مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةشذور

درر قرآنية (20): التشوف إلى مقامات التصوف (4) درر من تفسير ابن جزي الغرناطي (مقام التوحيد)

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده

وبعد فهذه درة رابعة من نفائس درر الإمام العلامة أبي القاسم محمد بن أحمد بن جزي الغرناطي المالكي (ت:714) اقتنصت من تفسيره المسمى بـ«التسهيل لعلوم التنزيل» منتزعة من قوله سبحانه في سورة البقرة ﴿وإلـهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمـن الرحيم﴾ [البقرة:163] فصل بها مقام التوحيد الذي هو حق الله على عباده، وميثاقه الذي أخذ عليهم، وأول المسالك للسالكين، وغايتها للواصلين؛ فـ«إن أول ما يحتاج إليه العبد من الحكمة معرفة المصنوع صانعَه، والمحدَث كيف كان إحداثه، فيعرف صفة الخالق من المخلوق، وصفة القديم من المحدَث، ويذل لدعوته، ويعترف بوجوب طاعته، فإن من لم يعرف مالكه لم يعترف بالملك لمن استوجبه».([1])

فلا جرم أن كان غاية الرسل والأنبياء، وشأو الصفوة والأولياء، ولب التنزيل، وأساس التشريع؛ لأنه الأصل والفروع سواه؛ ولذلك مهد الشيخ زروق في قواعده قاعدته بقوله: «تحقق الأصل لكل من لزمه فرعه إن كان لا ينفك عنه، فلا بد من تحقيق أصول الدين..»: ذلك «أن الفروع الدينية عبادات لله عز وجل، وكيف تتصور عبادة من لم يُعرف، فلا بد من معرفة المعبود أولا، ثم معرفة كيفية عبادته، فالمقصود من الفروع ـ أعني التقرب والتعبد ـ ملزوم لمعرفته تعالى، ومحال وجود الملزوم بدون لازمه، وليست معرفته تعالى ملزومة لمعرفة العبادات».([2])

فهو لازم لكل تشريع، ويسره وتيسيره؛ إذ من عرف ربه أذعن له؛ فكانت أقواله وأفعاله، ومنعه وعطاؤه، وحبه وبغضه.. ومهجته وحاله لله، فلا أنس إلا به سبحانه، ولا كنف إلا في ظله، ولا رجاء إلا فيه، ولا خوف إلا منه، له الخلق والأمر، بيده الخير وإليه المصير.

فعلى من يروم السكينة الدائمة، ويبتغى الطمأنينة الدائبة، في سبوغ عطاء، وسابل غطاء، ألا يتخذ غيره وليا، ولا سواه نصيرا؛ إذ جماع النفع فيه، وجملة الضر منه، وهو ما دل عليه كتاب الله وسنة نبيه، ومن ذلك آيات التوحيد الأربع:

الأولى قوله سبحانه: ﴿وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير﴾ [الأنعام:17]

والثانية قوله عز وجل: ﴿وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم﴾[يونس:107]

والثالثة قوله عز من قائل: ﴿ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم﴾ [فاطر: 2]

والرابعة قوله تبارك وتعالى: ﴿قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون﴾ [الزمر:38]

وتقرير ما دلت عليه الآيات «أن الضر اسم للألم والحزن والخوف وما يفضي إليها أو إلى أحدها. والنفع اسم للذة والسرور وما يفضي إليهما أو إلى أحدهما. والخير اسم للقدر المشترك بين دفع الضر وبين حصول النفع.

 فإذا كان الأمر كذلك فقد ثبت الحصر في أن الإنسان إما أن يكون في الضر أو  في الخير؛ لأن زوال الضر خير..

 وإذا ثبت هذا الحصر فقد بين الله تعالى في آياته أن المضار قليلها وكثيرها لا يندفع إلا بالله، والخيرات لا يحصل قليلها وكثيرها إلا بالله.

 والدليل على أن الأمر كذلك، أن الموجود إما واجب لذاته وإما ممكن لذاته:

 أما الواجب لذاته فواحد، فيكون كل ما سواه ممكنا لذاته، والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته، وكل ما سوى الحق فهو إنما حصل بإيجاد الحق وتكوينه.

فثبت أن اندفاع جميع المضار لا يحصل إلا به، وحصول جميع الخيرات والمنافع لا يكون إلا به»([3])

وتذييل الآيات الأربع بما يدل على القدرة والعزة، والحكمة والرحمة، والمغفرة والكفاية، يستلزم أحروية التوكل عليه، وتمحيض العوذ به، و صدق المفزع من الكل إليه، وهو ما سماه القوم الفناء فيه عن غيره، وليس مرادهم به فناء وجود ما سوى الله في الخارج، بل فناؤه عن شهودهم وحسهم، فحقيقته: غيبة أحدهم عن سوى مشهوده، بل غيبته أيضا عن شهوده ونفسه؛ لأنه يغيب بمعبوده عن عبادته، وبمذكوره عن ذكره، وبموجوده عن وجوده، وبمحبوبه عن حبه، وبمشهوده عن شهوده.([4])

وهذا أقصى ما ذكره القوم في أصولهم من كمال الترقي إلى الله، ونبه عليه هـهنا أبو القاسم في درته، فقد جعل التوحيد درجات: توحيد العامة، وتوحيد الخاصة، والدرجة الثالثة ألا يرى الواصل في الوجود إلا الله وحده، وهو مقام الفناء عندهم.

قال رحمه الله: ﴿وإلهكم إله واحد الواحد﴾ الواحد له ثلاثة معان كلها صحيحة في حق الله تعالى: أحدها: أنه لا ثاني له فهو نفي للعدد. والآخر: أنه لا شريك له. والثالث: أنه لا يتبعض ولا ينقسم، وقد فسر المراد به هنا في قوله ﴿لا إله إلا هو﴾.

واعلم أن توحيد الخلق لله تعالى على ثلاث درجات:

الأولى: توحيد عامة المسلمين، وهو الذي يعصم النفس والمال في الدنيا، وينجي من الخلود في النار في الآخرة، وهو نفي الشركاء والأنداد، والصاحبة والأولاد، والأشباه والأضداد.

 الدرجة الثانية: توحيد الخاصة، وهو أن يرى الأفعال كلها صادرة من الله وحده، ويشاهد ذلك بطريق المكاشفة لا بطريق الاستدلال الحاصل لكل مؤمن، وإنما مقام الخاصة في التوحيد  يقين في القلب بعلم ضروري لا يحتاج إلى دليل، وثمرة هذا العلم الانقطاع إلى الله، والتوكل عليه وحده، واطراح جميع الخلق، فلا يرجو إلا الله، ولا يخاف أحدا سواه؛ إذ ليس يرى فاعلا إلا إياه، ويرى جميع الخلق في قبضة القهر، ليس بيدهم شيء من الأمر، فيطرح الأسباب وينبذ الأرباب.

 والدرجة الثالثة ألا يرى في الوجود إلا الله وحده فيغيب عن النظر إلى المخلوقات، حتى كأنها عنده معدومة. وهذا الذي تسميه الصوفية مقام الفناء بمعنى الغيبة عن الخلق؛ حتى إنه قد يفنى عن نفسه، وعن توحيده: أي يغيب عن ذلك باستغراقه في مشاهدة الله.

التسهيل لعلوم التنزيل للإمام أبي القاسم الغرناطي:1/255


([1]) ن الرسالة القشيرية لأبي القاسم عبد الكريم القشيري: 5

([2]) ن شرح العلامة ابن زكري الفاسي على قواعد التصوف:364

([3]) ن مفاتيح الغيب للفخر الرازي: 12/494، ويؤيده من السنة حديث المغيرة: «اللهم لا مانع لما أعطيت.. » وحديث ابن عباس: «واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك..».

([4]) ن مدارج السالكين لابن القيم:1/155.

د. عبد الهادي السلي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق