مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةشذور

درر قرآنية (5): من طرائف القُرّاء

الحمد لله رب العالمين وبه نستعين، وصلاة ربي وسلامه على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين.

وبعد؛

فلقد كان للمسلمين – قدامى ومحدثين – عناية منقطعة النظير بالقرآن العزيز منذ تنزُّلاته الأولى إلى أواننا هذا، ثم هذه العناية شَمَلت مختلِف جوانبه الأدائية (رواية ودراية) تصديقا لقول لوعد الله المنجز: (إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحَفِظُونَ) [الحجر/09]،وذلك لما تجرَّد لحفظه وجمعه قومٌ من الصحب الكرام، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعدهم، على تراكُب العصور وتناسخ الدهور، احتفالاً منهم به ورعْياً لمنزلته (كلام الله عزو جل) وما إليه، فتواترت لذلك مظاهر هذه الرِّعاية وتفنَّنت لأجله صور الفقاهة، وذلك صوناً لماهيَّته وكينونته، وتفهُّماً لصيرورته في سائر تقلُّباته، المترددة بين ضبط رسمه وتعيين عدد آيه، وتجويد حروفه وألفاظه، ورعْي وقوفه وائْتنافه، ثم تحرير قراءاته وعزو أوجه أدائه …فلم يداخلهم الغلط في كَتْبه أو ضبطه أو أدائه أو أدقّ من ذلك، حتى رقَّوْه إلينا صريحاً صحيحا مَحْضا، فلم يَبْقَ عليهم مما يضمن وثاقة نصِّه ويُحصِّل حُسن المُفاد من تنزيله وتأويله إلا أشاروا به، بل ألزموا باقتفائه وترك مخالفته، فقيَّدوا كل ذلك في أوعية يُفْزَعُ إلى عند الخطر (صدرا وسطرا)؛ أَنْ تضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُما الأُخْرى، ولذلك تعددت نعوتهم وسيماؤهم في التحمل والأداء، واختلفت منازلهم في الفقه والدراية، ولقد اقتبسنا للتدليل على هذا المنحى في العناية بالنص المنزّل، مطارحة نقدية لقارئَيْن رَأْسَيْن، ممن لَهِجَ لسانُ الزَّمان بفضلهم وعُلوّ شأْوهم،في حيازة شرف الانتساب لكوكبة خَدَمَة كتاب الله تعالى والذَّابِّين عن حياضه، مُتَلعَّق القول ومنصرَفُه للإمامين الفَذَّيْن:حمزة بن حبيب الزيات (ت‍ 156 ه‍) وعلي بن حمزة الكسائي(ت‍ 189 ه‍) رضي الله عنهما، وما دار بينهما في إثبات حرفيْن من كتاب الله عز وجل في قصة شهيرة شاردة، جَرَتْ بذكرها الركبان في الأندية والمجالس … وهما حرفا: (الذِّئْب) و (الْحُوت) همزاً لعَيْنها وتركاً، وأيّ الوجهين أولى بالاعتبار وأحق بالتَّقدمة والأحقّية، ثم هذه سياقة القصةّ:

قال الإمام خلف بن هشام[1] (ت‍ 229 ه‍):

دخل الكسائي الكوفة، فجاء إلى مسجد السَّبيع[2]، وكان حمزة بن حبيب الزيات يقرئ فيه، فتقدم الكسائي مع أذان الفجر، فجلس وهو ملتفّ في كساء من البَرَّكان[3]الأسود، فلما صلى حمزة قال: من تقدم في الوقت يقرأ ؟ قيل له الكسائي أو من تقدم – يعنون صاحب الكساء – فرمقه القوم بأبصارهم، فقالوا: إن كان حائكا فسيقرأ سورة يوسف، وإن كان ملاحا فسيقرأ سورة طه، فسمعهم؛ فابتدأ بسورة يوسف، فلما بلغ إلى قصة الذئب، قرأ (فَأَكَلَهُ الذِّيبُ) بغير همز، فقال له حمزة: (الذِّئْبُ)بالهمز، فقال الكسائي: وكذلك اهمز (الْحوتُ) من قوله: (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ) ؟ ! قال: لا، قال: فلم همزت (الذِّيبُ)، ولم تهمز (الْحوتُ)، وهذا (فَأَكَلَهُ الذِّيبُ) وهذا (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ) ؟ فرفع بصـره إلى خلاد الأحول – وكان أجلّ غلمانه –فتقدم إليه في جماعة من أهل المجلس فناظروه، فلم يصنعوا شيئا، فقالوا: أفدْنا يرحمك الله، فقال لهم الكسائي: تفهّموا عن الحائك ؟ ! تقول إذا نسبت الرجل إلى الذئب: (قَد اسْتَذْأَبَ الرَّجُلُ)، ولو قلت: (قَد اسْتَذابَ) بغير همز، لكنت إنما نسبته إلى الهزال، تقول: (قَد اسْتَذابَ الرَّجُلُ)، إذا استذاب شحمه (بغير همز)، فإذا نسبته إلى الحوت تقول: (قَد اسْتَحَاتَ الرَّجُل)، أي كثر أكله، لأن الحوت يأكل كثيرا، ولا يجوز فيه الهمز، فلتلك العلة همز (الذِّئْبُ) ولم يهمز (الْحوتُ).

وفيه معنى آخر: لا يسقط الهمز من مفرده، ولا من جمعه، وأنشدهم:

أنت عندي من أَذْؤب ضاريات

أيها الذئب وابنه وأخوه

فسمي الكسائي من ذلك اليوم[4].

ولقد انطوت سياقة هذه القصة على جانب عريض من التأسِّي والفقه وما إليه،وذلك أنها – بما انطوت عليه – تَهدي البصير المتأمل إلى ما بيْن جَنْبَيْها، حتى يكون على بينة فيما يأتي ويذر، إذ إن كثيرا من مسائل العلم والأدب ما تَسْتَفْززُ الناظرَ لاِستحسانها ببادئ الرأي، فيقطع فيها نُقاوة عمره ويبذل خالصة مُهْجته، ثم يجد – بعدُ – بأن ليس وراءها ما يمكن اتخاذه مَوْئلا في عمل ولا مَأْرِزاً لاعتقاد، كما إنَّ كثيرا منها من قبيل الذي يُشَمُّ ولا يُفْرَك، ولا يكون للعقل أو النظر نصيب، إلاَّأن يُتلقّى كما أُنزل، ويُجْعَلَ تأْويله في تنزيله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وتُبَّعه.


1وهو خلف العاشر، أحد القراء العشرة، أبو محمد خلف بن هشام البزار، أحد الحفاظ، (غاية النهاية 8/ 322).

2محلّة السبيع (بفتح أوله وكسر ثانيه ثم ياء وآخره عين مهملة) بالكوفة، وهي موطن الحجاج بن يوسف الثقفي، وهي مسماة بقبيلة السبيع، رهط أبي إسحاق السبيعي، وقد نسب إلى هذه المحلة جماعة من أهل العلم، (معجم البلدان 3/187)، دار صادر، الطبعة الثانية 1995 م‍.

[3]على وزن فَعَّلان بتشديد العين، كساء معروف أسود، التهذيب (باب الكاف واللام)، تاج العروس (ب ر ك)، المصباح المنير (ب ر ك).

[4]تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي (ت‍ 463 ه‍)13/345 (علي بن حمزة أبو الحسن الأسدي)، تح بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي – بيروت، الطبعة الأولى 1422 ه‍ – 2002 م‍.

د.مولاي مصطفى بوهلال

    • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق