مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةأعلام

السيرة الغراء في من استشهد بالطاعون من القراء

الحمد لله رب الناس، مذهب البأس، والصلاة والسلام على محمد خير الناس، وعلى آله وصحبه والتابعين.

وبعد:

ونحن نعيش هذه الظروف الصعبة، التي قد يفقد فيها المرء أحدا من عائلته أو جيرانه أو أصدقائه، يبقى الصبر مؤنسا للمسلم في مصيبته، قال الله تعالى: «وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَےْءٖ مِّنَ اَ۬لْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٖ مِّنَ اَ۬لَامْوَٰلِ وَالَانفُسِ وَالثَّمَرَٰتِۖ وَبَشِّرِ اِ۬لصَّٰبِرِينَ ١٥٤ اَ۬لذِينَ إِذَآ أَصَٰبَتْهُم مُّصِيبَةٞ قَالُوٓاْ إِنَّا لِلهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَۖ ١٥٥ أُوْلَٰٓئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَٰتٞ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٞۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اُ۬لْمُهْتَدُونَ»، ومما يؤنسه أيضا ما جاء في فضل من مات بالطاعون، كما جاء في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغرق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله»، وورد فيه أيضا عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الطاعون شهادة لكل مسلم»، وقد استشهد جماعة من أخيار القراء على مر التاريخ بالطاعون، وسأحاول في هذه السلسلة جمعَهم(1)، والتعريفَ بهم من خلال هذه المقالات، وسميتها: «السيرة الغراء فيمن استشهد بالطاعون من القراء».

-1- الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه(2)

معاذ بنُ جبل بنِ عمرو بن أوس بن عائذ بن عدي بن كعب بن عمرو بن أُدي بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن يزيد بن جشم بن الخزرج. 

السيد الإمام أبو عبد الرحمن الأنصاري الخزرجي المدني البدري، المقدَّم في علم الحلال والحرام.

أمُّه هندُ بنتُ سهل، من بني رفاعة.

قال علي بن محمد المدائني: معاذ لم يولد له قط. وأما ابن سعد، فقال: له ابنان: عبد الرحمن، وآخر.

كان طويلا، حسنا، جميلا، عظيمَ العينين، أبيضَ، وضيءَ الوجه براقَ الثنايا، أكحلَ العينين، من خير شباب قومه.

قال عطاء: أسلم معاذ وله ثمان عشرة سنة.

شهد المشاهدَ كلَّها، وشهد بدرا وهو ابن إحدى وعشرين سنة، وأمّره النبي صلى الله عليه وسلم على اليمن.

وفي طبقات ابن سعد من طريق منقطع أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن لما بعث معاذا: «إني بعثت لكم خيرَ أهلي».

وفي سنن أبي داود عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معاذُ، والله إني لأُحِبُّكَ، والله إني لأُحِبُّكَ».

وفي سنن الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نِعم الرجلُ أبو بكر، نعم الرجل عمر، نعم الرجل أبو عبيدة بن الجراح، نعم الرجل أسيد بن حضير، نعم الرجل ثابت بن قيس بن شماس، نعم الرجل معاذ بن جبل، نعم الرجل معاذ بن عمرو بن الجموح».

روى البخاري في صحيحه عن معاذ رضي الله عنه، قال: «كنت رِدْفَ النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له عُفير».

عن الشعبي، قال: «قرأ عبد الله: إن معاذا كان أمة قانتا لله حنيفا. فقال له فروة بن نوفل: «إن إبراهيم»، فأعادها، ثم قال: إن الأمة معلمُ الخير، والقانتُ المطيع، وإن معاذا رضي الله عنه كان كذلك». وروى حيان عن الشعبي نحوها. فقيل له: «يا أبا عبد الرحمن! نسيتها. قال: لا، ولكنا كنا نشبهه بإبراهيم».

له عدة أحاديث.

روى عنه: ابن عمر، وابن عباس، وجابر، وأنس، وأبو أمامة، وأبو ثعلبة الخشني، ومالك بن يخامر، وأبو مسلم الخولاني، وعبد الرحمن بن غنم، وجنادة بن أبي أمية، وأبو بحرية عبد الله بن قيس، ويزيد بن عميرة، وأبو الأسود الديلي، وكثير بن مرة، وأبو وائل، وابن أبي ليلى، وعمرو بن ميمون الأودي، والأسود بن هلال، ومسروق، وأبو ظبية الكلاعي، وآخرون.

قال ابن الجزري: «أحدُ الذين جمعوا القرآن حفظا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وردت عنه الرواية في حروف القرآن».

روى البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: «استقرئوا القرآن من أربعة، من ابن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأُبي، ومعاذ بن جبل».

قال ابن حجر: «وتخصيص هؤلاء الأربعة بأخذ القرآن عنهم؛ إما لأنهم كانوا أكثر ضبطا له وأتقن لأدائه، أو لأنهم تفرغوا لأخذه منه مشافهة وتصدوا لأدائه من بعده، فلذلك ندب إلى الأخذ عنهم»(3).

وروى ابن سعد عن مجاهد، قال: «لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، استخلف عليها عتاب بن أسيد يصلي بهم، وخلَّف معاذا يقرئهم ويفقههم».

قرأ عليه: 

عبد الله بن قيس أبو بحرية السكوني الكندي الحمصي صاحب الاختيار في القراءة تابعي مشهور.

عن عبد الرحمن بن غنم، قال: «وقع الطاعون بالشام، فخطب الناس عمرو بن العاص، فقال: هذا الطاعون رجز، ففروا منه في الأودية والشعاب. فبلغ ذلك شرحبيل بن حسنة، فغضب، وجاء يجر ثوبه، ونعلاه في يده، فقال: صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه رحمةُ ربكم، ودعوةُ نبيكم، ووفاةُ الصالحين قبلكم. فبلغ ذلك معاذا، فقال: اللهم اجعل نصيب آل معاذ الأوفر. فماتت ابنتاه، فدفنهما في قبر واحد، وطُعن ابنه عبد الرحمن، فقال – يعني لابنه لما سأله كيف تجدك؟ – قال: «اُ۬لْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُن مِّنَ اَ۬لْمُمْتَرِينَ» [آل عمران: 59] . قال: «سَتَجِدُنِيَ إِن شَآءَ اَ۬للَّهُ مِنَ اَ۬لصَّٰبِرِينَ» [الصافات: 102]. قال: وطعن معاذ في كفه، فجعل يقلبها، ويقول: هي أحب إلي من حمر النعم. فإذا سري عنه، قال: رب! غم غمك، فإنك تعلم أني أحبك».

ومناقبه رضي الله عنه كثيرة جدا، وكانت وفاته بالطاعون بالشام سنة سبع عشرة أو التي بعدها، وهو قول الأكثر، وعاش أربعا وثلاثين سنة، وقيل غير ذلك.

  1.  أشار عليَّ بهذا الجمع شيخي أ.د توفيق العبقري حفظه الله.
  2.  مصادر الترجمة: الاستيعاب 3/ 1402-1407، أسد الغابة 4/ 418-421، سير أعلام النبلاء 1/ 443-461، غاية النهاية 2/ 301، الإصابة في تمييز الصحابة 10/ 202-206.
  3.  فتح الباري 8/ 469.

ذ.سمير بلعشية

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق