مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةشذور

درر قرآنية (4): باب السبب الموجب لتقديم فاتحة الكتاب على سور القرآن

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعدَه، محمد وآله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا، وبعد:

فلا يخفى على كل مسلم ما لسورة الفاتحة من عظيم فضل، وجليل قدر، لذلك جعلت قراءتُها واجبةً على كل مصلٍّ في كل ركعة، وقد تعددت أسماؤها؛ فسميت بالفاتحة، وبأمِّ الكتاب، وبالسبع المثاني وبغيرها من الأسماء، كما جُعلت مفتتَحا لهذا الكتاب العظيم، وقد بيَّن الإمام أبو محمد الحسنُ بنُ عليٍّ بنِ سعيدٍ المقرئ العُماني رحمه الله (من علماء القرن الخامس الهجري) السببَ الموجب لتقديمها على سور القرآن، فقال رحمه الله:

«باب السبب الموجب لتقديم فاتحة الكتاب على سور القرآن

اعلم أن حكم هذه السورة مخالف لحكم سائر سور القرآن بخاصيتين وُجِدتا فيهما.

إحداهما: أنها أخرجت من جملة القرآن بتسميتها أمَّ الكتاب؛ وذلك أنها لما سُميت أمَّ الكتاب، وأضيفت إلى الكتاب، صارت كأنها قِسمٌ واحد، والقرآن بكُليَّته قسمٌ، فأُخرجت بذلك من جملة القرآن.

ووَجبتْ لها بذلك فضيلةٌ خاصة؛ لأن من شأن العرب ألا تُخرج شيئا من جُملةٍ قد دخل فيها إلا لنباهةٍ ورفعةٍ وزيادةِ رتبةٍ.

والدليلُ عليه قوله تبارك وتعالى: ﴿مَن كَانَ عَدُوّاٗ لِّلهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَٰٓئِلَ﴾ [البقرة آية 97]، فأخرج جبريلَ وميكائلَ بالتسمية من جُملة الملائكةِ، وهما منهم، ليَحصُل لهما بذلك ضربٌ من الشّرف والنّباهةِ.

وعلى هذا قوله تعالى: ﴿فِيهِمَا فَٰكِهَةٞ وَنَخْلٞ وَرُمَّانٞ﴾ [الرحمن آية 67]، والنخل والرمّانُ من الفاكهة؛ وإنما ميّزهما من الفاكهة تفضيلا لهما.

والخاصية الأخرى: أن حكمَ هذه السورةِ خالف حكمَ سائرِ سُور القرآن في النظم، وذلك أن ألفاظَ سور القرآن كلَّها متصورة في السمع بصورة مخاطبة الخالق للمخلوقين؛ بأمر أو نهي، أو وعد أو وعيد، وغير ذلك من المخاطبات التي إليها تنقسم معاني القرآن.

فأما ألفاظ هذه السورة فإنها خرجت بكلِّيتها في صورة مخاطبةِ المخلوقين للخالق، بالتحميد والتمجيد والدعاء.

وعلة ذلك أن لكلٍّ من أهل الأديان والملل كلماتٍ أُعدت لأن تكونَ فواتحَ صلواتهم قبل قراءة ما يقرؤون فيها من كتب دياناتهم، وهو يعدون تلك الكلمات من أجلِّ ما يجري على ألسنتهم وأشرفِه عند استقبالهم قبلَتَهم لأداء صلواتهم.

فكأن الله تعالى أقام هذه السورة التي هي فاتحة الكتاب، لأهل هذه الملة، مُقام تلك الكلمات التي يستعملها أولئك المتديِّنون من أصحاب المِللِ.

ولهذا السبب رُتّبت في المصاحف في أول سُور القرآن؛ فسُمِّيت فاتحةَ الكتابِ؛ لأن قراءة القرآن بها تُفتتَحُ في الصلوات خاصّة.

والعلة في تسميتهم هذه السورة بأم الكتاب هي أنّ أمَّ الشيء أصلُه الذي يتولد منه ما سواه، فيكون مُتقدِّما لجميع ما يتفرَّع منه.

وإذا رُجع إلى مضمون هذه السورة من الألفاظ عُلِم أنه لا يوجد شيء من المعاني المتفرقة في سائر القرآن إلا وله أصل في ألفاظها.

وليس شيء مما يحتاج المسلم إلى التدين به، حتى يتمّ له أسباب دينه، ويجبَ له ثواب ربه، إلا وأصلُه موجود في هذه السورة؛ وذلك أن جوامعَ أسبابِ الدّين إنما هي توحيدُ الله عزَّ وجلَّ، ووصفُه بالصفات الحسنى، والإقرارُ بالمعاد والجزاء والحساب والثواب والعقابِ، وإخلاصُ العبادة لله تعالى، وتركُ الإشراكِ فيها بشيء من وجوه الآثام والمعاصي.

وهذه المعاني التي بها يستكمل الإنسانُ أسبابَ التديّن والتعبد مجموعةٌ في هذه السورة بغاية ما تتصوره الأوهام من الاختصار، والألفاظ الوجيزة. فإذا تأمل القارئ ذلك تَصوَّرَ صحتَه، وتبين حقيقته»(1).

  • كتاب الأوسط في القراءات الثمان ص626-628 تحقيق د. عزة حسن.

ذ.سمير بلعشية

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق