابن حزم، بيروت، لبنان، ط1، 1430ھ/2010م،  3/1400-1404، (بتصرف).

[2] المعجزة المغربية، أحمد عسه، دار القلم للطباعة، بيروت، لبنان، ط1، 1974-1975م، ص: 18.

[3] الحضارة المغربية عبر التاريخ، الحسن السائح، دار الثقافة، الدار البيضاء، ط1، 1975م، 1/118.

[4] ذكريات مشاهير رجال المغرب، 3/1402.

[5] الحضارة المغربية، 1/118-119.

[6] سورة آل عمران. آية 123.

[7] سورة الحج. آية 40.

[8] سورة محمد. آية 7.

[9] الحضارة المغربية، 1/119.

[10] المعجزة المغربية، ص: 20.

[11] الثوابت الدينية للمملكة المغربية وجذورها في عمل السلف الصالح، أحمد التوفيق، الدرس الحسني الأول، رمضان 1433ھ/يوليوز 2012م، ص: 20.

[12] دولة الأدارسة (العصر الذهبي 172-223ھ/788-835م)، عباس نصر الله سعدون، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، ط1، 1408ھ/1987م، ص ص: 169-170.

[13] صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، رقم3455.

[14] الفصل في الملل والأهواء والنحل، أبو محمد علي بن أحمد المعروف بابن حزم الظاهري (ت456ھ)، تحقيق: محمد إبراهيم نصر وعبد الرحمن عميرة، دار الجيل، بيروت، ط2، 1416ھ/1996م، 4/149.

[15] من خطاب لجلالته بمدينة إفران، بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء، بتاريخ 6 نونبر 1981م.

[16] الدرر السنية في أخبار السلالة الإدريسية، علي السنوسي الخطابي الحسني الإدريسي (ت1272ھ)، مطبعة الشباب، مصر، د.ط، 1349ھ، ص: 63.

[17] المعجزة المغربية، ص: 21.

[18] حوار مع الصادق العثماني مدير الشؤون الدينية بمركز الدعوة الإسلامية لأمريكا اللاتينية بالبرازيل على موقع:  (www.hespress.com).

[19] خطاب المغفور له جلالة الملك الحسن الثاني بمناسبة افتتاح السنة التشريعية 1979-1980م، (12/10/1979م).

[20] المقدمة، ابن خلدون، مهد لها ونشر الفصول والفقرات الناقصة من طبعاتها وحققها وضبط كلماتها وشرحها وعلق عليها وعمل فهارسها: علي عبد الواحد وافي، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، ط4، 2006م، 3/954.

[21] التزام المغاربة بالمذهب المالكي ووفاؤهم لأصوله، أحمد التوفيق، سلسلة الدروس الحسنية (1)، 1430ھ، ص: 10.

[22] الحضور الصوفي في الأندلس والمغرب إلى حدود القرن السابع الهجري، دراسة تأريخية وقراءة تحليلية في مواقف ابن خمير السبتي من التصوف والمتصوفة، جمال علال البختي، مطبعة الخليج العربي، تطوان، المملكة المغربية، ط1، 1424ھ/2003م، ص ص: 49-50.

[23] سلوة الأنفاس، ومحادثة الأكياس بمن أقبر من العلماء والصلحاء بفاس، أبو عبد الله محمد بن جعفر بن إدريس الكتاني (1274-1345ھ)، تحقيق: عبد الله الكامل الكتاني، حمزة بن محمد الكتاني، محمد حمزة بن علي الكتاني، دار الثقافة، الدار البيضاء، ط1، 1425ھ/2004م، 1/71.

[24] أبو العباس أحمد بن عبد الحي الحلبي (ت1120ھ): الدر النفيس والنور الأنيس في مناقب الإمام إدريس بن إدريس (باب الكرامات)، تقديم وتحقيق: عبد العلي الوردي، إشراف: خالد سقاط، بحث لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز، فاس، 1428ھ/2007م، ص: 27. (ينظر مطبوعا على الحجر بخزانة القرويين بفاس، مسجلا تحت رقم 103).

[25] الكتاني: الأزهار العاطرة الأنفاس، ص: 211

[26] www.alahdaljadid. Com/islamya/178.html

[27] – خصوصية إمارة المؤمنين ببلاد المغرب، محمد المنتار، جريدة منبر الرابطة، الرابطة المحمدية للعلماء، الرباط، ع21، جمادى الأولى 1432ھ/6 أبريل 2011م، ص: 13.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق