مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةشذور

درر قرآنية (18): خصال عشر في أعمال الباطن في تلاوة الكتاب: -6- التَّخَلِّي عَنْ مَوَانِعِ الْفَهْمِ

إن في ميادين الدلالة القرءانية سبحا طويلا لأهل الافتكار، ومجالا رحيبا تتسابق في حلبته جياد الأنظار، ومهما ابتغي خلالها من الإيجاف والإيضاع، و مهما سال بأباطحها من مداد الأقلام، وتمادت في طلبها من مدد أبحر الأفهام، فإنها لن ترتد عنها إلا حسرى دون استيفاء الوطر وبلوغ البغية والمرام، ليستقر لكلمات الله خلود العطاء، متعالية عن التناهي والنضوب والنفاد …

 وقد قضى الله سبحانه أن شرائف تنزيله – وهي روح من أمره – لا تطيب بثمارها إلا لمن تحقق بشرطها الزكي، ولا تتفتق بعبيرها إلا لمن تحلى بحلية الوصل الندي، وإلا  فالأبصار من بصائرها في غطاء وعمى، وأهلها كمن ينادى من مكان بعيد؛ حين تغشى سماءهم غياية سوداء تحجب عنهم أنوار الكتاب وسرائره، وتمنعهم ثماره وأطايبه؛ فحق لكل منتجع سبيل الإفادة من هذا الكتاب والانتفاع بحقائقه أن يتعرف هذه الحجب الموانع، فيتجافى عن مضاجعها، ويسعى سعيه في التباعد عن مضايقها، ليجد في فيحاء الفهم مراغما كثيرا وسعة… وتلك رسالة الإمام في هذه الدرة السادسة، ينبيك فحواها عن تفاصيل تلك الحجب، في تفريد فريد، يلقى إليك في تفاريق شتى، ومقاصد جميع، ولكأني بها في رباعي تقسيمها ترتد إلى مأخذين كبيرين: شبهة في العلم وشهوة في النفس، وكفى بهما حجابا كثيفا يصد عن الاستبصار بآي الكتاب؛ و يشاغب على المتدبر مسيرته في مدارك الفهم ومراقي الاستنباط، ومتى تناسلت في العقل الشبهات، وأشربت في القلب الشهوات فقد حق القول على التالي للكتاب، و حيل بينه وبين معانيه ولطائفه، وحرم الاستمتاع بأشذائه وأندائه.

 أما شبهة العلم فمن مأتاها بحسب بيان الإمام:

1-  تشاغل مفرط وغلو زائد في  التهمهم باللفظ القرءاني ينآى به عن أداء وظيفته ، فتتصير به وسائل المباني وساوس صارفة عما تحمله من جلائل الحقائق و مقاصد المعاني.

2 – أو استكانة إلى قديمِ معلوم، أسيرِ تقليد إمَّعي مَعيب،يلح شيطانه في الإلزام بسلطانه – مهما بدا عواره –  و التجهمِ لما وراءه،  مهما تلفع بمراشد الفهم، وائتم ببينات العلم.

3 – وربما كان مرد الشبهة -وهي ثالثة الأثافي في شبه العلم- اعتقادٌ هواءٌ: تأويله أن مقاليد الفهم قد استأثر بها سُبَّق القوم، وأن فسر  مضامين الكتاب موقوف عليهم، وأزمته مصروفة  إليهم، وكل قول بعدهم فحيدة عن جَدَد الهدى، وإساءة للسوآى  في حقهم وهوى . ولعمري، لا عن غض أو بخس أو انتقاص من أقدارهم هو  مأتى الشبهة، معاذ الله، فهم -بلا ريب- فوقنا في كل فهم وعلم وفضل، وبهم تحقق الاستهداء،ومنقبتهم ثابتة ظاهرة باهرة،  وإنما  مروم  القول أن وجوه  تفهم آي الكتاب هي هبة للقرائح المسددة بالمنائح، دون لحظ سابق الزمن أولاحقه، و أن إحداث القول في لحون خطابها ليس هتكا لحرمة حرم الكتاب، ولا تسورا على محرابه ، بل هو من أطايب ما يجبى إليه من ثمرات الفهم مادام قد حف بهاديات الشريعة ، وانذرب له  البيان وفق قواعد اللسان

4 – وأما شهوة  النفس -حين يشربها المرء ويتخلق بها- فاثقال بغيض محبط للمتدبر عن الارتقاء في معارج فهم الكتاب، واسنشاء عبق أريجه؛ ذلك أن القرءان روح من أمر الله ونور من تنزلاته لا يثقفه إلا البصائر الجلية، ومتى تنامى نور البصيرة في قلب العبد ، فقد باحت له المعاني بسرائرها، وتهادته لطائفها، وتقلب في بركاتها. وأما حين  يتدنى حال التخلق بالمرء، و يزري به كبرياؤه ويتمادى به حبل غوايته وهواه، فأخلق بمنافذ الفهم أن تنسد دونه..فما هو إلا التقاصر والتخاذل  لا يفتآن بعد ذلك من خبال واعتساف.

وعذرا إن جرى القلم على جموح واستطالة، فما هو إلا من بلال وحي كلام الإمام وإيحائه، جرى على سبيل التقديم- لا التقدم –  بين يديه. ودونكم الكلام:

«السَّادِسُ: التَّخَلِّي عَنْ مَوَانِعِ الْفَهْمِ

 فَإِنَّ أَكْثَرَ الناس منعوا عن فهم معاني الْقُرْآنِ لِأَسْبَابٍ وَحُجُبٍ أَسْدَلَهَا الشَّيْطَانُ عَلَى قُلُوبِهِمْ،  فعميت عليهم عجائب أسرار القرآن، قال صلى الله عليه وسلم: ” لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى الملكوت “[1] ، ومعاني القرآن من جملة الملكوت،  وكلُّ ما غاب عن الحواس ولم يدرك إلا بنور البصيرة فهو من الملكوت.

وحُجُب الفهم أربعة:

  •  أولها :  أَنْ يَكُونَ الْهَمُّ مُنْصَرِفًا إِلَى تَحْقِيقِ الْحُرُوفِ بإخراجها من مَخَارِجِهَا،  وَهَذَا يَتَوَلَّى حِفْظَهُ شَيْطَانٌ وُكِّلَ بِالْقُرَّاءِ لِيَصْرِفَهُمْ عَنْ فَهْمِ مَعَانِي كَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وجل،  فلا يزال يحملهم على ترديد الحرف،  يُخَيِّلُ إِلَيْهِمْ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ مَخْرَجِهِ، فَهَذَا يَكُونُ تَأَمُّلُهُ مَقْصُورًا عَلَى مَخَارِجِ الْحُرُوفِ،  فَأَنَّى تَنْكَشِفُ لَهُ الْمَعَانِي؟! وَأَعْظَمُ ضُحكَةٍ لِلشَّيْطَانِ من كان مطيعاً لمثل هذا التلبيس.
  • –     –  ثانيها:  أن يكون مقلداً لمذهب سمعه بالتقليد وجمَد عليه، وثبت في نفسه التعصب له بمجرد الاتباع للمسموع،  من غير وصول إليه ببصيرة ومشاهدة،  فهذا شخص قيَّده مُعتقدُه عن أن يجاوزه،  فلا يمكنه أن يخطُر بباله غير معتقده،  فصار نظره موقوفاً على مسموعه،  فإن لمع برق على بُعد،  وبدا له معنى من المعاني التي تُباين مسموعَه، حمل عليه شيطان التقليد حَملة  وقال: كيف يخطر هذا ببالكَ وهو خلافُ معتقد آبائكَ؟! فيرى أن ذلك غرور من الشيطان، فيتباعد منه ويحترِزُ عن مثله.

ولمثل هذا قالت الصوفية: ( إن العلم حجاب )،  وأرادوا بالعلم:  العقائد التي استمر عليها أكثرُ الناس بمجرد التقليد، أو بمجرد كلمات جدلية حررها المتعصبون للمذاهب وألقوها إليهم، فأما العلم الحقيقي الذي هو الكشفُ والمشاهدةُ بنور البصيرة،  فكيف يكون حجاباً وهو منتهى المطلب،  وهذا التقليد قد يكون باطلاً،  فيكون مانعاً؛  كمن يعتقد في الاستواء على العرش التمكنَ والاستقرارَ،  فإن خطر له مثلاً في القُدُّوس أنه المقدس عن كل ما يجوز على خلقه،  لم يمَكِّنه تقليده من أن يستقر ذلك في نفسه،  ولو استقر في نفسه،  لانجر إلى كشف ثان وثالث ولتواصل،  ولكن يتسارع إلى دفع ذلك عن خاطره؛  لمناقضته تقليده الباطلَ . وقد يكون حقاً ويكون أيضاً مانعاً من الفهم والكشف؛  لأن الحقَّ الذي كُلِّف الخلقُ اعتقادَه له مراتب ودرجاتٌ، وله مبدأ ظاهر وغور باطن،  وجمود الطبع على الظاهر يمنع من الوصول إلى الغَور الباطن، كما ذكرناه في الفرق بين العلم الظاهر والباطن في كتاب  “قواعد العقائد”.

  • ثالثها:  أن يكون مصراً على ذنب أو متصفاً بكبر أو مبتلى في الجملة بهوى في الدنيا مطاع؛ فإن ذلك سببُ ظلمة القلب وصدَئِه،  وهو كالخبث على المرآة،  فيمنع جليَّة الحق من أن تتجلى فيه،  وهو أعظمُ حجاب للقلب،  وبه حُجب الأكثرون، وكلما كانت الشهوات أشدَّ تراكما، كانت معاني الكلام أشدَّ احتجاباً،  وكلما خف عن القلب أثقال الدنيا، قرُب تجلِّي المعنى فيه؛ فالقلب مثلُ المرآة،  والشهواتُ مثل الصدإ،  ومعاني القرآن مثلُ الصور التي تتراءى في المرآة، والرياضة للقلب بإماطة الشهوات مثلُ تصقيل الجلاء للمرآة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ” إذا عظمت أمتي الدينار والدرهم،  نزع منها هيبة الإسلام،  وإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،  حرموا بركة الوحي”[2] قال الفضيل:  يعني حرموا فهم القرآن.[3]

 وقد شرط الله عز وجل الإنابة في الفهم والتذكُّر فقال تعالى (تَبْصِرَةٗ وَذِكْر۪يٰ لِكُلِّ عَبْدٖ مُّنِيبٖ) [ق:8] وقال عز وجل: (وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُّنِيبُ) [غافر:12]، وقال تعالى (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ اُ۬لَالْبَٰبِ) [الرعد:21]، فالذي آثر غرور الدنيا على نعيم الآخرة فليس من ذوي الألباب،  ولذلك لا تنكشف له أسرار الكتاب.

  • رابعها:  أن يكون قد قرأ تفسيراً ظاهراً واعتقد أنه لا معنى لكلمات القرآن إلا ما تناوله النقل عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما،  وأن ما وراء ذلك تفسيرٌ بالرأي،  وأن” من فسر القرآن برأيه فقد تبوأ مقعده من النار”[4] ،  فهذا أيضا من الحجب العظيمة، وسنبين معنى التفسير بالرأي في الباب الرابع،  وأن ذلك لا يناقض[5] قول علي رضي الله عنه: “إلا أن يؤتيَ الله عبداً فهماً في القرآن”،  وأنه لو كان المعنى هو الظاهر المنقول لما اختلفت الناس فيه»

إحياء علوم الدين : 3 / 303 306 ( دار المنهاج )


[1] – رواه أحمد في المسند ( 2/353) في قصة الإسراء مرفوعا.

[2] – رواه ابن أبي الدنيا في ” الأمر بالمعروف” : 37  معضلا من حديث الفضيل بن عياض . ن. تخريج العراقي بهامش الإحياء 3/126 ( دار الفكر).

[3] – قوت القلوب: 1/58

[4] –  العبارة حكي لحديث مشهور رواه الترمذي ( 2951)

[5] – رجح في ط. دار المنهاج الإثبات، مع أن النفي على وفاق السياق.

د.توفيق العبقري

  • مشرف على البحث العلمي بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق